هل الفرقة للرضاع توجب النفقة؟ فقد حصلت فُرْقة بيني وبين زوجتي بعد ست سنوات من الزواج؛ بعد ثبوت رضاعها مع أخي الأكبر مني سنًّا، ونظرًا لأنني أعيش مع أسرتي في بيت واحد، فإنها لا تزال تعيش معنا في المنزل بداعي تربية الأولاد، وأنا لا أستطيع أن أخرجها من المنزل حتى لا تحدث مشكلات بيني وبين والدي، فهل هناك نفقة واجبة عليَّ تجاهها؟ وما حكم الشرع في بقائها في المنزل؟
لا تجب النفقة للمرأة المفارَقة لفساد الزواج بسبب ثبوت الرضاع الموجب للتحريم، وما دامَ هناك أولاد من هذا الزواج وهم صغارٌ ولا مال لهم، فنفقتهم واجبة على أبيهم، ولأمهم حضانتهم والسكنى معهم، ولها المطالبة بأجر الحضانة، ولا مانع شرعًا من اتفاقها مع أب أولادها أو أهله على سكناها وأولادها في بيتٍ خاصٍّ بهم، إذا كانت تأمن على نفسها وأولادها ومالها فيه.
المحتويات
النفقة: اسمٌ بمعنى الإنفاق، وهي عبارة عن الإدرار على الشيء بما به بقاؤه، والنفقة تجب بأسباب الزوجية؛ كما في "البناية" للإمام البدر العَيْني (5/ 659، ط. دار الكتب العلمية)، وهي تشمل الطعام والشراب والمسكن والعلاج وغير ذلك مما عليه قوام الحياة، كما نصت عليه المادة الأولى من قانون الأحوال الشخصية المصري رقم 25 لسنة 1920م.
قد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ النفقة بمشمولاتها لا تجب في نكاحٍ فاسدٍ أو باطلٍ؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاحٍ حقيقةً؛ ولأنَّ سبب وجوبها عقد الزواج الصحيح أو التمكين بعد العقد الصحيح.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (3/ 211، ط. دار الكتب العلمية): [فإن كانت معتدة من نكاح فاسد فلا سكنى لها ولا نفقة؛ لما ذكرنا أن حال العدة معتبرة بحال النكاح، ولا سكنى ولا نفقة في النكاح الفاسد، فكذا في العدة منه] اهـ.
وقال في (4/ 15) في بيان ما يثبت به الرضاع: [وإذا شهد رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان، وفرق بينهما: فإن كان قبل الدخول بها فلا شيء لها؛ لأنه تبين أنَّ النكاح كان فاسدًا، وإن كان بعد الدخول بها: يجب الأقل من المسمَّى ومن مهر المثل، ولا تجب لها النفقة والسكنى في سائر الأنكحة الفاسدة] اهـ.
وهذا الذي قرَّره خاصٌّ بمسألة ثبوت الرضاع بالطريق المعتبر لديهم وهو شهادة رجلَين عدلَين أو رجل وامرأتَين، أما لو ثبت بطريق ظني كأن شهدت به امرأةٌ واحدةٌ أو غيرُ عُدُولٍ؛ فالمُقرَّر في مذهب الحنفية: أنه إذا فارقها في هذه الحالة فـ"الأفضل للزوج أن يعطيها كمال المهر والنفقة والسكنى؛ لاحتمال جواز النكاح، والأفضل لها أن تأخذ الأقل من مهرٍ مِثلها ومن المسمَّى ولا تأخذ النفقة والسكنى لاحتمال الفساد، وإن لم يُطلِّقْها فهو في سَعَةٍ من المُقَامِ معها؛ لأنَّ النكاح قائم في الحكم" كما في "بدائع الصنائع" (4/ 15).
وقال الإمام البغوي الشافعي في "التهذيب" (6/ 254، ط. دار الكتب العلمية): [المعتدة من غير فرقةٍ النكاح؛ كالموطوءة بالشبهة، وبالنكاح الفاسد: فلا سكنى لها وسكنت حيث شاءت. أما النفقة والكسوة: فإن كانت حائلًا لا تستحقها] اهـ.
وقال الإمام النووي في "منهاج الطالبين" (ص: 264، ط. دار الفكر): [الحائل البائن بخلعٍ أو ثلاثٍ لا نفقة لها ولا كسوة، ويَجِبَانِ لحاملٍ لها، وفي قولٍ للحمل، فعلى الأول لا تجب لحاملٍ عن شبهةٍ أو نكاحٍ فاسدٍ] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (5/ 105، ط. دار الكتب العلمية): [لا سكنى لمعتدة عن وطء شبهة، ولو في نكاحٍ فاسدٍ] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (8/ 235، ط. مكتبة القاهرة): [لا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد؛ لأنه ليس بينهما نكاحٌ صحيحٌ، فإن طَلَّقها أو فرق بينهما قبل الوطء: فلا عِدَّة عليها، وإن كان بعد الوطء: فعليها العدة، ولا نفقة لها ولا سكنى إن كانت حائلًا؛ لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبَعْده أولى] اهـ.
بينما ذهب فقهاء المالكية إلى وجوب السكنى دون النفقة والكسوة في النكاح الفاسد دون تفرقة بين كون المرأة حاملًا أو غير حاملٍ، وأوجبوا لها إذا كانت حاملًا النفقة بمشمولاتها، وعللوا ذلك بأنه زواجٌ يثبت به النَّسَب، فيجب فيه السُّكْنى فترةَ العدة؛ إذ هي محبوسةٌ بسببه.
قال الإمام أبو سعيد البَراذِعِي المالكي في "تهذيب مختصر المدونة" (4/ 189، ط. دار البحوث للدراسات الإسلامية، دبي): [ويجب السكنى في فسخ النكاح الفاسد أو ذات مَحْرَمٍ لقرابة أو رضاع، كانت حاملًا أم لا؛ لأنه نكاحٌ يلحق فيه الولد وتعتد فيه حيث كانت تسكن، ولا نفقة عليه ولا كسوة إلا أن تكون حاملًا؛ فذلك عليه] اهـ.
على الأخذ بمذهب الحنفية ومن وافقهم جرى حكم محكمة النقض المصرية، فقد نصَّ على أن: [مناط وجوب النفقة للزوجة على الزوج هو قيام الزوجية بعقد صحيح، واحتباس الزوج إياها لاستيفاء المعقود عليه ما دامت في طاعته ولم يثبت نشوزها، ولم يقم الدليل على وجود مانع لديها يترتب عليه فوات القصد من الزواج ودواعيه] اهـ. (الطعن رقم 822 لسنة 72 ق- جلسة 21/ 3/ 2005م).
كما أن الرضاع المُحرِّم الموجِب للتفريق خاصة إذا كان بطريق القضاء -كما هو محل السؤال-، يترتب عليه ثبوت المحرمية المؤبدة بينها وبين مَن فارقته وإخوته ووالده من جهة الرضاع، فتحرم به على أصوله وفروعه.
قال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (1/ 494، ط. دار الكتاب العربي): [نزَّل اللهُ الرضاعةَ منزلةَ النسب، حتى سمَّى المرضعةَ أمًّا للرضيع، والمُرَاضَعةَ أختًا، وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه، وأبواه جدَّاه، وأختُه عمتُه، وكلُّ وَلَدٍ وُلِدَ له من غير المرضعة قَبْلَ الرضاع وبعدَه فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدَّتُه، وأختُها خالته، وكلُّ مَن وُلِدَ لها مِن هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومَن وُلِدَ لها مِن غيره فهم إخوته وأخواته لأمه] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 141 ط. دار المعرفة): [الرضاعة تُحرِّم ما تُحرِّم الولادة، أي وتبيح ما تبيح، وهو بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النظر والخلوة والمسافرة] اهـ.
فالـمَحْرَمُ هو كل مَن لا يجوز له مناكحة المرأة على التأبيد بقرابةٍ أو رضاعٍ أو مصاهرةٍ؛ كما في "درر الحكام" للعلامة منلا خسرو (1/ 217، ط. إحياء الكتب العربية).
فإن كان ثمة أولاد بين مَن فُرِّقَ بينهم بسبب الرضاع: فيثبت نسبهم للزوج، ومن ثمَّ وجب على الزوج نفقة أولاده وسكناهم، بلا خلاف بين الفقهاء؛ قال الإمام ابن المنذر في "الإشراف" (5/ 167، مكتبة مكة الثقافية): [وأجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّ على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم] اهـ.
إذا كان الأولاد صغارًا فإنَّ أمهم تكون حاضنة لهم؛ لأنها أولى بحضانة أولادها من غيرها؛ وذلك لما ورد عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن امرأةً قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحِجري له حِواءً، وإن أباه طَلَّقني وأراد أن ينتزعه مني؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تنكِحِي» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه". فجعل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم حضانة الطفل لأمه.
قال الإمام السَّرَخْسِي الحنفي في "المبسوط" (5/ 207، ط. دار المعرفة): [حقُّ الحضانة إلى الأمهات؛ لرفقهنَّ في ذلك مع الشفقة، وقدرتهنَّ على ذلك بلزوم البيوت، والظاهرُ أن الأم أحفى وأشفق من الأب على الولد، فتتحمل في ذلك من المشقة ما لا يتحمله الأب، وفي تفويض ذلك إليها زيادةُ منفعةٍ للولد] اهـ.
حيث كانت الأم حاضنةً لأولادها، فإنها تسكن معهم في المسكن الذي يعده لهم والدهم أو ما يتم الاتفاق عليه، ومن المعلوم أنَّ هذه الحضانة تحتاج إلى مرافقة وانقطاع لرعايتهم بما يصلح شؤونهم وأحوالهم، بما يعني الحاجة إلى النفقة حتى تستعين بها على مطالب الحياة؛ ولذلك فقد ذهب فقهاء الحنفية -وهو ما عليه القضاء المصري- إلى استحقاق الأمِّ المفارقة عن زوجها أجرَ الحضانة إن طالبت به ولم يوجد مَنْ يتبرع بحضانة الأطفال، فإن طالبت بالأجر نظير قيامها بحضانتهم والحال أنه لا مال للمحضونين؛ وجب في مال أبيهم.
قال العلامة الحَصْكَفِي الحنفي في "الدر المختار" (3/ 560، ط. دار الفكر): [(تستحقُّ) الحاضنة (أجرة الحضانة؛ إذا لم تكن منكوحةً ولا مُعتدَّة لأبيه)] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين في حاشيته "ردِّ المحتار" (3/ 561) مُعلِّقًا عليه: [(قوله: إذا لم تكن منكوحةً ولا مُعتدَّة لأبيه): هذا قيدٌ فيما إذا كانت الحاضنة أُمًّا، فلو كانت غيرها؛ فالظاهر استحقاقها أجرة الحضانة بالأولى] اهـ.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عدم وجوب النفقة للمرأة لعدم وجود سببها ليس مانعًا من مساعدتها أو إكرامها والوقوف بجانبها، بل هو من التعاون المطلوب شرعًا في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
بناء على ذلك: فلا تجب النفقة للمرأة المفارَقة لفساد الزواج بسبب ثبوت الرضاع الموجب للتحريم، وما دامَ هناك أولاد من هذا الزواج وهم صغارٌ ولا مال لهم، فنفقتهم واجبة على أبيهم، ولأمهم حضانتهم والسكنى معهم، ولها المطالبة بأجر الحضانة، ولا مانع شرعًا من اتفاقها مع أب أولادها أو أهله على سكناها وأولادها في بيتٍ خاصٍّ بهم، إذا كانت تأمن على نفسها وأولادها ومالها فيه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.