هل صحيح ما يتردد في هذه الأيام عن جواز معاشرة الزوجة بعد وفاتها؟ وهل في كتب التراث ما يبيح ذلك؟
جماع الرجل زوجتَه بعد موتها هو فعلٌ تأباه العقولُ السليمةُ والفِطَرُ المستقيمةُ، وتَنفِرُ منه الطِّبَاعُ السوية، وقد نص الفقهاء على حرمته شرعًا، وأنه من كبائر الذنوب، يستحق مرتكبُهُ العقاب والتأديب.
وورود هذه المسألة في كتب التراث إنما هو على جهة فرض حصولها لبيان الآثار المترتبة عليها؛ من العقوبة ونحوها، والفقهاء إذ تحدثوا فيها من هذه الوجهة استبعدوا حدوثها من إنسانٍ عاقلٍ صاحب فطرةٍ سوية؛ تمامًا كما تكلّموا -مثلًا- عن حكم طلاق السكران؛ فلا يدِّعي عاقلٌ أن في كلامهم هذا إشارةً إلى جواز شرب المسكِر، أو نحو ذلك مما لا يرتضيه إلا جاهلٌ بالشريعة وعلومها.
المحتويات
راعى الإسلام الغرائز الفطرية في الإنسان؛ فلم يكبتها، ولم يُقِم أمر الدين على الرهبانيَّة، وفي ذات الوقت شرع الزواج ورفع شأنه؛ لينأى بالبشر عن استغلال الغريزة واللُّهاث خلف الشهوة، وليقرر كرامة الأنثى ويُعلِيَ شأنها، فأقام العلاقة الزوجية على المودة والرحمة، وأباح أمر الاستمتاع بالمعاشرة بين الزوجين، وجعله حقًّا للزوجين ما دامت العلاقة الزوجية قائمة، ويزول هذا الحق بأي فُرقةٍ من فُرَق النكاح.
ومن فُرَق النكاح: الموتُ فهو سببٌ طَبْعي قاطعٌ لتلك العلاقة، وبحصوله تظهر حقوقٌ جديدة، أو تتعجل حقوقٌ مؤجلة؛ كمؤخر الصداق، والإرث، وجواز الزواج بخامسة إذا كانت الزوجة المتوفاة رابعة أربعة، وحلِّ الزواج بأختها، بعد أن كان ذلك محظورًا في حياتها، بشرط انتهاء مدة التربص للزوج في الحالتين؛ وذلك لما تقرر من حرمة الجمع بين خمس زوجات أو أختين.
فمتى توفيت الزوجة لم يعد من حقِّ زوجها الاستمتاع بجسدها أو حبسه ولو لوقتٍ وجيزٍ من أجل أن يقضي منها وطره وشهوته، ويحرم عليه شرعًا وَطْؤُها، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك؛ لانقطاع الزوجية، وكون المرأة لم تَبْق محلًا للجماع بعد الموت؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (3/ 484، ط. دار الفكر): [الميتة لم تَبْقَ زوجةً] اهـ.
وفي "الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة" للعلامة سراج الدين الغزنوي الحنفي (ص: 46، ط. مؤسسة الكتب الثقافية) قال: [المرأة لم تبق محلًّا للنكاح بعد موتها؛ فلم تبق الزوجية.. والدليل على أن النكاح ارتفع بموتها: صحةُ التزويج بأختها وأربعٍ سواها] اهـ.
ونصَّ المالكية على حرمة هذا الفعل، وإن لم يُقَمْ على الزوج الحدُّ، وأن على الحاكم أن يؤدبه ويزجره؛ قال العلامة الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (9/ 246، ط. دار الفكر): [فلا يُحَدُّ إن وطئ زوجته بعد موتها وإن حَرُم، نعم يُؤَدَّب] اهـ ملخصًا.
وهو ما يدلُّ عليه كلامُ الشافعية؛ حيث يعدون الإنسان بعد وفاته ذكرًا كان أو أنثى مَحْرَمًا مُحَرَّمًا على الحي، وإن بقيت بعض آثار الزوجية؛ قال الشيخ الجمل الشافعي في "حاشيته على شرح المنهج" (4/ 180، ط. دار الفكر) في "باب ما يحرم من النكاح" -ناقلًا عن شيخ الإسلام أبي حامد الغزالي-: [الزوجة تُنزل بعد موتها منزلة المَحْرَم] اهـ.
فعُلِمَ من ذلك أن منزلة الزوج من زوجته المتوفاة عنه بمنزلة الأخ من أخته من جهة حرمة الوطء.
ونصَّ على حرمة ذلك أيضًا الحنابلة؛ فقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (8/ 308، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال القاضي في جواب مسألة: ووطء الميتة مُحَرَّمٌ] اهـ، بل عدّ شيخ الإسلام ابنُ حجرٍ الهيتميُّ الشافعي هذا الفعلَ من كبائر الذنوب؛ فقال في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 236، ط. دار الفكر): [الكبيرة الرابعة والستون بعد الثلاثمائة: وطء الزوج لزوجته الميتة] اهـ مختصرًا.
بالإضافة إلى أن هذا الفعل الشنيع والجريمة النكراء تأباه العقول السليمة والفطر المستقيمة، وتنفر منه الطباع السوية، وتمجه الأسماع النقية، حتى إن البهائم تَسْتَنْكِفُهُ، فكيف بالإنسان المكرم في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].
كما أن هذا الفعل المقزز يتعارض مع مقاصد التشريع الإسلامي في مقتضيات مصيبة الموت وما يترتب عليه من إجراءات تكريم الميت وسرعة تجهيزه بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه ودفنه والحزن على مفارقته وما حلَّ به من مصيبة الموت، وأخذ العظة والاعتبار، والحذر من الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها؛ فعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغْلًا» أخرجه الإمام البيهقي في "شعب الإيمان".
وأخرج الإمام أبو نعيم في "الحِلية" عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه كَانَ إِذَا رَأَى جَنَازَةً قَالَ: "اغْدُوا فَإِنَّا رَائِحُونَ، أَوْ رُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ، كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، يَذْهَبُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَيَبْقَى الْآخِرُ لَا حِلْمَ لَهُ".
هذا من جهةِ الشَّرع والطَّبع.
ومن جهةٍ أخرى نجد علماء النفس يعُدُّون الانجذاب الجنسي إلى الجثث نوعًا من الشذوذ الجنسي الناتج عن مرضٍ نفسيٍّ يسمى بــــ "النيكروفيليا- Necrophilia"، وأن فاعله ممن يتمتعون بشخصية سايكوباتيَّة غير سويَّة، وأهم دوافع هذا السلوك: - إرادة الحصول على شريكٍ غير قادرٍ على المقاومة.
- أو تقوية الثقة بالنفس بأشخاص لا يملكون القدرة على المقاومة.
- أو الاتحاد والتواصل مع شريكٍ جنسيٍّ سابق.
- أو الانجذاب الجنسي نحو الجثث.
- أو التغلب على الانطواء والعزلة، انظر: "تشريح نزوع الإنسان إلى التَّدمير- The Anatomy of Human Destructiveness" لعالم النفس والفيلسوف الإنساني إريك فروم (Erich Fromm).
أما ورود هذه المسألة في كتب التراث: فإنها لم تأتِ في مَعْرِضِ الحديث عن حِلِّ الاستمتاع، ولكن جاءت في مباحث أخرى كثيرة لعلاج تشعبات هذا الفعل على فرض حصوله والآثار المترتبة عليه برؤيةٍ شاملةٍ حكيمةٍ من فقهاء المسلمين الأجلّاء؛ لذا نجد أنهم إذ يتكلمون عن أمثال هذه المسائل، يستبعدون حدوثها من إنسانٍ عاقلٍ صاحب فطرةٍ سوية؛ تمامًا كما تكلّموا -مثلًا- عن حكم طلاق السكران؛ فلا يدِّعي عاقلٌ أن في كلامهم هذا إشارةً إلى جواز شرب المسكِر، أو نحو ذلك مما لا يرتضيه إلا جاهلٌ بالشريعة وعلومها.
فمن ذلك وُرُودُ هذه المسألة في "مبحث العقوبات" في سياق الكلام عن العقوبة فيها؛ هل هي الحدُّ كالزنا، أم التعزير الذي يخضع لتقدير القاضي.
وَوُرُودُها في "مبحث الطهارة" في سياق الكلام عن الغسل على فرض حصول هذه الفعلة الشنيعة النَّكراء؛ هل يجب على الفاعل الغسل؟ وهل يجب إعادة غسل المتوفى؟ وهَلُمَّ جَرّا.
بناءً على ما سبق: فإن جماع الرجل زوجتَه بعد موتها أمرٌ محرمٌ شرعًا، بل هو من كبائر الذنوب، يستحق مرتكبُهُ العقاب والتأديب، علاوةً على أنه فعلٌ تأباه العقولُ السليمةُ والفِطَرُ المستقيمةُ، وتَنفِرُ منه الطِّبَاعُ السوية.
والله سبحانه وتعالى أعلم