ما حكم الوقف على الذرية؛ فنحن نفيد فضيلتكم علمًا أن أحد أصحاب السمو من الأمراء قد أوقف نخلًا وسوقًا على جميع أبنائه وبناته، عدا أحد أبنائه، نسلًا بعد نسل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، على أن يكون الوقف تحت يده مدة حياته؛ مقلدًا في ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه في عدم التخلية.
لذا نأمل من فضيلتكم بيان حكم الشرع في المسائل الآتية:
1- هل يعد هذا الوقف الذري وقفًا باطلًا؛ تأسيسًا على أنه لا يوجد شيء من ريعه في عمل البر والقربة؟
2- إن مات أحد من الموقوف لهم فنصيبه من الوقف لورثته ينزلون منزلته أم للموقوف لهم؟
3- هل يجوز أن يخص الوقف جميع أبنائه وبناته عدا ابنًا واحدًا؟ وإن كان لا يجوز ذلك هل يلغى الوقف ويعود الموقوف ملكًا للورثة أو يصحح بإدخال الابن المحروم؟
الوقف المذكور ينزل منزلة الوصية في كونها لا تصح لوارثٍ إلا إن أجاز باقي الورثة لهؤلاء جميعًا، وأجاز كل واحد من الموقوف عليهم لباقي شركائه في هذا الوقف، ما دام المجيز مطلق التصرف، وإلا كان الوقف المذكور لاغيًا بالكلية إن لم يجزه المشار إليهم، ويعود الموقوف حينئذ ملكًا للورثة يقسم بينهم قسمة الميراث، وأما إن أجاز بعضهم دون البعض، فينفذ الوقف حينئذٍ في حق من أجاز فقط دون غيره، وذلك على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، الذي اشترط الواقفُ على نفسه تقليدَه في خصوص هذا الوقف.
المحتويات
الوقف هو والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، يقال: وقفت كذا؛ أي: حبسته. وشرعًا: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود. انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (3/ 522، ط. دار الكتب العلمية).
والوقف مشروع مطلقًا، وهو من خواص الإسلام، فلم يحبس أحد من الجاهلية دارًا ولا أرضًا ولا غير ذلك على وجه التبرر، وأما بناء الكعبة وحفر زمزم فإنما كان على وجه التفاخر، لا على وجه التبرر. انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (4/ 75، ط. دار إحياء الكتب العربية).
والأصل في مشروعيته من القرآن الكريم: قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران: 92]، وهو عامٌّ يشمل الوقف.
ومن السنة: ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض خيبر التي سأله عنها: «إن شئت حبستَ أصلها وتصدقتَ بها»، فتصدق بها عمر؛ أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير مُتَمَوِّل.
الإجماع منعقد على صحة الوقف، وإنما الخلاف في لزومه فقط: فأبو حنيفة يراه صحيحًا غير لازم، فللواقف الرجوع عنه حال حياته، وجمهور العلماء يقولون: إنه صحيح لازم، فينقطع حق صاحبه فيه، فلا يباع ولا يوهب ولا يورث. انظر: "مجمع الأنهر" لداماد أفندي (1/ 731، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي" (4/ 75)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي (5/ 342، ط. المكتب الإسلامي)، و"كشاف القناع" للإمام البهوتي (4/ 254، ط. دار الكتب العلمية).
هذا كله يدخل فيه الوقف على الذرية، وقد ورد بخصوصه عن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فحبسوا على أولادهم، وذريتهم، وأقربائهم، ومواليهم، وأعقابهم.
قال الإمام الحافظ أبو بكر الحميدي (ت219هـ): [وتصدق أبو بكر الصديق رضي الله عنه بداره بمكة على ولده، فهي إلى اليوم، وتصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بربعه عند المروة، وبالثنية على ولده، فهي إلى اليوم، وتصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأرضه بينبع، فهي إلى اليوم، وتصدق الزبير بن العوام رضي الله عنه بداره بمكة في الحرامية، وداره بمصر، وأمواله بالمدينة على ولده، فذلك إلى اليوم، وتصدق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بداره بالمدينة وبداره بمصر على ولده، فذلك إلى اليوم، وعثمان بن عفان رضي الله عنه برومة، فهي إلى اليوم، وعمرو بن العاص رضي الله عنه بالوهط من الطائف وداره بمكة على ولده، فذلك إلى اليوم، وحكيم بن حزام رضي الله عنه بداره بمكة والمدينة على ولده، فذلك إلى اليوم] اهـ. انظر: "سنن البيهقي" (6/ 266، ط. دار الكتب العلمية).
وقد ألف العلامة المحقق الشيخ محمد بخيت الطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق في إثبات جواز الوقف على الذرية وصحته كتابًا ماتعًا بعنوان: "المرهفات اليمانية في عنق من قال ببطلان الوقف على الذرية"، رد فيه على شبهات بعض المتفقهة المعاصرين له الذين حاولوا التشغيب على جواز الوقف الذُّري والتشكيك في صحته.
أما اعتبار الوقف الذُّري باطلًا لكونه لا يوجد شيء من ريعه في أعمال البر والقربة: فغير صحيح، وهذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصرفات الصحابة رضي الله عنهم تشي بأنه صحيح جائز، وحبس المال على الموقوف عليهم لا يقصد به إلا البر بهم، شأنه شأن أي صلة تصيب الإنسان من أخيه، فتعد من أمور البر.
والمالكية والشافعية في الأصح لم يشترطوا ظهور القربة في الموقوف عليه؛ لأن الوقف في حد ذاته قربة، ولهذا جاز عندهم الوقف على الأغنياء.
يقول الشيخ الخرشي المالكي في "شرح المختصر" (7/ 81، ط. الأميرية): [الوقف يصح وإن لم تظهر فيه قربة؛ لأن الوقف من باب العطايات والهبات، لا من باب الصدقات، ولهذا يصح الوقف على الغني والفقير.. واعلم أن المنفي: الظهور للقربة، كما هو ظاهر العبارة، وإلا فأصل القربة حاصل في الوقف مطلقًا، كيف وهو من باب الصدقة؟] اهـ.
وجاء في "أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري من كتب الشافعية (2/ 461، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(أو) كان -أي: الوقف- (قربة)؛ أي: جهة يظهر فيها القربة؛ (كالوقف على المساكين صح)؛ لعموم أدلة الوقف، (ويصح على من يملك)، وإن لم تظهر فيه قربة؛ (كالأغنياء)؛ لأن المرعي في الوقف على الجهة: التمليك، كما في المعين والوصية، لا جهة القربة] اهـ.
أما إن أوقف على أولاده وذريته نسلًا بعد نسل، فتوفي أحد من الموقوف عليهم، فنصيب ذلك المتوفى في الوقف لا يكون لورثته، بل يرجع إلى أصل الغلة، ويقسم على جميع المستحقين الموجودين.
قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (5/ 334): [قال: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، فلا ترتيب، بل يسوى بين الجميع، ولو زاد فقال: ما تناسلوا، أو بطنًا بعد بطن، فكذلك، ويحمل على التعميم على الصحيح] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2/ 466): [شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف (فقوله: وقفت على أولادي وأولاد أولادي يقتضي التشريك) بينهم في الاستحقاق؛ لأن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب، ولا يدخل فيهم من عداهم من الطبقة الثالثة فمن دونها، إلا أن يقول: أبدًا، أو ما تناسلوا، أو نحوه. (ولو قال) مع ذلك: (بطنًا بعد بطن)، فإنه يقتضي التشريك؛ لأن هذا لمزيد التعميم] اهـ.
أما تخصيص بعض الأولاد بألا يأخذ من الوقف دون باقي إخوانه وأخواته، فالأصل المقرر شرعًا أن الإنسان حر التصرف فيما يدخل تحت ملكه؛ ببيعه أو هبته أو وقفه أو إجارته أو غير ذلك من التصرفات الشرعية التي هي فرع عن الملك؛ وقد روى الدارقطني والبيهقي عن حِبّان بن أبي جَبلة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بماله من والده ووَلَده والناس أَجمَعين»، فهذا الحديث يقرر أصل إطلاق تصرف الإنسان في ماله.
ومع ذلك فقد طلب الشرع الشريف من المُكلَّف أن يُسَوي بين أولاده في هبته لهم؛ فروى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ»، وروى البيهقي عنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِر واللُّطف».
وهذا الطلب الشرعي محمول على الندب لا على الوجوب؛ لتشبيه التسوية بين الأولاد في العطية بالتسوية منهم في بِر الوالدين، والتسوية في البِر لما كانت ليست واجبة على الأولاد، بل مندوبًا إليها، لم تكن التسوية في العطية واجبة على الآباء، بل مندوبًا إليها، فكان هذا التشبيه قرينة تدل على أن الأمر للندب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينبه بذلك على مراعاة الأحسن.
فإذا وهب الوالد أحد أولاده هبة وخصه بها دون باقي إخوته، كُره له ذلك ولم يَحرم، سواء أكان ذلك بإعطاءه بعضهم دون البعض أم بإعطاءه بعضهم أقل من البعض، فالتسوية هنا من المستحبات وليست من جملة الواجبات، وهذا هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم. انظر: "البحر الرائق" للعلامة ابن نجيم (7/ 288، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"شرح الخَرَشي على مختصر خليل" (7/ 82)، و"أسنى المطالب" للإمام لأنصاري (2/ 483).
ولكنّ هذه الكراهة تنتفي إذا كانت المفاضلة والتخصيص لمعنًى معتبَر يقتضي التخصيص، فلا يكره التفضيل حينئذ، وقد وردت روايات عن بعض الصحابة تؤيد ذلك؛ منها: ما رواه مالك في الموطأ أن أبا بكر رضي الله عنه فَضَّل عائشة رضي الله عنها بأن نَحَلها جادَّ عشرين وَسْقًا من ماله بالغابة -وهو موضع مشهور بالمدينة-؛ يعني: وهبها عشرين وَسْقًا مقطوعة، أو وهبها ثمرة نخل يجد منها عشرون وَسْقًا، وليس ذلك إلا لفضلها.
قال العلامة الخطيب في "مغني المحتاج" (3/ 567، ط. دار الكتب العلمية): [تنبيه: محل الكراهة عند الاستواء في الحاجة أو عدمها، وإلا فلا كراهة، وعلى ذلك يُحمَل تفضيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيما مَرّ، ويُستَثنَى العاق والفاسق إذا علم أنه يصرفه في المعاصي، فلا يُكرَه حرمانه] اهـ.
وقال العلامة أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (6/ 93، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وعندي أنه إذا أَعطَى البعضَ على سبيل الإيثار أنه مكروه، وإنما يجوز ذلك ويَعرَى من الكراهية إذا أَعطَى البعض لوجهٍ ما من جِهَةٍ يَختص بها أحدهم، أو غرامة تلزمه، أو خير يظهر منه، فيَخُص بذلك خيرَهم على مِثله، والله أعلم] اهـ.
والوقف في معنى الهبة في كل ما سبق؛ لأن الكل من باب التبرعات.
ما ذُكِر في الفتوى من أن الواقف جعل الوقف تحت يده مدة حياته؛ مقلدًا في ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه في عدم التخلية: محمول على ما تقرر في المذهب من جواز تنجيز الوقف وتعليق الإعطاء؛ إلحاقًا له بالوكالة.
قال الشيخ الخطيب في "مغني المحتاج" (3/ 538): [ولو نَجَّز الوقف وعلق الإعطاء للموقوف عليه بالموت جاز، كما نقله الزركشي عن القاضي الحسين] اهـ.
وقال العلامة البيجوري في "حاشيته على شرح ابن قاسم" (2/ 47، ط. الحلبي): [ولو نَجَّز الوقف وعلق الإعطاء للموقوف عليه بالموت؛ كقوله: وقفت بيتي على الفقراء، فإذا مت صُرِف إليهم، جاز، كما نقله الزركشي عن القاضي حسين] اهـ.
وقال الشيخ البكري الدمياطي في "إعانة الطالبين" (3/ 192، ط. دار الفكر): [لو نَجَّز الوقف وعَلَّق الاعطاء، صح؛ كوقفته على زيد، ولا يصرف إليه إلا أول شهر كذا مثلا] اهـ.
لكنهم ذكروا أن هذا التصرف وإن صح فإنه ينزل منزلة الوصية.
قال العلامة الرملي في "نهاية المحتاج" (5/ 375، ط. دار الفكر): [ونقل الزركشي عن القاضي أنه لو نَجَّزه وعلق إعطاءه للموقوف عليه بالموت جاز كالوكالة، وعليه فهو كالوصية أيضًا فيما يظهر] اهـ.
ولكنه لا يأخذ كل أحكام الوصية، بل يتردد بينها وبين الوقف فيأخذ من هذا بعض أحكامه ومن تلك بعض أحكامها؛ فيكون حكمه حكم الوصايا في اعتباره من الثلث، وفي جواز الرجوع عنه، وفي عدم صرفه للوارث، وحكم الأوقاف في تأبيده وعدم بيعه وهبته وإرثه. انظر: "حاشية الرشيدي على نهاية المحتاج" (5/ 375)، و"بغية المسترشدين" للعلامة المشهور (3/ 365، ط. دار الفقيه).
والحاصل أن الواقف هنا قد أوقف ما ذُكِر على بعض ورثته، ومذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه أن الوصية لوارث لا تصح إلا إن أجاز باقي الورثة؛ كلٍّ في نصيبه؛ ودليله: ما رواه البيهقي عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة».
جاء في "المنهاج" للإمام النووي و"شرحه" للجلال المحلي (3/ 160، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(و) تصح (لوارث في الأظهر إن أجاز باقي الورثة) بخلاف ما إذا ردوا] اهـ.
وقال الشيخ الخطيب في "مغني المحتاج" (4/ 73): [(و) تصح الوصية وإن لم تخرج من الثلث (لوارث) خاص غير حائز بغير قدر إرثه (في الأظهر إن أجاز باقي الورثة) المطلقين التصرف، وقلنا بالأصح إنَّ إجازَتَهُم تنفيذٌ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة» رواه البيهقي بإسنادٍ قال الذهبي: صالح، وقياسًا على الوصية لأجنبي بالزائد على الثلث.. وخرج بخاص: الوارث العام، كما لو أوصى لإنسان بشيء، ثم انتقل إرثه لبيت المال، فإن ذلك يصرف إليه، والوصية صحيحة ولا تحتاج إلى إجازة الإمام قطعًا، وبغير حائز: ما لو أوصى لحائز بماله كله فإنها باطلة على الأصح في التتمة، وبغير قدر إرثه: ما لو أوصى لوارث بقدر إرثه، فإن فيه تفصيلًا يأتي بين المشاع والمعين، وبالمطلقين التصرف: ما لو كان فيهم صغير أو مجنون أو محجور عليه بسفه، فلا تصح منه الإجازة ولا من وليه كما قاله الماوردي قال: ولا ضمان عليه إن أجاز ما لم تقبض الوصية فإن قبضت صار ضامنا ما أجازه من الزيادة] اهـ.
وقال أيضًا مصرحًا بما ذكرناه قريبًا: [في معنى الوصية للوارث: الوقف عليه وإبراؤه من دين عليه أو هبته شيئًا؛ فإنه يتوقف على إجازة بقية الورثة، نعم يستثنى من الوقف صورة واحدة، وهي: ما لو وقف ما يخرج من الثلث على قدر نصيبهم، كمن له ابن وبنت، وله دار تخرج من ثلثه، فوقف ثلثيهما على الابن، وثلثها على البنت، فإنه ينفذ ولا يحتاج إلى إجازة في الأصح، فليس للوارث إبطاله ولا إبطال شيء منه؛ لأن تصرفه في ثلث ماله نافذ، فإذا تمكن من قطع حق الوارث عن الثلث بالكلية، فتمكنه من وقفه عليه أولى] اهـ.
مما قرره الفقهاء في كتبهم أن الأصل في شرط الواقف أنه يجب اتباعه، وأن مصرف الوقف يتبع فيه شرط الواقف، وكان مما جرى على ألسنتهم حتى صار ضابطًا من ضوابط باب الوقف وقاعدة من قواعده: قولهم: "شرط الواقف كنص الشارع"؛ أي: في كونه ملزمًا في العمل به وتنفيذه كما شرطه صاحبه، وكذلك في كونه يُفهم كما يُفهم نص الشارع. انظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (1/ 163، ط. دار الكتب العلمية)، و"الشرح الصغير" للعلامة الدردير (4/ 120، مع حاشية الصاوي، ط. دار المعارف)، و"الإقناع" للخطيب الشربيني (3/ 253، مع حاشية البجيرمي، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" للعلامة البهوتي (4/ 268).
ويدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، ومن الوفاء بالعقد والعهد: الوفاء بشرط الواقف على ما أراد بالخصوص، وكذلك عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون على شروطهم» رواه الترمذي.
عليه وفي واقعة السؤال: فإن الوقف الذي أوقفه سمو الأمير المذكور على المذكورين من أولاده ونسلهم ينزل منزلة الوصية في كونها لا تصح لوارثٍ إلا إن أجاز باقي الورثة لهؤلاء جميعًا، وأجاز كل واحد من الموقوف عليهم لباقي شركائه في هذا الوقف، ما دام المجيز مطلق التصرف، وإلا كان الوقف المذكور لاغيًا بالكلية إن لم يجزه المشار إليهم، ويعود الموقوف حينئذ ملكًا للورثة يقسم بينهم قسمة الميراث، وأما إن أجاز بعضهم دون البعض، فينفذ الوقف حينئذٍ في حق من أجاز فقط دون غيره، وذلك على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، الذي اشترط الواقفُ على نفسه تقليدَه في خصوص هذا الوقف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.