هل يجب على الزوج شرعًا نفقة تجهيز زوجته وتكفينها ودفنها مع قدرته عليها، أو تكون نفقة ذلك في مالها؟ خاصة إذا كان للزوجة تركة.
يجب على الرجل شرعًا نفقةُ تجهيز زوجته من غسلٍ وتكفينٍ ودفنٍ وفق المتعارف عليه دون تبذير في ذلك ولا تقتير، ولا فرق في ذلك بين كونها تركت مالًا أو لم تترك.
المحتويات
لما كانت الصلة بين الزوجين من أعمق الصلات الإنسانية وأدومها وأكثرها أثرًا وتأثيرًا على الإنسان في حياته؛ لم تقتصر الأحكام الشرعية والآثار المتعلقة بها على حال قيام الحياة الزوجية حقيقةً فقط، بل تتبع هذه الصلةَ أحكامٌ لازمةٌ عنها حال انتهائها بالفرقة أو الوفاة؛ كلزوم العدة، والتوارث بين الزوجين، وثبوت النسب وغير ذلك.
بينما ألزم الشرعُ الزوجَ بنفقة زوجته وكسوتها حال حياتها دون تفرقة في ذلك بين يسارها وإعسارها؛ كما قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: 7]؛ فقد ذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية في الصحيح وعليه الفتوى في المذهب، والمالكية في أحد أقوالٍ ثلاثة، والشافعية في الأصح، والحنابلة في رواية: إلى أنه يلزمه أيضًا نفقة تجهيزها ودفنها حال وفاتها، دون النظر إلى كونها تركت مالًا أو لم تترك؛ وذلك لبقاء معنى الزوجية بينهما، فيكون من النفقة الواجبة للزوجة على زوجها بعد موتها، وهو المختار للفتوى.
قال بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (3/ 205، ط. دار الكتب العلمية) في أحكام تكفين الميت: [إن لم يكن له مال: يجب على مَن تجب عليه نفقته في حياته من أقاربه، إلا الزوجة؛ فإنه يجب على زوجها عند أبي يوسف، وعليه الفتوى، وهكذا في "الملتقطات"، و"منية المفتي"، وعامة كتب الفقه. وفي "شرح الفرائض السراجية" لمصنفها: جعله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الأصح في قول الشافعي رضي الله عنه، وبه قال مالك] اهـ.
وقال زين الدين ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 191، ط. دار الكتاب الإسلامي): [استثنى أبو يوسف الزوجة؛ فإن كفنها على زوجها، لكن اختلفت العبارات في تحرير مذهب أبي يوسف؛ ففي "فتاوى قاضي خان"، و"الخلاصة"، و"الظهيرية": وعلى قول أبي يوسف؛ يجب الكفن على الزوج وإن تركت مالًا، وعليه الفتوى اهـ.
وكذا في "المجتبى"، وزاد: ولا رواية فيها عن أبي حنيفة، وفي "المحيط"، و"التجنيس"، و"الواقعات"، و"شرح المجمع" للمصنف: إذا لم يكن لها مالٌ؛ فكفنها على الزوج عند أبي يوسف، وعليه الفتوى؛ لأنه لو لم يجب عليه لوجب على الأجانب وهو بيت المال، وهو قد كان أَوْلَى بإيجاب الكسوة عليه حال حياتها؛ فرجح على سائر الأجانب.. والظاهر: ترجيح ما في "الفتاوى الخانية"؛ لأنه ككسوتها، والكسوة واجبة عليه؛ غنيةً كانت أو فقيرةً، غنيًّا كان أو فقيرًا، وصححه الولوالجي في "فتاواه" من النفقات] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 206، ط. دار الفكر): [(قوله: واختلف في الزوج) أي: في وجوب كفن زوجته عليه، (قوله: عند الثاني) أي: أبي يوسف، وأما عند محمد: فلا يلزمه؛ لانقطاع الزوجية بالموت، وفي "البحر" عن "المجتبى": أنه لا رواية عن أبي حنيفة، لكن ذكر في "شرح المنية" عن "شرح السراجية" لمصنفها: أن قول أبي حنيفة كقول أبي يوسف (قوله: وإن تركت مالًا إلخ) اعلم أنه اختلفت العبارات في تحرير قول أبي يوسف؛ ففي "الخانية"، و"الخلاصة"، و"الظهيرية": أنه يلزمه كفنها وإن تركت مالًا، وعليه الفتوى.. والذي اختاره في "البحر" لزومه عليه؛ موسرًا أو لا، لها مالٌ أو لا؛ لأنه ككسوتها، وهي واجبةٌ عليه مطلقًا. قال: وصححه في نفقات "الولوالجية" اهـ. قلتُ: وعبارتها: إذا ماتت المرأة ولا مال لها؛ قال أبو يوسف: يُجبَر الزوجُ على كفنها، والأصل فيه: أنَّ مَن يُجبَر على نفقته في حياته؛ يُجبَر عليها بعد موته، وقال محمد: لا يُجبَر الزوج، والصحيح: الأول اهـ. فليتأمل] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد الجد المالكي في "البيان والتحصيل" (2/ 252، ط. دار الغرب الإسلامي): [اختلف في وجوب كفن الزوجة على الزوج على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجب على الزوج مليئة كانت أو معدمة، وهي رواية عيسى هذه. والثاني: أنه يجب عليه مليئة كانت أو معدمة، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنه يجب إن كانت معدمة، ولا يجب عليه إن كانت مليئة، وهو قول مالكٍ في رواية ابن الماجشون عنه.. وجه القول الثاني: أن الكفن تابع للنفقة؛ لأن ذلك من توابع الحياة] اهـ.
وقال نور الدين أبو الحسن ابن خلف المنوفي المالكي في "كفاية الطالب الرباني" (2/ 136، ط. دار الفكر، مع "حاشية العدوي"): [(واختلف في كفن الزوجة.. (وقال) مالك في "الواضحة" و(عبد الملك) -قيل: هو ابن حبيب، وقيل: هو ابن الماجشون-: هو (في مال الزوج) وإن كانت غنية؛ لأن علاقة الزوجية باقية، بدليل أنه يغسلها ويطلع على عورتها، والموارثة قائمة بينهما] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (5/ 189، ط. دار الفكر): [إذا ماتت مزوجة؛ فهل يلزم الزوج كفنها؟ فيه وجهان؛ (أصحهما) عند جمهور الأصحاب: يجب على زوجها. ممَّن صححه المصنف هنا، وفي "التنبيه"، والمحاملي في كتابيه "المجموع" و"التجريد"، والرافعي، وقطع به المحاملي في "المقنع"] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 308، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وكذا) عليه تجهيز (زوجة نفسه ولو أيسرت) أو كانت رجعيةً أو بائنًا حاملًا؛ لوجوب نفقتها عليه في الحياة] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 17، ط. دار الكتب العلمية): [(وكذا) محل الكفن أيضًا (الزوج) الموسر الذي يلزمه نفقتها؛ فعليه تكفين زوجته حرة كانت أو أمة مع مؤنة تجهيزها وتجهيز خادمها (في الأصح)؛ لأنها في نفقته في الحياة.. سواء أكانت زوجته موسرة أم لا، وبما تقرر عُلم أن جملة (وكذا الزوج) عطف على جملة (ومحله أصل التركة)، فسقط بذلك ما قيل: إن ظاهره يقتضي أن وجوب الكفن على الزوج إنما هو حيث لم يكن للزوجة تركة، وهو خلاف ما في "الروضة" كأصلها] اهـ.
وقال برهان الدين ابن مفلح الحنبلي [ت: 884هـ] في "المبدع في شرح المقنع" (2/ 244، ط. دار الكتب العلمية): [(إلا الزوج؛ لا يلزمه كفن امرأته) نص عليه؛ لأن النفقة والكسوة وَجَبَا بالزوجية والتمكن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت؛ أشبه ما لو بانت في الحياة، أشبهت الأجنبية، ودليل الانقطاع: إباحة أختها وأربع سواها، وقيل: بلى، وحكي رواية؛ وهي قول أكثر العلماء] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 510، ط. دار إحياء التراث): [(إلا الزوج؛ لا يلزمه كفن امرأته).. وقيل: يلزمه، وحكي رواية] اهـ.
وقد ناسب قول جمهور الفقهاء بلزوم نفقة تجهيز الزوجة على الزوج: ما حث عليه الشرع الشريف مِن وجوب إكرام الميت، مع خصوص الأمر بإكرام الزوج زوجتَه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، وفي روايةٍ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» أخرجهما ابن ماجه في "السنن".
وممَّا يتبع هذه الخيرية ويتمّمها ويؤكدها: أن يكون كريمًا معها وبارًّا بها حال وفاتها وضعفها كما كان معها حال حياتها؛ إذ إن عزوف الزوج عن آخرِ ما يَلزم زوجتَه مِن أمور الدنيا -كالغسل والكفن ومؤنة الدفن- لا يناسب ما كان بينهما في الحياة الزوجية الهانئة المستقرة مِن مقام الفضل وما يترتب عليه من معاني البذل والتراحم والتفاني، وكذا بقاء أثر الزوجية في اختصاصه بحملها والدخول عليها وجواز تغسيلها.
ويُضاف إلى ما سبق: أنه لَمَّا كان من إكرام الميت: تجهيزه، ودفنه، والمبالغة في العناية به حال مغادرته الحياة الدنيا؛ فإن أولى الناس بإكرام الزوجة والعناية بها عند موتها: هو زوجُها، والإكرام لا يتوقف على الحاجة أو الفقر، بل هو مقصود لذاته دون النظر لحال المكرم فقرًا أو غنًى.
وممَّا يجدر الإشارة إليه: أن ما يلزم الزوج من نفقة تجهيز زوجته هو ما يكون متعارفًا عليه دون تقتير أو تبذير، وأما ما يزيد على ذلك فلا يلزمه إلا أن يفعله متطوعًا.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 206): [اعلم أنَّ الواجب عليه تكفينُها وتجهيزُها الشرعيان؛ مِن كفن السُّنة أو الكفاية، وحنوطٍ، وأجرةِ غسلٍ وحملٍ ودفنٍ] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فيجب على الرجل المذكور شرعًا نفقةُ تجهيز زوجته من غسلٍ وتكفينٍ ودفنٍ وفق المتعارف عليه دون تبذير في ذلك ولا تقتير، ولا فرق في ذلك بين كونها تركت مالًا أو لم تترك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.