ما حكم صلاة التراويح في البيت بسبب الوباء؟ فإنه في ظلّ ما يمر به العالم من ظروف جراء فيروس كورونا أُغلِقَت المساجد وأُرجئت الجمع والجماعات؛ ضمن القرارات التي اتخذها المختصون تحرزًا من عدوى هذا الفيروس الوبائي، فهل تشرع صلاة التراويح في البيوت؟ وهل يأخذ المُصلي حينئذٍ أجر قيام رمضان؟
الأصل في صلاة الليل أن يؤديها المسلمون في بيوتهم؛ أسوة بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من السلف الصالح رضوان الله عليهم، واستحبها جماعة من العلماء لمن قويت نيته وعلت همته وكان حافظًا من القرآن ما يكفيه في صلاته؛ لِما فيها من التستر والإعانة على الخشوع وعلوِّ الهمة وتقوية النية.
أما من لم يستطع ذلك؛ بأن كان من عوام الناس؛ صلى في المسجد بصلاة الإمام؛ كما كان يفعل من ليس معه شيء من القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي دعا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع الناس على إمام واحد، فإذا كان هناك عذر يمنع من أدائها جماعةً في المسجد؛ تأكد معنى أدائها في البيت؛ جماعةً أو انفرادًا، ولا يخفى أن ما تمر به البلاد من انتشار فيروس كورونا المستجد هو من الأعذار المانعة من ذلك؛ لِما فيه من معنى الخوف والمرض، وهما عذران شرعيان في سقوط الجماعة في الفرائض، فيكون سقوطها في غير الفرائض آكد مشروعية، ولا يحرم المصلي بذلك أجر قيام رمضان المُعظم؛ لكون صلاة التراويح في البيت هو الأصل من جهة، ولكونه حبسه العذر وهو عازم على أدائها من جهة أخرى.
المحتويات
اتفق العلماء على مشروعية صلاة التراويح في شهر رمضان المُعظَّم، للرجال والنساء، وأنها من السنن المؤكدة؛ سنَّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولِهِ وفعْلِهِ؛ زيادةً في الأجر وتعظيمًا للثواب؛ فعن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن ماجه والنسائي في "سننهما".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ» متفقٌ عليه.
والأصل في قيام رمضان أن يقرأ المسلم فيه القرآن الكريم بنفسه، حتى يجمع بين الصلاة والقراءة؛ تطبيقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 1-4]، ثم قال تعالى في آخرها: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾.. ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: 20]، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ» أخرجه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في "مسانيدهم"، وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي في "سننهم"، من حديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه. قال الترمذي: واحتج به إسحاق بن إبراهيم قال: إنما عنى به قيام الليل، يقول: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن.
فسمى الله سبحانه الصلاة في الآية قرآنًا؛ تنبيهًا على أن مقصود القيام قراءة القرآن الكريم؛ كما قال الإمام الجصاص في "أحكام القرآن" (5/ 368، ط. دار إحياء التراث العربي): [لم يعبر عن الصلاة بالقراءة إلا وهي من أركانها] اهـ.
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (30/ 683، ط. دار إحياء التراث العربي): [لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها.. وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله] اهـ.
وقال القاضي أبو بكر الإشبيلي في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (ص: 296، ط. دار الغرب الإسلامي): [فإنه إنما أراد بأهل القرآن الذين يقومون به ليلًا] اهـ.
وقال العلامة الكشميري في "فيض الباري" (2/ 564، ط. دار الكتب العلمية): [ولأجل القرآن شُرِعَت صلاةُ الليلِ، وهو الذي يَتَرشَّح من قوله: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 4]، فالمأمورُ به هو القرآنُ والصلاة لأَجْلِ ترتيلِ القرآن فيها؛ ولذا خصَّصَ أهل القرآنِ بمزيدِ التأكيدِ بها، وقال: «فأوترُوا يا أهلَ القرآنِ»] اهـ.
فمع أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها والحث على المواظبة عليها امتنع من صلاتها في المسجد جماعةً؛ خشية أن تفرض عليهم وتأكيدًا على عدم اشتراط صلاتها في المسجد؛ إشفاقًا عليهم ورأفة بهم.
فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلَّوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمرُ على ذلك. متفقٌ عليه.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم فقال: «قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» متفق عليه، واللفظ للبخاري.
قال العلامة ابن قُرْقُولٍ المالكي في "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" (5/ 388، ط. دار الفلاح للبحث العلمي): [«جَعَلَ يَقْعُدُ» قيل: معناه: يصلي قاعدًا؛ لئلا يبدو شخصه لهم من وراء الحاجز فيصلُّوا بصلاته كما فعلوا من قبل، وقيل: يقعد في بيته فلا يخرج إلى المسجد، كما قد جاء في غير هذا الحديث: «جَلَسَ فَلَمْ يَخْرُجْ»] اهـ.
قال العلامة الملا علي القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح" (3/ 965، ط. دار الفكر): [«تُفرَض عَليْكُم»، أي: لو واظبت على إقامتها بالجماعة لفرضت عليكم، «ولَوْ كُتِبَ عَلَيْكُم» أي: ذلك، «مَا قُمْتُم بِهِ» ولم تطيقوه بالجماعة كلكم لعجزكم، وفيه بيان رأفته لأمته، ودليل على أن التراويح سنة؛ جماعةً وانفرادًا] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 8، ط. دار الفكر): [منعهم من التجميع في المسجد؛ إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأمِنَ -مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم- من افتراضه عليهم] اهـ.
وقال العلامة البجيرمي الشافعي في "حاشيته على شرح المنهج" (1/ 282، ط. الحلبي): [المراد: خشيت أن تفرض جماعتها في المسجد، ويؤيده قوله في رواية أخرى: «فَصَلُّوا أيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُم»، فمنعهم من الاجتماع في المسجد؛ إشفاقًا عليهم] اهـ.
وبذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُحييَ المسلمون بيوتَهُم بالصلاة وينوروها بكثرة النوافل والسنن فيها؛ حتى جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أفضل من التنفل في مسجده الشريف.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يصلي النوافل في بيته مع لصوقه بمسجده:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» متفقٌ عليه.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» أخرجه أبو داود في "السنن".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكْرِمُوا بُيُوتَكُمْ بِبَعْضِ صَلَاتِكُمْ» أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وابن خزيمة في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك"، والضياء في "الأحاديث المختارة". زاد عبد الرزاق: «وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»، قال الحافظ الضياء: إسناده صحيح، وصححه الحافظ السيوطي.
وعن عبد الله بن سعد رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما أفضل؛ الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: «أَلَا تَرَى إِلَى بَيْتِي؟ مَا أَقْرَبَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ؛ فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً» رواه الإمام أحمد والدارمي في "المسند"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "السنن"، وابن خزيمة في "الصحيح"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، والضياء في "المختارة"، قال الحافظ البوصيري في "مصباح الزجاجة": "إِسْنَاده صَحِيح ورِجَاله ثِقَات".
قال الإمام البدر العيني الحنفي في "عمدة القاري" (4/ 188، ط. دار إحياء التراث العربي): [ومن هذا أخذ علماؤنا: أن الأفضل في غير الفرائض المنزلُ] اهـ.
وقال الإمام الباجي المالكي في "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 299، ط. مطبعة السعادة): [ووجه ذلك: أن إتيانه بالنافلة في بيته أفضل من أن يأتي بها في مسجده، وهذا حكم النوافل كلها؛ التستر بها أفضل] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "شرح مسلم" (6/ 68، ط. دار إحياء التراث العربي): [وإنما حث على النافلة في البيت؛ لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان؛ كما جاء في الحديث الآخر؛ وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأخرى: «فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيرًا»] اهـ.
في عهد عمر رضي الله عنه جمع المسلمين على صلاة التراويح في المسجد على إمامٍ واحد:
فعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ، أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل"، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر رضي الله عنه: "نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
وما فعله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مِن جمْع المسلمين على إمام واحد في التراويح، لا يُنافي أفضلية صلاتها في البيوت؛ وذلك من جهتين:
الأولى: أن جماعات من المسلمين كانوا يصلون متفرقين في المسجد، خلف كل إمام جماعة؛ خوفًا من التكاسل عنها في البيوت، فلما رآهم سيدنا عمر رضي الله عنه أوزاعًا متفرقين يأتمون بأكثر من إمام، ارتأى المصلحة في الاجتماع على إمام واحد بجماعة واحدة، واختار لهم أقرأهم؛ امتثالًا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»، ليكون الاجتماع العام عليها حينئذٍ أنشط لأدائها وأحيا لسنتها.
قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 66، ط. دار الكتب العلمية): [كانوا يصلون متفرقين خلف كل إمام رهط، فجمعهم عمر رضي الله عنه على قارئ واحد، واختار لهم أقرأهم؛ امتثالًا -والله أعلم- لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»] اهـ.
قال العلامة أبو الخير العمراني في "البيان" (2/ 276، ط. دار المنهاج):
[ثم جعل الناس يصلون جماعة وفرادى، ويتبعون القُرَّاءَ والصوتَ الحسن، فخاف عمر رضي الله عنه الفتنة والافتراق، فقال: "أجعلتم القرآن أغاني؟!" فجمعهم على أُبي بن كعب رضي الله عنه؛ لأنه كان آخر من أخذ القرآن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه عرض عليه القرآن في السنة التي مات فيها، فأخرج عمر رضي الله عنه القناديل إلى المسجد، وجعلهم جماعة واحدة، فكان أُبيٌّ رضي الله عنه يصلي بهم عشرين ليلة، ثم ينفرد في بيته، فيقال: أَبِق أُبَي، ويتم بهم تميم الداري رضي الله عنه.
فعمر رضي الله عنه إنما كان منه إخراج القناديل، وجمع الناس جماعة واحدة، ولهذا روي: أن عمر رضي الله عنه خرج ذات ليلة، فرأى الناس يصلون جماعة واحدة، فقال: "إنها بدعة، ونعمت البدعة"] اهـ.
وقال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 425، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(لكان) ذلك (أمثل) أي: أفضل من تفرقهم؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين] اهـ.
وهذا المعنى من الاجتماع على مُعَيَّنٍ هو المقصود من مدح سيدنا عمر رضي الله عنه حينما خرج في ليلة فوجدهم يصلون بصلاة قارئهم، فقال: "نعم البدعة هذه".
قال الإمام الصنعاني في "سبل السلام" (1/ 344، ط. دار الحديث): [واعلم أنه يتعين حمل قوله: "بدعة" على جَمْعِهِ لهم على مُعَيَّن، وإلزامهم بذلك، لا أنه أراد أن الجماعة بدعة؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بهم كما عرفت، إذا عرفت هذا عرفت أن عمر رضي الله عنه هو الذي جعلها جماعة على مُعَيَّن وسمَّاها بدعة] اهـ.
الثانية: أن المقصود بهذا الاجتماع أصالةً: إعانةُ من ليس معه شيء من القرآن يُصلي به؛ حيث كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرجون إلى المسجد في رمضان يأتمون بحفظة كتاب الله، يتلمسون من يحسن القراءة ليصلوا خلفه، وربما تعددت صلواتهم وجماعاتهم، ثم أصبح سيدنا أُبَيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه يؤمهم في ناحية المسجد، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك استحسنه، لكنه لم يجمع عليه الناس، وكان في ذات الوقت يأمر المسلمين بصلاة النافلة وصلاة القيام في بيوتهم ويُفضِّلها على صلاتهم إياها في المسجد، فدل على أن المقصود بذلك أصالةً من ليس معه من القرآن ما يحسن القيام به.
فأخرج عبد الرزاق في "المصنف" عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء "أن القيام كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان يقوم النفر والرجل كذلك هاهنا، والنفر وراء الرجل، فكان عمر أول من جمع الناس على قارئ واحد".
قال الإمام أبو بكر الباقلاني في "الانتصار للقرآن" (1/ 161، ط. دار الفتح، عَمَّان، دار ابن حزم، بيروت): [وقد تظاهرت الأخبار عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يكثِرُ الترغيبَ في هذه الصلاةِ ويحث على فعلِها، ويرى الناسَ مجتمعين للقيام بها وأفذاذًا، فيُقِرُّ الفريقين جميعًا، ويستحسن ذلك من صنيعهم] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَؤُلَاءِ؟» فقيل: ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَصَابُوا» أَوْ: «نِعْمَ مَا صَنَعُوا» أخرجه أبو داود في "سننه"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، و"معرفة الآثار".
قال الإمام البيهقي في "فضائل الأوقات" (ص: 268، ط. مكتبة المنارة): [فيه دلالة على أن فعل صلاة التراويح بالجماعة أفضل لمن لا يكون حافظًا للقرآن، فأما من كان حافظًا فقد ذهب ابن عمر رضي الله عنهما أن فعلها بالانفراد أولى] اهـ.
وقالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: "كنَّا نَأخُذُ الصّبيانَ مِن الكُتَّاب؛ ليقوموا بنا في شهر رمضان، فنعمل لهم القَلِيَّة والخشكنانج -نوع خبز-". أخرجه المروزي في "قيام رمضان"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وعلى ذلك: فصنيع سيدنا عمر رضي الله عنه هو من السياسة الشرعية التي تُتَوَخَّى فيها مصلحةُ الرعية؛ بجمع الناس الذين كانوا يصلون في المسجد بالفعل زرافات ووحدانًا؛ توحيدًا لرواد المسجد في جماعة واحدة على إمام واحد، وتيسيرًا على من لا يحسن القراءة، فلم يزد على تنظيم القائمين بالتراويح في المسجد لَمَّا اتسع الأمر وكثرت الجماعات فيه، لا أن صلاة التراويح في المسجد أولى منها في البيوت.
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/ 119، ط. مكتبة الرشد): [وإنما فعل عمر رضي الله عنه التخفيف عنهم، فجمعهم على قارئ واحدٍ يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر] اهـ، وقال (4/ 146): [وفي جمع عمر رضي الله عنه الناس على قارئ واحدٍ دليلٌ على نظر الإمام لرعيته في جمع كلمتهم وصلاح دينهم.. وأن قيام رمضان سُنَّة؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يسنَّ منه إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبه] اهـ.
مَن أوتي شيئًا من القرآن، ونَشِطَ لأداء التراويح في بيته: فيرجع الحكم في حقه إلى أصله الذي كان عليه؛ من أفضلية الصلاة في البيت، ولذلك كان كثير من السلف الصالح والأئمة من بعدهم يفضلون صلاة التراويح في البيت، حتى سيدنا عمر رضي الله عنه.
قال الإمام الليث بن سعد: "ما بلغنا أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يقومان في رمضان مع الناس في المسجد". أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام رمضان".
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (2/ 66): [وفي خروجه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال: "نعمت البدعة" دليل على أنه كان لا يصلي معهم، وأنه كان يتخلف عنهم، إمَّا لأمور المسلمين، وإما للانفراد بنفسه في الصلاة] اهـ، وقال (2/ 71): [وجاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يأمران من يقوم للناس في المسجد، ولم يجئ عنهما أنهما كانا يقومان معهم] اهـ.
وعقد الإمام أبو بكر بن أبي شيبة (ت: 235هـ) لذلك بابًا في "المصنف" سمَّاه: "من كان لا يقوم مع الناس في رمضان"، وروى فيه الآثار في ذلك عن السلف الصالح.
فروى عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان، قال: "وكان سالم والقاسم لا يقومون مع الناس"، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف".
وعن إبراهيم النخعي قال: "لو لم يكن معي إلا سورة أو سورتان، لأن أرددهما أحب إليَّ من أن أقوم خلف الإمام في شهر رمضان".
وعن الأعمش قال: "كان إبراهيم وعلقمة لا يقومون مع الناس في رمضان".
وعن عمر بن عثمان قال: سألت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد يجيء رمضان، أو يحضر رمضان، فيقوم الناس في المساجد، فما ترى: أقوم مع الناس، أو أصلي أنا لنفسي؟ قال: "تكون أنت تفوه القرآن أحب إليَّ من أن يفاه عليك به".
وعن مجاهد قال: سأل رجلٌ ابن عمر رضي الله عنهما: أقوم خلف الإمام في شهر رمضان؟ فقال: "تنصت كأنك حمار! صل في بيتك" أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن حبيب في "الواضحة"، والمروزي في "قيام رمضان"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وروى الإمام عبد الملك بن حبيب (ت: 238هـ) في "الواضحة من السنن والفقه" ذلك عن جماعة من السلف الصالح (ص: 49-51، ط. دار البشائر الإسلامية): فروى عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يصلي العتمة مع الجماعة في رمضان، ثم ينصرف فيقوم في بيته؛ فإذا علم أن الناس قد فرغوا من القيام رجع إلى المسجد.
وروى عن ابن وهب: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ونافع مولى ابن عمر ويحيى بن سعيد: كانوا يصلون العشاء مع الجماعة في رمضان، ثم ينصرفون فيقومون في بيوتهم، ولا يقومون مع الناس.
وعن إبراهيم النخعي قال: "كان بعضهم يصلي لنفسه في ناحية المسجد، والإمام يصلي بالناس في قيام رمضان".
قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف أنه سأل مالكًا عن قيام الرجل في رمضان: أمع الناس أحب إليك أم في بيته؟ قال: "إن كان يقوى في بيته فهو أحب إلي، وليس كل الناس يقوى عليه وينشط له في بيته".
قال مالك: "ولقد رأيت ابن هرمز ينصرف فيقوم بأهله، ورأيت ربيعة وغير واحد ممن يُقتدى به ينصرفون ولا يقومون مع الناس"، قال مالك: "وأنا أفعل ذلك" اهـ. بتصرف يسير.
وعن همام بن نافع قال: سمعت وهبًا يصلي وحده، وسألته عن القوم يدخلون المسجد في شهر رمضان، وقد صلوا العشاء الآخرة، وهم قيام في التطوع، هل يصلون خلف الإمام في المسجد يؤمهم أحدهم؟ قال: "لا، يصلون فرادى" أخرجه عبد الرزاق في "المصنف".
كما نص جمهور الفقهاء على أفضلية صلاة التراويح في البيت كما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قال الإمام الطحاوي الحنفي في "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 313، ط. دار البشائر الإسلامية): [روى المعلَّى عن أبي يوسف قال: "من قدر أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان فأحب إليَّ أن يصلي في البيت"، وكذلك قال مالك. وقال مالك: "كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس"، قال مالك: "وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في بيته"، وقال الشافعي: "صلاة المنفرد في قيام رمضان أحب إليَّ"] اهـ.
وقال الإمام مالك رحمه الله: "كان ابن هرمز من القراء ينصرف فيقوم بأهله في بيته، وكان ربيعة ينصرف، وكان القاسم رحمه الله وسالم رحمه الله ينصرفان لا يقومان مع الناس، وقد رأيت يحيى بن سعيد مع الناس، وأنا لا أقوم مع الناس، لا أشك أن قيام الرجل في بيته أفضل من القيام مع الناس إذا قوي على ذلك، وما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في بيته" نقله محمد المروزي في "قيام رمضان".
وقال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/ 119): [وقد احتج قوم من الفقهاء بقعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة، أو الرابعة، وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت للمنفرد أفضل من المسجد؛ منهم مالك، وأبو يوسف، والشافعي. وقال مالك: كان ربيعة وغير واحدٍ من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في بيته] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 86، ط. دار المعرفة): [فأما قيام شهر رمضان: فصلاة المنفرد أحب إليَّ منه] اهـ، واحتج الإمام الشافعي بحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قيام رمضان: «أَيُّهَا النَّاسُ، صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ»، قال الإمام الشافعي: "ولا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده على ما في ذلك من الفضل". نقله الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 70).
قال الإمام عبد الملك بن حبيب في "الواضحة" (ص: 51): [وإذا كان الرجل لا يقرأ أو كان لا يقوى على القيام في بيته وخاف الكسل والشغل، فليقم مع الناس، وفي كل ذلك ثواب، إن شاء الله] اهـ.
قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي في "الرسالة" (ص: 62، ط. دار الفكر): [ومن شاء قام في بيته، وهو أحسن لمن قويت نيته وحده] اهـ.
قال الإمام النفراوي المالكي في شرحه عليه المسمى "الفواكه الدواني" (1/ 318، ط. دار الفكر): [ولما كان فعلها في البيوت أفضل قال: (ومن شاء قام) أي: صلى التراويح (في بيته ولو بإمام؛ وهو أحسن) أي: أفضل من فعلها في المسجد (لمن قويت نيته وحده)، ومعنى قويت نيته: أن يكون عنده نشاط في فعلها في بيته.. وإنما كان فعلها في البيوت مع القيود أفضل للسلامة من الرياء؛ لأن صلاة الجلوة على النصف من صلاة الخلوة، ولما في الصحيحين: «أفضَلُ الصَّلاة صَلَاتُكُم فِي بُيوتِكُمْ إِلَّا المَكتُوبة»] اهـ.
وقال الإمام القرافي في "الذخيرة" (2/ 408، ط. دار الغرب الإسلامي): [وانفراد الواحد لطلب السلامة من الرياء أفضل على المشهور ما لم يؤد إلى تعطيل المساجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح: «خَيْرُ صَلَاة أحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَة»] اهـ.
ونص الشافعية على أفضلية التراويح في البيت ما لم يكن ذلك سببًا في تعطيلها في المسجد؛ بأن كان يُصلي إمامًا بغيره من عوام المسلمين.
قال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (2/ 291، ط. دار الكتب العلمية): [صلاة المنفرد في قيام شهر رمضان أفضل إذا لم يكن في انفراده تعطيل الجماعة، فهو قول أكثر أصحابنا، وإنما كان ذلك كذلك؛ لرواية زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ»] اهـ.
وقال إمام الحرمين الشافعي في "نهاية المطلب" (2/ 356، ط. دار المنهاج): [إن كان حافظًا للقرآن عالمًا بأنه لو خلا بنفسه، لما منعه الكسل والفشل عن الصلاة على حقها، فالانفراد أولى، وإن كان لا يحسن ما يصلي به، ولم يأمن أن يثبطه الكسل لو خلا، وإذا كان يصلي في جماعة، أقام الصلاة مقتديًا، فالاقتداء أولى به] اهـ.
قال الإمام الليث بن سعد: [لو أن الناس في رمضان قاموا لأنفسهم ولأهليهم كلهم حتى يُترَك المسجد لا يقوم فيه أحد كان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه؛ لأن قيام الناس في شهر رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه وهو مما سنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسلمين وجمعهم عليه، فأما إذا كانت الجماعة في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل في بيته أو لأهل بيته] اهـ. نقله عنه الإمام الطحاوي في "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 313-314، ط. دار البشائر الإسلامية)، ثم قال: [وكل من اختار التفرد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا يُقطَع معه القيام في المساجد، فأما التفرد الذي يُقطَع معه القيامُ في المساجد فلا] اهـ.
وعلى ذلك: فالأفضل في صلاة التراويح لمن كان معه شيء من القرآن وقويت نيته وعلت همته أن تُصلى في البيت، أما من لم يحفظ القرآن ولا ينشط للصلاة في البيت فالأفضل في حقه حينئذ أن يُصليها في المسجد مع الإمام؛ حتى يكفيه القراءة ويعينه على التدبر، هذا كله في الظروف الطبيعية، ولم يكن هناك عذرٌ يمنع من حضورها في المسجد، أما إذا كان هناك عذر معتبرٌ يمنع من حضورها في المسجد، فحينئذٍ تتأكدُ صلاتها في البيت، وإذا كان الشرع الشريف أسقط صلاة الجماعة في الفرض عند وجود العذر من مرض أو خوف؛ فإن سقوطها في غير الفرض عند وجود العذر أولى وآكد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا». قَالُوا: مَا عُذْرُهُ؟ قَالَ: «خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ». أخرجه أبو داود والدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى"، و"الصغرى"، و"معرفة السنن والآثار". قال الإمام البيهقي: "وَمَا كَانَ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي مَعْنَاهَا فَلَهُ حُكْمُهُمَا".
والظروف التي تمر بها البلاد جرَّاء فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19)، من أشد الأعذار التي تمنع من حضور الجماعة في المسجد؛ بل هي أبلغ في العذر وآكد في المنع؛ لاشتمالها على معنى الخوف والمرض، وتعلقها بالحفاظ على النفوس والأرواح من هذا الوباء.
وينبغي على المسلمين أن ينتهزوا هذه الفرصة في إحياء البيوت بتكثير الصلاة فيها وكذلك الذكر وتلاوة القرآن، ويكون ذلك تدريبًا على الإكثار من العبادات النافلة؛ وقد جعل الشرع الشريف أجر صلاة المسلم في البيت لعذرٍ كأجر صلاته في المسجد إذا كان حال عدم العذر مداومًا عليها؛ لأن المعذور مأجور؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ، كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ». أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
وفي رواية: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» أخرجه الإمام البخاري في "الصحيح"، وأحمد في المسند" عن أبي موسى رضي الله عنه أيضًا.
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (5/ 154): [من كانت له نوافل وعادة من عملٍ صالح فمنعه الله منها بالمرض أو السفر، وكانت نيته لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليها ولا يقطعها؛ فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له أجر ثوابها حين حبسه عنها] اهـ.
بل ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك يشمل الفرائض والنوافل، وأن تخصيص البعض له بالنوافل فقط هو من التضييق والتحجر فيما وسَّعه الشرع.
قال العلامة ابن المُنير في "المتواري على أبواب البخاري" (ص: 165، ط. مكتبة المعلا): [حمله بعضهم على النوافل، وحجَّر واسعًا؛ بل تدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها، أو عن بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه فعلا؛ لأنه قام به عزمًا أن لو كان صحيحًا، حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القيام، والله أعلم، وظاهر الترجمة أنه نزله على إطلاقه] اهـ.
وقال العلامة عميرة في "حاشيته" (1/ 260، ط. دار الفكر): [وقد يؤيد بأن من صلى قاعدًا لعجزٍ فله مثل أجر القائم، واختاره السبكي فيمن كان له عادة ثم حبسه العذر] اهـ.
بناءً على ذلك: فالأصل في صلاة التراويح أن يؤديها المسلمون في بيوتهم؛ كما فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد استحبها جماعة من العلماء سلفًا وخلفًا، لمن قويت نيته وعلت همته وكان حافظًا من القرآن ما يكفيه في صلاته؛ لِما فيها من التستر والإعانة على الخشوع وعلوِّ الهمة وتقوية النية.
أما من لم يستطع ذلك؛ بأن كان من عوام الناس؛ صلى في المسجد بصلاة الإمام؛ كما كان يفعل من ليس معه شيء من القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي دعا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع الناس على إمام واحد، فإذا كان هناك عذر يمنع من أدائها جماعةً في المسجد؛ تأكد معنى أدائها في البيت؛ جماعةً أو انفرادًا، ولا يخفى أن ما تمر به البلاد من انتشار فيروس كورونا المستجد هو من الأعذار المانعة من ذلك؛ لِما فيه من معنى الخوف والمرض، وهما عذران شرعيان في سقوط الجماعة في الفرائض، فيكون سقوطها في غير الفرائض آكد مشروعية، ولا يحرم المصلي بذلك أجر قيام رمضان المُعظم؛ لكون صلاة التراويح في البيت هو الأصل من جهة، ولكونه حبسه العذر وهو عازم على أدائها من جهة أخرى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.