هل يجوز الاعتكاف في البيت بسبب كورونا؟ ففي ظل ما يعانيه معظم بلاد العالم من (فيروس كوفيد-19) والإجراءات الاحترازية التي قامت بها الدولة، ومنها غلق دور العبادة حفاظًا على حياة الناس؛ تعالت أصوات تنادي بصحة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان في البيوت السكنية. فنرجو من سيادتكم توضيح مدى صحة اعتكاف العشر الأواخر من رمضان في البيوت، وهل للاعتكاف مدة زمنية محددة شرعًا؟
لا يصح شرعًا اعتكاف الرَّجُل في غير المسجد -كالبيوت السكنية-، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة في عصرنا الحاضر، وما ذهب إليه السادة الحنفية من جواز وأفضلية اعتكافها في مسجد بيتها -وهو المكان المُعَدُّ لصلاتها الذي يستحب لها اتخاذه- إنما كان مبناه على العرف والعادة بناءً على أزمنةٍ اقتضت أعرافُها وعاداتُها ذلك، كما أَنَّ اللبث في المسجد ركنٌ لا يصح الاعتكاف بدونه، وأقل مدةٍ لهذا اللبث هي ما يزيد على مقدار الطمأنينة في ركعةٍ أو سجدةٍ، أَمَّا مجرد المرور على المسجد فلا يسَمَّى اعتكافًا.
وعلى المسلم أن لا يَحْزَن ويخاف مِن ضياع الأجر في فوات سُنَّة الاعتكاف في زمن الوباء؛ لأنَّ الأجر حاصلٌ وثابتٌ حال العُذْر، بل التَعبُّدُ في البيت حال تَفَشِّي الوباء يوازي أجر التَعبُّدِ في المسجد.
المحتويات
الاعتكاف في اللغة: افتعالٌ، مِن عَكَف على الشيء؛ إذا لازمه وواظب عليه؛ قال تعالى: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَﱠ﴾ [الأنبياء: 52]، ويقال: عكفتُ الشيء؛ أي: حبسته؛ قال تعالى: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25]، ومنه: الاعتكاف؛ لأنه حبس النفس عن التصرفات العادية. "المصباح المنير" للفيومي (2/ 424، ط. المكتبة العلمية).
والاعتكاف شرعًا هو: اللبث في المسجد على صفةٍ مخصوصةٍ بنيةٍ. "فتح القدير" لابن الهمام (2/ 305، ط. دار إحياء التراث)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 186، ط. مكتبة القاهرة).
قد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنَّه لا يصح اعتكاف الرَّجُل إلَّا في المسجد؛ وذلك لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: ١٨٧].
فالآية دالة على اشتراط المسجد في صحة الاعتكاف؛ وذلك لأنَّه لو صحَّ الاعتكاف في غيرِ المسجد لم يختَصَّ تحريمُ المباشرةِ به؛ وذلك لأنَّ إتيان الرجل المرأة ينافي الاعتكاف إجماعًا، فعُلِمَ مِن تخصيص ذكر المساجد أنَّ الاعتكاف لا يكونُ إلَّا فيها. "شرح الزرقاني على الموطأ" بتصرف يسير (2/ 306، ط. مكتبة الثقافة الدينية).
وعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "وإن كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم لَيُدْخِلُ عليَّ رأسَه وهو في المسجِدِ، فأُرَجِّلُهُ، وكان لا يدخُلُ البيتَ إلَّا لحاجةٍ إذا كان مُعتَكِفًا" متفق عليه، واللفظ للبخاري.
يقول العَلَّامة ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (2/ 226، ط. دار النشر): [وقد يستدل بهذه الأحاديث على أَنَّ المسجد شرط في الاعتكاف من حيث إنَّه قصد لذلك، وفيه مخالفة العادة في الاختلاط بالناس لا سيما النساء، فلو جاز الاعتكاف في البيوت لما خالف المقتضى؛ لعدم الاختلاط بالناس في المسجد وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخِلْقة] اهـ.
وقد نَقَل الإجماع على اشتراط المسجد في صحة الاعتكاف للرَّجُل: ابن عبد البر والقرطبي المالكيان، وابن قدامة الحنبلي، وغيرهم من العلماء. "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 385، ط. دار الكتب العلمية)، و"تفسير القرطبي" (2/ 333، ط. دار الكتب المصرية)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 189، ط. مكتبة القاهرة).
وصفة المسجد الذي يشترط في صحة اعتكاف الرَّجُل: هو المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس، ولكن المسجد الذي تقام فيه الجمعة أفضل، وعلى هذا اتفاق المذاهب الأربعة.
يقول العلامة البابرتي في "شرحه على الهداية" (2/ 393، ط. دار الفكر): [(ثم الاعتكاف لا يصحّ إلا في مسجد الجماعة) هذا أيضًا من شروط جوازه، ومسجد الجماعة هو الذي يكون له إمام ومؤذن أُدِّيت فيه الصلوات الخمس أو لا] اهـ.
وقال شمس الدين الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 455، ط. دار الفكر) في شرحه لقول خليل في باب الاعتكاف: [(ومسجد)؛ قال: ص: (ومسجد) ش: أي: في صحته بمطلق مسجد، أي: مسجد مباح. قال ابن رشد: وأما الاعتكاف في مساجد البيوت فلا يصح عند مالك لرجل ولا امرأة] اهـ.
وقال الإمام النووي في "الروضة" (2/ 398، ط. المكتب الإسلامي): [الركن الرابع: المُعْتَكَف فيه، وهو المسجد؛ فيختص بالمساجد، ويجوز في جميعها، والجامع أولى] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 351، ط. المكتبة العلمية): [(ولا يصح) الاعتكاف (من رجل تلزمه الصلاةُ جماعةً إلا في مسجدٍ تقام فيه) الجماعةُ، فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف] اهـ.
هذا بالنسبة للرَّجُل؛ أَمَّا المرأة فقد اختلف الفقهاء في اشتراط المسجد لصحة اعتكافها؛ فيرى جمهور الفقهاء أنَّ المرأة كالرَّجُل في اشتراط المسجد لصحة اعتكافها، وذلك على صفة المسجد السابق ذكرها، أي: المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس.
بينما يَرَى الحنفية أنَّه لا يشترط المسجد لصحة اعتكاف المرأة، فلها أن تعتكف في مسجد بيتها –وهو: المكان المُعَدُّ لصلاتها الذي يستحب لها اتخاذه-، واعتكافها في مسجد بيتها هو الأفضل في حقها.
يقول العلامة ابن الهمام في "فتح القدير" (2/ 394): [(قوله: أمّا المرأة فتعتكف في مسجد بيتها)، أي: الأفضل ذلك، ولو اعتكفت في الجامع أو في مسجد حيِّها وهو أفضل من الجامع في حقها جاز] اهـ.
واستدل الحنفية على جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها: أنَّه أشد الأماكن سترًا لها، كما أنَّ بيتها هو الموضع الذي تكون فيه صلاتها أولى وأفضل؛ كما بَيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» رواه أبو داود في "السنن".
و«المَخْدَع» -وزان مَفْعَل-: يُطْلَق على الخزانة في البيت التي تُحْفَظ فيه الأمتعة النفيسة، أو على البيت الصغير في البيت الكبير كالحُجْرة. "النهاية في غريب الأثر" لابن الأثير (2/ 250، ط. المكتبة العلمية).
واستدلال الحنفية على جواز اعتكاف المرأة في بيتها لا يجري على سَنَن القياس، بل هو استحسان مبناه العُرْف، وإلَّا فالقياس الذي تقتضيه الأدلة الشرعية هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اشتراط المسجد في صحة الاعتكاف؛ إلَّا أن الحنفية خالفوا ذلك لمعنى كمال الاستتار الذي هو لصيق بالمرأة.
ويُشْبِه ذلك ما قالوه أيضًا في خروج النساء للصلاة في المسجد؛ حيث ذهب الحنفية في المنقول عنهم إلى الحكم بكراهة خروج النساء للمساجد؛ مستدلين في ذلك بقول أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: "لو أدرك رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحدَثَ النساءُ لَمَنَعَهُنَّ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيل" متفق عليه، وذلك على خلافٍ بين متقدميهم ومتأخريهم في تفسير هذه الكراهة.
وتحقيق القول: أَنَّ الحنفية بَنَوْا مسألة أفضلية اعتكاف المرأة في بيتها على العُرف والعادة، بناء على أزمنةٍ اقتضت أعرافُها وعاداتُها ذلك؛ وتمشيًا مع ذلك ومع تَغَيُّر الأعراف والعادات في عصرنا، فالذي تقتضيه قواعد المذهب الحنفي وينبغي اعتمادُه في هذا الزمان هو ما عليه الجمهور من اشتراط المسجد في صحة الاعتكاف، وذلك لأنَّ المساجد التي يُصَرَّح فيها بالاعتكاف من قِبَل ولي الأمر الآن يُخَصَّص للنساء فيها مكان مناسب لصلاتهن فيه، ولا معنى للتَمَسُّك بكمال الاستتار في حق المرأة وغالب النساء في عصرنا قد خرجن من بيوتهن للمشاركة بفاعلية وكفاءة في مجالات الحياة المختلفة، وما دمن قد خرجن فعلًا فلا معنى لبقاء أفضلية اعتكافها في بيتها.
أمَّا عن المدة الزمنية للاعتكاف: فالدلالة اللغوية لكلمة الاعتكاف تشير إلى مطلق ملازمة الشيء سواء كان ذلك لوقتٍ قليلٍ أو كثيرٍ -ينظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 424)-، وقد وَرَد ذكر الاعتكاف في نصوص الشرع بصورة مطلقة، ولم يقيده الشرع بمقدار زمني محدد، فبقي على أصله في الإطلاق يقع على ملازمة المسجد والإقامة فيه لوقتٍ قليلٍ أو كثيرٍ.
يقول العلامة ابن الهمام في "فتح القدير" (2/ 392): [الاعتكاف لم يقدّر شرعًا بكمية لا يصحّ دونها كالصوم، بل كل جزء منه لا يفتقر في كونه عبادة إلى الجزء الآخر] اهـ.
وقد ورد في السنة ما يدل على عدم تقييد مشروعية الاعتكاف بمدةٍ زمنيةٍ معينةٍ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. متفق عليه.
وورد أيضا إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالاعتكاف ليلة كان قد نذرها قبل إسلامه، بل وأمره بالوفاء بنذره فيما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفِ نَذْرَكَ»، فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً.
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 274-275، ط. دار المعرفة): [فدل على أنه لم يزِد على نذره شيئًا، وأن الاعتكاف لا صوم فيه، وأنه لا يشترط له حد معين.. وفي الحديث أيضًا ردّ على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم] اهـ.
وعلى ذلك: فكلما تحقَّقت الملازمة والإقامة تحقَّقت ماهية الاعتكاف وحقيقته اللغوية، أَمَّا حقيقته الشرعية –والتي هي: اللبث في المسجد على صفةٍ مخصوصةٍ بنيةٍ-؛ فإنها تتحقق إذا اجتمعت مع تلك الملازمة شروطه وأركانه الشرعية وانتفت الموانع، والقاعدة الأصولية في المطلق: "أنه يحمل على إطلاقه ما لم يتطرق إليه التقييد".
ومع أَنَّ الدلالة اللغوية للاعتكاف في مكانٍ ما لا تشير إلى مقدارٍ زمنيٍ مَحدَّد، إلا أنَّها تشير إلى الحبس واللبث والإقامة فيه بنحو سكونٍ أو تَردُّدٍ في أرجائه؛ أَمَّا مجرد المرور في المكان فإنه لا يعتبر حبسًا ولا اعتكافًا؛ لأنه محذور على الجنب، وقد أجاز الشرع له العبور من خلال المسجد دون المكث أو الإقامة فيه؛ فدَلَّ على أَنَّ المرور في المسجد لا يعتبر إقامة ولا اعتكافًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ [النساء:43].
وقد رجّح الإمام الطبري في تفسير الآية أَنَّ المراد: لا تقربوا المساجد، وذلك بعد أَنْ روى الكثير من آثار الصحابة والسلف التي تفسر عبور السبيل للجنب بأنه المرور في المسجد للحاجة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قال: "لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه، فتمرَّ مارًّا ولا تجلس". وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، قال: "هو الممرُّ في المسجد". "تفسير جامع البيان" للإمام الطبري (8/ 382، ط. مؤسسة الرسالة).
وعلى هذا: فالاعتكاف لا يصحّ شرعًا ما لم يكن فيه حبسٌ للنفس على طاعة الله تعالى في المسجد، وأقل مظاهر العبادة التي بني المسجد أصالة لإقامتها والتي تحبس فيها النفس هو ركعة أو سجدة مطمئنة، ولهذا فأقل مدة للاعتكاف الصحيح شرعًا لا بد أن تزيد عن مقدار طمأنينة ركعة أو سجدة لتتميز أقل أجزاء عبادة الاعتكاف بظهور مكث زائد عن مكث أقل أجزاء الصلاة؛ إذ إن المكث مقصود بالذات في الاعتكاف، بينما هو مقصود بالعَرَض في الصلاة، وما بالذات لا بد وأن يكون له فَضْل عما بالعَرَض.
قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (4/ 82، ط. دار المنهاج): [وإن قلنا: لا بد من لُبث، لم يكفِ فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛ فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض منها، انفصالُ آخرِ حركةِ الهُويِّ عن أولِ حركة الرفع عن الركوع، وكأن الغرض تحصيلُ صورة الركوع، مع فصله عما قبله وبعده. وأما هذه القُربة -يعني الاعتكاف-، فشرط تصويرها عند هذا القائل المُكث، فليكن محسوسًا] اهـ.
وقال الإمام النووي في "الروضة" (2/ 391): [وإن اعتبرنا اللبث لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في الصلاة، بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفًا وإقامة، ولا يعتبر السكون، بل يصح اعتكافه قائمًا أو قاعدًا أو مترددًا في أطراف المسجد] اهـ.
وقد اختلفت مذاهب الفقهاء حول تَوقُّف صحة الاعتكاف على اللبث في المسجد، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: في ركنية اللبث.
الجهة الثانية: في مقداره بعد التسليم بالركنية.
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن اللبث ركن لا يصحّ الاعتكاف بدونه -على خلافٍ بينهم في مدة اللبث-. ينظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 550)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 191، ط. دار الكتب العلمية)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 347).
بينما ذهب بعض الشافعية -خلافًا للأصح من مذهبهم- إلى أنَّه يكفي مجرد الحضور والمرور من غير لبث أصلًا، وقاسوا ذلك بإجزاء الحضور والمرور في الوقوف بعرفات.
قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 514، ط. المنيرية): [وبه قطع البندنيجي. قال إمام الحرمين: وعلى هذا الوجه يحصل الاعتكاف بالمرور حتى ولو دخل من باب وخرج من باب ونوى فقد حصل الاعتكاف، وعلى هذا لو نذر اعتكافًا مطلقًا خرج عن نذره بمجرد المرور] اهـ.
والراجح في هذا هو قول الجمهور؛ إذ لفظ الاعتكاف مُشْعِر بالحبس والإقامة كما سبق، والمَارُّ في الطريق ونحوه لا يقال له معتكفًا.
على الرغم مِن اشتراط الفقهاء المسجد لصحة الاعتكاف وعدم صحة الاعتكاف في البيوت السكنية؛ إلَّا أنَّ الأجر والثواب حاصلٌ وثابتٌ للمسلم المداوم على سُنَّة الاعتكاف أو الذي كان ينوي فعلها، لكنه عَدَل عنها لوجود العذر؛ فروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قالوا: يا رسول الله، وهُم بالمدينة! قال: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّ للمعذور مِن الأجر مثل ما للقوي العامل؛ لأنهم لما نووا الجهاد وأرادوه وحبسهم العذر كانوا في الأجر كمن قطع الأودية والشعاب مجاهدًا بنفسه.
وروى البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا».
وفي رواية: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ، كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك"، وصَحَّحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أيضًا.
فالأجر لا يقتصر على حصول العبادة بالفعل، بل بنيتها أيضًا، ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، والبيهقي في "الشعب".
فعلى المؤمن أَنْ يَعْلَم أنَّ تَعبُّدَه في بيته في هذا الوقت يوازي في الأجر تَعبُّدَه في المسجد، بل يزيد على تَعبُّدِه في المسجد؛ وذلك لأنَّ هذا هو واجب الوقت الآن لا سيما مع تَفَشِّي الوباء القاتل الذي ذهب ضحيتَه آلافُ البشر، وانتشر في عشرات البلدان، وهو فيروس (كوفيد-19)، كما أنَّ فيه معنى الصبر على هذا البلاء والثبات والالتزام بالتعليمات من قبل الجهات المختصة، وهذا سببٌ لتكفير سيئات المؤمن ورفع درجاته.
بناءً على ذلك: فإنَّ المسجد الذي تقام فيه الصلوات الخمس شرطٌ لصحة اعتكاف الرَّجُل، ولكن المسجد الذي تقام فيه الجمعة أفضل، فلا يصح الاعتكاف في غير المسجد كالبيوت السكنية، ومذهب الحنفية في جواز وأفضلية اعتكاف المرأة في بيتها مبناه على العرف والعادة بناءً على أزمنةٍ اقتضت أعرافُها وعاداتُها ذلك؛ أما في عصرنا الحاضر ومع مشاركة المرأة بفاعلية وكفاءة في المجالات المختلفة فالقول باشتراط المسجد لصحة اعتكافهن أَرْجُح وأَوْفَق، كما أَنَّ اللبث في المسجد ركنٌ لا يصح الاعتكاف بدونه، وأقل مدةٍ لهذا اللبث لا بد أن تزيد عن مقدار طمأنينة ركعةٍ أو سجدةٍ، أَمَّا مجرد المرور على المسجد فإنه لا يعتبر حَبْسًا ولا يُسَمَّى اعتكافًا.
وعلى المسلم أن لا يَحْزَن ويخاف مِن ضياع الأجر في فوات سُنَّة الاعتكاف هذا العام؛ وذلك لأنَّ الأجر حاصلٌ وثابتٌ حال العُذْر، بل إنَّ التَعبُّدَ في البيت في هذا الوقت الذي نعاني فيه من تَفَشِّي الوباء يوازي في الأجر التَعبُّدَ في المسجد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.