ما حكم إقامة صلاة الجمعة في البيت؟ خاصَّة في هذه الآونة التي ارتأت الجهات المتخصصة تعليقَ صلاةِ الجمعة فيها؛ عملًا بالإجراءات الاحترازية والأساليب الوقائية لمواجهة فيروس كورونا والحد من انتشاره.
الشأنُ في إقامة الجمعة أنها منوطةٌ بتنظيم الإمام وإذنه العام حسمًا لمادة الفتنة، وسدًّا لذريعة المنازعة؛ لما فيها من السلطة الأدبية، ومع اختلاف الفقهاء في اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة، إلا أنهم اتفقوا على اشتراطه إذا كان في ترك استئذانه استهانةٌ بولايته أو افتياتٌ على سلطته، فإذا قرر الإمام تعليق إقامة الجمعة وجب الالتزام بأمره، وعلى المسلم حينئذ أن يصلي في بيته ظهرًا.
المحتويات
إقامة الجمعة من الولايات التي جعلتها الشريعة مِن شأن السلطان، بحيث إنَّ إذنَه معتَبَرٌ في إقامتها؛ فإن صلاة الجمعة مِن لدن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصور الصحابة والتابعين ومَن بعدهم مِن الأئمَّة المتبوعين لم تكن تقام إلا بإذن السلطان، ونصوص الصحابة والتابعين على أن إقامة الجمعة مِن شأن الإمام الذي لا يُنازَعُ فيه، وبذلك جَرَتِ السُّنَّةُ وعليه انعقد الإجماع، غير أن بعضَهم يجعله شرطَ صحة، وبعضهم يجعله حقًّا أدبيًّا لولي الأمر تصحُّ الصلاة بدونه، واختلفوا فيما إذا حال حائلٌ دون إذنه كبُعْدٍ وعَزْلٍ ونحوهما؛ فالقائلون بعدم الاشتراط نظروا إلى الحوادثِ الطارئة، وعُسْرِ الاستئذان التفصيلي في كل جمعةٍ؛ ولذلك اختلفوا هل هو واجب أو مستحب، والجمهور على عدم الاشتراط وعدم الإيجاب؛ لأنه "إذا ضاق الأمرُ اتَّسَعَ"، لكنهم جميعًا لا يختلفون في أن إقامةَ الجمعة مِن شأن السلطان، ولا يختلفون في تحريم منازعة الإمام في حقِّ إقامتها لِمَا في ذلك من الافتيات عليه، وذلك ذريعة للفتنة.
فجاءت السنة النبوية الشريفة بمشروعية استئذان ولي الأمر في إقامة صلاة الجمعة:
فروى عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 161) عن معمر، عن الزهري: أن مسلمة بن عبد الملك كتب إليه: "إني في قرية فيها أموالٌ كثير، وأهلٌ وناسٌ، أفأُجَمِّعُ بهم ولستُ بأمير؟، فكتب إليه الزهري: إن مصعب بن عُمَيْر رضي الله عنه استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُجَمِّع بأهل المدينة، فأذن له، فجمَّع بهم وهم يومئذ قليلٌ؛ فإن رأيتَ أن تكتب إلى هشامٍ حتى يأذن لك فافعل".
وجرى على ذلك الصحابة والتابعون والسلف الصالحون: قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "لا جماعةَ يومَ جمعةٍ إلا مع الإمام" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وروى أبو أحمد بن زنجويه في كتاب "الأموال"، وابن حزم في "المحلَّى": عن أبي عبد الله رضي الله عنه -رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "الزكاةُ والحدودُ والفيءُ والجمعةُ إلى السلطان".
قال الإمام الطحاوي الحنفي في "مختصر اختلاف العلماء" (3/ 299، ط. دار البشائر): [ولا نعلَم عن أحد مِن الصحابة خلافَه] اهـ.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال" عن عبد الله بن مُحَيْرِيزٍ قال: "الحدودُ والفيءُ والجمعةُ والزكاةُ إلى السلطان".
وروى ابن زنجويه في "الأموال" عن الحسن البصري، أنه كان يقول: "أربعٌ لا تَصْلُحُ إلا بإمام: الحدود، والقضاء، والجمعة، والزكاة".
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" عن عطاءٍ الخُرَاساني، قال: "إلى السلطانِ الزكاةُ والجمعةُ والحدودُ".
ونقل الإمام القرطبي في أحكام القرآن (5/ 259، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام سهل بن عبد الله التُّستَري رحمه الله تعالى أنه قال: [أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد] اهـ.
وقال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 25، ط. دار المعرفة): [قال: والسلطان من شرائط الجمعة عندنا.. ولنا ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه: «وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ»، فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمامَ لإلحاقه الوعيد بتارك الجمعة، وفي الأثر: أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ: مِنْهَا الْجُمُعَةُ، ولأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة، ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة؛ لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع فيقيمونها لغرض لهم وتفوت على غيرهم، وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مُفوَّضًا إلى الإمام الذي فُوِّض إليه أحوالُ الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة] اهـ.
وقد وضح فقهاء الحنفية معنى الفتنة التي يؤدي إليها عدم إناطة الجمعة بإذن السلطان؛ وذلك من خلال شرحهم للأبعاد الاجتماعية لها وما تتميز به من مظاهر السلطة الأدبية والجاه الاجتماعي.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 261، ط. دار الكتب العلمية): [هذه صلاةٌ تُؤدَّى بجمعٍ عظيمٍ، والتقدمُ على جميع أهل المصر يُعَدُّ مِن باب الشرف وأسباب العلو والرفعة؛ فيتسارع إلى ذلك كلُّ مَن جُبِلَ على علو الهمة والميل إلى الرئاسة؛ فيقع بينهم التجاذب والتنازع، وذلك يؤدي إلى التقاتل والتقالي؛ ففُوِّضَ ذلك إلى الوالي ليقوم به أو ينصب من رآه أهلًا له، فيمتنع غيره من الناس عن المنازعة؛ لما يرى من طاعة الوالي، أو خوفًا من عقوبته، ولأنه لو لم يُفوَّضْ إلى السلطان لا يخلو إما أن تُؤدِّيَ كلُّ طائفة حضرت الجامع، فيؤدي إلى تفويت فائدة الجمعة وهي اجتماع الناس لإحراز الفضيلة على الكمال، وإما أن لا تؤدى إلا مرة واحدة، فكانت الجمعة للأولين وتفوت عن الباقين، فاقتضت الحكمة أن تكون إقامتها متوجهةً إلى السلطان ليقيمَها بنفسه أو بنائبه عند حضور عامَّة أهل البلدة مع مراعاة الوقت المستحب والله أعلم] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 288، ط. وزارة الأوقاف المغربية): [ولا يختلف العلماء أن الذي يقيم الجمعةَ السلطانُ، وأن ذلك سُنَّةٌ مسنونةٌ، وإنما اختلفوا عند نزول ما ذكرنا من موت الإمام، أو قتله، أو عزله، والجمعة قد جاءت] اهـ.
قد اتفق الفقهاء جميعًا على اشتراط إذن الإمام في إقامة صلاة الجمعة إذا كان في ترك استئذانه استهانةٌ بولايته أو مخالفةٌ لأمره عند إلزامه الناس بالاستئذان؛ سواء منهم من قال بوجوب إذن السلطان لإقامة الجمعة ومن قال بعدم وجوبه، وجعلوا في إقامتها مع منعه منها مشاقة له وخرقًا لأُبَّهَةِ الولاية وإظهارًا للعناد والمخالفة، وكلها معانٍ محرمةٌ في الشريعة الإسلامية.
قال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (4/ 49، ط. عالم الكتب): [وبهذا يظهر أن الإمام لو قال: لا تقيموا الجمعة إلا بإذني. لم يكن ذلك حكمًا، وإن كانت مسألةً مختلفًا فيها هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا، وللناس أن يقيموا بغير إذن الإمام، إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة، وخرق أبهة الولاية، وإظهار العناد والمخالفة فتمنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك] اهـ.
على أن الخلاف في اعتبار الإذن الفعلي للسلطان في صلاة الجمعة قد يُتَصَوَّر في النظم الاجتماعية التي يستقلُّ فيها الناس في المدن والنواحي بتعيين أئمتهم وخطبائهم؛ فإن هذه الحال ونحوها قد يُتفهَّم فيها كونُ إذن الحاكم بإقامة الجمعة حقًّا أدبيًّا، لا واجبًا شرعيًّا أو شرطًا حتميًّا؛ لأن عدم اعتبار الإذن لا يقتضي منازعةَ ولي الأمر حقه فيه؛ حيث إن الأعراف النظامية والاجتماعية السائدة ربما تجعل لأهل المدن والقرى نوعَ استقلالٍ وسلطانٍ في هذه الشؤون، وعليه يُحمَلَ قولُ مَن لم يُوجِبْ إذن الإمام من الفقهاء.
لكنَّ إهمالَ الإذن وعدم اعتباره لا يتأتَّى العملُ به -بل ولا تَصَوُّرُه- في دولة المؤسسات التي تَوَزَّعَتْ فيها السلطات، وحُدِّدَت المسؤوليات، وأُقيمَتْ مختلف الهيئات على تنوع المهام والاختصاصات، وأصبحت للمساجد والجوامع وزارةٌ خاصةٌ بالشؤون الدينية، تُعيِّن أئمتها وخطباءها، وتُوَجِّه وُعَّاظَها، وتنظم شؤونها الإسلامية، فهي "وليُّ الأمر" لِدُور العبادة والقائمين عليها وشؤون الدعوة والوعظ في البلاد، ولا ريبَ أن مِن أخصِّ اختصاصاتها تنظيمَ إقامة صلاة الجمعة؛ أي أن هذا النظام المؤسَّسي يجعل إذنَ "ولي الأمر" في إقامة صلاة الجمعة مَحَلَّ إلزامٍ والتزامٍ، ويجعل عدمَ الاعتدادِ به ومخالفتَه افتئاتًا على ولي الأمر؛ فيكون الالتزامُ بلوائحِ الوزارة وقراراتها واجبًا على كلِّ إمامٍ وخطيب ومسؤول عن جامع أو مسجد مِمَّن يعيشُ تحت ظل هذه الدولة التي تولَّتْ وزارةُ الشؤون الدينية مساجدَها وأمر دعوتِها؛ لأن العيش في النظام الاجتماعي للدولة المدنية يقتضي الالتزامَ بعقودها الاجتماعية التي تقوم على مفاهيم فصل السلطات، وابتناء المسؤوليات على تحديد الاختصاصات، والمقابلة بين الحقوق والواجبات.
كما أن عنصر المكان في صلاة الجمعة ملاصق بها؛ ولذلك لا تُصلَّى الجمعةُ إلا في الجامع، والأصل عدم جواز تعددها إلا لحاجة طرأت؛ كأن يتسع المصر فيضيق الجامع بأهله.
قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (4/ 116، ط. دار طيبة): [الناس لم يختلفوا أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعطل سائر المساجد، وفي تعطيلِ الناسِ الصلاةَ في مساجدهم يومَ الجمعة لصلاة الجمعة واجتماعِهم في مسجدٍ واحدٍ أبينُ البيانِ بأن الجمعةَ خلافُ سائر الصلوات، وأن الجمعة لا تُصلَّى إلَّا في مكانٍ واحد] اهـ.
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 249، مكتبة الرياض الحديثة): [ولا تُصلَّى -يعني: الجمعة- إلا في المسجد، أو في رحابه، أو الطرق المتصلة به، دون ما يُمنع الناس من دخوله] اهـ.
وقال القاضي ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (1/ 304): [المسجد شرط في صحة الجمعة] اهـ.
وقال أيضًا في "المقدمات الممهدات" (1/ 222، ط. الغرب الإسلامي): [ولا يصحُّ أن يقول أحد في المسجد: إنه ليس من شرائط الصحة؛ إذ لا اختلافَ في أنه لا يصحُّ أن تقام الجمعة في غير مسجد، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يصح أن تقام إلا في الجامع، وإلى هذا ذهب الباجي فقال: إنه لو منع عذر من إقامتها في المسجد الجامع لم تصحَّ إقامتها فيما سواه من المساجد، إلا أن تُنقَل الجمعة إليه على التأبيد، وهو بعيد] اهـ.
وقال الإمام التقي السبكي الشافعي في "فتاويه" (1/ 175): [ومن محاسنِ الإسلام اجتماعُ المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس، ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة، ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين، لتحصل الألفة بينهم ولا يحصل تقاطع ولا تفرق] اهـ.
ثم ذكر أيضًا في "فتاويه" (1/ 179) أن مذهب مَن أجاز تعدد الجمعة في أكثر من مسجدٍ إنما هو محمول على تعدُّدها للحاجة لا مطلقًا، قال: [ولا يُحمَلُ على إجازة تَعدُّدِها مطلقًا في كلِّ المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية، فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة؛ لاستمرار عمل الناس عليه من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم] اهـ.
وقال أيضًا (1/ 180): [وأما تخيل أن ذلك -يعني: أداء صلاة الجمعة- يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة، فهذا مِن المنكر بالضرورة في دين الإسلام] اهـ.
وقال البرهان البقاعي في "نظم الدرر" (7/ 590-599، ط. دار الكتب العلمية): [الجمعة: اسمها مُبيِّن للمراد منها من فرضية الاجتماع فيها، وإيجاب الإقبال عليها، وهو التجرُّد عن غيرها والانقطاع.. واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته، وتأمل أوائله وغاياته الحاثة على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكِّي والحب له والاتباع.. ﴿مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: 9]، سُمِّيَ بذلك: لوجوب الاجتماع فيه للصلاة] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالشأنُ في إقامة الجمعة أنها منوطةٌ بتنظيم الإمام وإذنه العام حسمًا لمادة الفتنة، وسدًّا لذريعة المنازعة؛ لما فيها من السلطة الأدبية، ومع اختلاف الفقهاء في اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة، إلا أنهم اتفقوا على اشتراطه إذا كان في ترك استئذانه استهانةٌ بولايته أو افتياتٌ على سلطته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.