حكم قراءة صحيح البخاري وكتب السنة لرفع الوباء حيث ورد سؤال يقول صاحبه: في ظِلِّ ما يمرُّ به العالمُ من تفشِّي وباء كورونا يقومُ بعضُ العلماء وطلبة العلم بتنظيم قراءة "صحيح البخاري" بتقسيمه على من يحِبُّ المشاركةَ في ختمه، عن طريق وسائلِ التواصل الاجتماعي؛ تبرُّكًا وتوسُّلًا إلى الله تعالى لكشْف وباء كورونا، جريًا على ما اعتاده علماءُ الأزهر من قراءته في الملمَّات والنوازل: كدفع الوباء، وكشف البلاء، ومواجهة الغلاء.
لكن خرج بعضُ مدَّعي العلمِ على بعض المواقع زاعمًا أن التَّعبُّدَ بتلاوة صحيح البخاري لمجرد التِّلاوة بدعة، وأن التبرُّك والتوسُّل به حرام، وأنه لا فرقَ في ذلك بين "صحيح البخاري" و"مسلم" مثلًا، وأنها مجرَّد طقوس ابتدعها بعض الجهلة لمواجهة الأوبئة، وأنَّ توظيف "صحيح البخاري" للاستشفاء والتحصين لرفع البلاء أمرٌ متكلَّف، وأنَّ من ضرورياتِ الدين أنَّ المقصودَ مِن كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو العمل بِمَا فيهما مِن الأوامرِ والنَّواهي، والإيمان بِمَا فيهما مِن الأخبار، وليس المقصود مجرَّد تلاوتهما ألفاظًا وتعبُّدًا.. فبَيِّنوا لنا الصوابَ في ذلك مشكورين.
1- عادة إقراء "صحيح البخاري" عند النوازلِ من الكوارثِ والأوباء قديمة، جرت على لسان السراج البلقيني في اليقظة والمنام.
2- لعل أمر هذه الظاهرة يعودُ إلى أقدم من وباء الطاعون الذي عمَّ الدنيا سنة 749هـ، واشتهرت هذه الظاهرة عند قدوم تيمورلنك إلى بلاد المسلمين.
3- أشهر الإمام سراج الدين البلقيني العمل بها، ودوَّنتها كتب التراجم والتأريخ، ونقلنا ذلك عنه فيما مضى.
4- التحقيق أن هذا العمل ليس موصولًا بعصور السلف، وأنَّ شيوعَه وذيوعَه بحكم وقوعه ووجوده لا يعطيه الحجِّية، وأنه ما زال يحتاجُ للدليل، وأن مجرَّد رؤيةِ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يأمرُ به لا يكفي مُستَدلًّا؛ فالمنامات يُسْتَأنس بها وليست -عند أهل السنة والجماعة- حجةً وبرهانًا، وأن الاتِّكاء عليها مع ترْك الأخْذ بالأسباب بدعةٌ في الدين، ومضادَّة لمقاصدِ الشريعة الكلية، والله المستعان وهو الواقي والعاصم.
"صحيح الإمام البخاري" هو أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى، ولذلك اعتنى به المسلمون أعظم عناية؛ حتى صار علامةً على المنهج العلمي الدقيق وعلى التوثيق في النقل عند المسلمين.
والاعتناءُ بـ"صحيح البخاري" من أبواب رضا الله تعالى، وقراءتُه باب جليل من أبواب تعلم العلم النافع، وقراءتُه في النوازل والمهمات والملمات هو ما فعله علماء الأمة ومُحَدِّثوها عبر القرون سانِّين بذلك سُنة حسنة، ونصُّوا على أن قراءته وكتب الحديث سببٌ من أسباب تفريج الكرب ودفع البلاء؛ إذ لا شكَّ أن قراءةَ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودراسَتَها والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند القراءة من أعظم الأعمال الصالحة.
وقد جرت العادة في الديار المصرية قديمًا بقراءة "صحيح البخاري"؛ فابتُدئت قراءته في رمضان بالقلعة عام 775هـ بحضرة السلطان، حيث كان يجتمع بالقلعة طائفة من الفقهاء والعلماء لقراءة الصحيح، ويختم بشكل دوري كل ثلاثة شهور، ويقام لختمه حفلٌ.
وعلى ذلك جرى علماءُ الأزهر الشريف عبر القرون؛ حيث نُقِل كثيرٌ من الحوادثِ والوقائعِ التي اجتمع فيها علماء الأزهر لقراءة "صحيح البخاري" لدفع الوباء، والغلاء، والنصر على الأعداء، وخسوف القمر، وغير ذلك.
وأما دعوى نفي مقصود التلاوة والتبرُّك والتعبُّد بنصوص الكتاب والسنة: فهي دعوى باطلةٌ لم يُسبَق إليها صاحبها؛ إذ هي مبطلة لباب الرواية والتلقي في الدين، مخالفة لإجماع المسلمين، ولو كان المراد عدم الاكتفاء بالرواية عن الدراية لم يصحَّ ذلك حجة على المنع، فليس كلُّ أحد يحسن الدراية، والناس في ذلك متفاوتون، ولذلك كان الحُفَّاظ عبرَ القرونِ حريصين على قراءة الحديث وتلقيه، وكانوا يخصصون الساعاتِ الطوالَ لسرْد نصوصِ الكتب الحديثية ومتونها، وهذا باب يختلف عن باب الدراية والتفسير والشرح والبيان.
وتخصيص المسلمين لذلك شهرًا معينًا في السنة ومكانًا معينًا في بيت من بيوت الله لا يخرجُ طاعتهم وطلبهم للعلم عن المشروعية، بل ذلك أمرٌ ضروري لتنظيم طلب العلم وسماع الحديث، وإلا لكان تنظيم الدراسة في الكليات الشرعية مثلًا بزمان معين ومكان معين بدعة ضلالة، وهذا لا يقولُ به عاقل، وقد نصَّ أهل العلم على مشروعية تخصيص زمان معين أو مكان معين بالأعمال الصالحة.
وأما من اتهم المسلمين في فعلهم ذلك بالبدعة، فهو الأولى بهذا الوصف؛ لأنه تحجَّر واسعًا وضيَّق على المسلمين أمرًا جعل الشرعُ لهم فيه سعةً، حيث إن الإسلام حثَّ حثًّا مطلقًا على تعلُّم العلم وسماع كلام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر المطلق يقتضي عمومَ الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ومنع المداومة على الخير ضربٌ من ضروب الجهل والصدِّ عن العلم النافع، والناهي عن ذلك قد سنَّ سنةً سيئةً في المنع من فعل الخير وتنظيمه والمداومة عليه، مخالفًا بذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّ عمله كان ديمة، ومن أنَّ أحب الأعمال إلى الله أدومها كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يلتفت في نهيه هذا إلى عواقبِ ما يقوله ويزعمه مِن صرْف المسلمين عن سماع حديث نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ويُخشَى عليه أن يدخل بنهيه هذا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ [البقرة: 114]، نسأل الله العافية والسلامة، والله تعالى يديم المسلمين على هذه المواسم الصالحة المباركة ويسدد خطاهم ويتقبل منا ومنهم صالح الأعمال.
المحتويات
ندب الله تعالى عبادَه إلى اللجوء إليه عند نزول بأسه، ووَصَفَ مَنْ أعرضوا عن ذلك بقسوة القلوب؛ فقال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ [الأنعام: 43]، ومن مظاهرِ الالتجاء: الذِّكْرُ والدُّعاء، وأعظمُ الذِّكْرِ القرآنُ الكريم؛ لأنه وحيُ اللهِ المتلوُّ، والسُّنَّةُ المطهَّرة، وهي الوحي غير المتلو، والذِّكْر خيرُ ما يُتوَصَّل به إلى المطلوب كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» من حديث جماعة من الصحابة بأسانيدَ يُقوِّي بعضُها بعضًا، وقد حسَّنه الترمذيُّ والبغوي في "مصابيح السُّنة"، كما قال حذيفة رضي الله عنه، والبخاري في "التاريخ"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وابن أبي شيبة في "المصنف" والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث مالك بن الحارث رضي الله عنه، وابن عساكر في "معجمه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
"صحيح الإمام البخاري" هو أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى، ولذلك اعتنى به المسلمون أعظم عناية؛ حتى صار علامةً على المنهج العلمي الدقيق وعلى التوثيق في النقل عند المسلمين. والاعتناءُ به باب من أبواب رضا الله تعالى، وقراءتُه باب جليل من أبواب تعلم العلم النافع، وقراءتُه في النوازل والمهمات والملمات هو ما فعله علماء الأمة ومُحَدِّثوها عبر القرون؛ امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رواه مسلم.
وقد سنَّ علماءُ الأمة بذلك سُنة حسنة يشملها قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَنَّ في الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُهَا وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَن يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ في الْإِسْلَامِ سُنَّةً سيِّئةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» رواه مسلم.
فالمطر يُستسقَى بالأعمال الصالحة، ولا شكَّ أن قراءةَ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودراسَتَها من أعظم تلك الأعمال.
أما كلامُه فعلى اعتبار كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند القراءة، والله أعلم.
فبالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزلُ المطر -وفقك الله- وبه فلا يكونُ معللًا، وأستغربُ كيف ذهب بعضُ أكلة القشور إلى جعلها مِنْ التوسل غير الصحيح! فليس فيما نقلتُم ما توهم بعض الرافضة.
نصَّ العلماء والعارفون على أن قراءة "صحيح الإمام البخاري" رحمه الله تعالى وكتب الحديث سببٌ من أسباب تفريج الكرب ودفع البلاء:
قال الإمام القدوة الحافظ أبو محمد بن أبي جمرة (ت699هـ) في "شرحه" على "مختصر صحيح البخاري" (1/ 6، ط. مطبعة الصدق الخيرية): [كان الإمام البخاري رحمه الله تعالى من الصالحين، وكان مجابَ الدعوة، ودعا لقارئه، وقد قال لي من لَقِيتُه من القُضَاة الذين كانت لهم المعرفة والرحلة، عمن لَقِيَ من السادة المُقَرِّ لهم بالفضل: إن كتابَه ما قُرِئَ في وقت شدَّة إلا فُرِّجَتْ، ولا رُكِبَ به في مركب فغرقت قط] اهـ بتصرف يسير.
ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني قولَه هذا في مقدمة "فتح الباري" (1/ 13، ط. دار المعرفة) مرتضيًا له، وعدَّه من وجوه تفضيل "صحيح البخاري" على غيره من كتب السُّنة، وهذا يبين سِرَّ مواظبة العلماء على قراءة "صحيح البخاري" دون غيره لدفْع الملمَّات.
وقال الإمام الحافظ تاج الدين السبكي (ت771هـ) في "طبقات الشافعية الكبرى" (2/ 234، ط. هجر): [وأمَّا "الجامع الصحيح" وكونه ملجأً للمعضلات، ومجرَّبًا لقضاء الحوائجِ فأمرٌ مشهورٌ. ولو اندفعنا في ذكر تفصيل ذلك وما اتفق فيه لطال الشرح] اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/ 527، ط. دار هجر): [الصحيح يُستَسقَى بقراءته الغمام، وأجمع على قبوله وصحةِ ما فيه أهلُ الإسلام] اهـ.
وقال الإمام الأديب محمد بن عبد اللطيف السبكي الشافعي (ت744هـ) فيما نقله التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (9/ 181-182، ط. دار هجر):
مِثْل البُخَارِيِّ الإِمَامِ المرتضَى
مَن فَضلُه فِي النَّاس بَحرٌ قد طما
وَكتابُه كالغيث يُستَسقَى بِهِ
وَهُوَ المجرَّب فِي الشَّديد وكشفِه
فَهُوَ الَّذِي اغتبق الْفَضَائِل واصطبح
وعرائسٌ تُجلَى وغيثٌ قد طَفح
فسِواه فِي كرباتنا لم يُسْتَنَحْ
أوليس فِي غاراتِ أَمرٍ قد وَضح؟!
وقال العلامة محمد بن عبد الحق العقيلي المالكي (ت993هـ) فيما نقله العلامة العيدروس في "النور السافر عن أخبار القرن العاشر" (ص: 556، ط. دار صادر):
صَحِيحُ البخاريِّ لَو أنصفوا ... لما خُــطَّ إِلَّا بِمَـاء الْبَصَرْ
فقد قَالَ قوم لَهُم خبْرَة ... هُوَ الْبُرْءُ من كلِّ أَمرٍ خطَرْ
لدُنيا وَأُخْـرَى وَفِي كلِّ مَا ... ترجي وتبغي بِهِ مــن وَطَرْ
وكان العلماء يتوَخَّوْنَ ختمَ البخاري تلمسًا لاستجابة الدعوات:
يقول شيخ الإسلام العلامة جمال الدين الأشخر (ت991هـ) شيخ الشافعية في اليمن في قصيدته التي أنشأها في ختم قراءة "صحيح البخاري"، والتي مطلعها:
حدثاني عن الغزال الغريري ... بأسانيد ما لها من نظير
حضر الــختْمَ جمعنا مترجّين ... نوالًا من المليك القدير
كلُّهم مرتجٍ لغفران ذنب ... قدره في جناب غفر الغفور
لو كبيرًا قد كان أي صغـير ... فتساوى كبيره بالصغير
ولتيسير كل عسر وتسهيل .... حزون وجبر كل كسير
وليقي فتن الغنى كل مثر ... وافتتانًا بالفقر كل فقير
وقال العلامة حسين بن عبد الباقي الأزهر الزبيدي في مجلس ختم البخاري عام 991هـ، قراءة على محدث اليمن العلامة الحافظ الطاهر بن الحسين الأهدل، في قصيدته التي مطلعها:
عَنْ عِنْ أحاديثَ الحبيبِ وسلسلِ ... وارفع أحاديثَ الحبيب الأوَّل
وادفع به نوْبَ الزمان فكم به ... من نكبةٍ صُرفت وخطبٍ معضل
ففي حوادث سنة 680هـ: قال الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" (11/ 154): [وفي يوم الأحد لثمانٍ مضين من شوال منها -وهو سابع كانون الأول- سقط ببغداد ثلج عظيم جدًّا حصل بسببه برد شديد، بحيث أتلف كثيرًا من النخيل والأشجار، وجمدت الأدهان حتى الأشربة، وماء الورد والخل والخلجان الكبار، ودجلة، وعقد بعض مشايخ الحديث مجلسًا للتحديث على متن دجلة من فوق الجمد، وكتب هنالك، ثم انكسر البرد بمطر وقع، فأزال ذلك كله، ولله الحمد] اهـ.
قال الإمام الصفدي في "أعيان العصر وأعوان النصر" (4/ 582، ط. دار الفكر): [ولما جاءت التتار ورد مرسوم السلطان إلى مصر بجمع العلماء وقراءة "البخاري"، فقرأوا البخاري إلى أن بقي ميعاد أخروه ليختم يوم الجمعة، فلما كان يوم الجمعة رُئي الشيخ تقي الدين في الجامع فقال: ما فعلتم ببخاريكم؟ فقالوا: بقي ميعاد ليكمل اليوم، فقال: انفصل الحال من أمس العصر وبات المسلمون على كذا، فقالوا: نخبر عنك؟ قال: نعم، فجاء الخبر بعد أيام بذلك، وذلك في سنة ثمانين وستمئة على حمص، ومقدم التتار منكوتمر] اهـ.
وفي حوادث سنة 690هـ: قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/ 320، ط. دار الفكر): [وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدًا عكا، فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر ونصبت عليها المجانيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غايةَ الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها، واجتمع الناسُ بالجوامع لقراءة "صحيح البخاري"، فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري (ت705هـ)، فحضر القضاة والفضلاء والأعيان] اهـ.
وفي حوادث سنة 695هـ: قال الإمام شمس الدين الجزري القرشي (ت738هـ) في كتابه "تاريخ حوادث الزمان وأنبائه" (1/ 283، ط. المكتبة العصرية): [وأما أهل دمشق المحروسة، فإنه تأخَّر المطرُ بها كما تقدَّم ذكره، فأشار قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بقراءة "صحيح البخاري" تحت النسر بالجامع، وطلب الشيخ شرف الدين الفزاري ليقرأه ليحصل التبرُّك بذلك بسبب القحْط وتأخُّر المطر، وذلك يوم الأحد تاسع صفر، ليُنزِل الله رحمته ويُحيي البلاد والعباد، فقرر الميعاد للغد، فأنزل الله تعالى المطر تلك الليلة قبل الشروع في القراءة بحضور قاضي القضاة بدر الدين، وجماعة كبيرة من المشايخ والناس، وحضر جمع كثير من أهل دمشق، ووصلت الغرارة بدمشق إلى مائة وخمسة وأربعين درهمًا، وأبيع الخبز رطل ووقية بدرهم، واللحم بأربعة دراهم، ولطف الله تعالى بأهل دمشق فوقع أيضًا مطر يوم السبت ثاني عشرين صفر، وكان آخر يوم من كانون الأول، واستمرَّ ليلة الأحد ويوم الأحد وبعض ليلة الإثنين، واستبشر الناس بذلك إلى غاية، وعاد خوفهم من بعد ذلك أمنًا، ثم جاء من بعد ثلج كثير من مستهل ربيع الأول، وزادت الأنهار بالماء الكافوري، وجرت أودية حوران، ودارت أرحيتها] اهـ.
وقال الإمام الحافظ علم الدين البرزالي الدمشقي (ت739هـ) في تاريخه "المقتفي على كتاب الروضتين" (2/ 424، ط. المكتبة العصرية): [وتأخر المطر بدمشق وبلاد حوران، ودخل فصل الشتاء، وكان دخوله في سادس صفر والناس في ضيق وشدة، والأسعار عالية، والناس بحوران في شدة من قلَّة المياه، وكان المسافر يحتاجُ أن يسقيَ دابته بدرهم، ويشرب بربع درهم، وظهر القحط وقلة المرعى.
(قراءة "صحيح البخاري") تقرَّر يوم الأحد تاسع صفر الميعاد لقراءة "صحيح البخاري"، فأنزل الله تعالى المطر قبل الشروع، وشرع في القراءة والمطر واقع، وحصلت رحمة عظيمة، واستبشر الناس بذلك] اهـ.
وقال الحافظ الذهبي (ت748هـ) في "تاريخ الإسلام" (52/ 39، ط. دار الكتاب العربي): [وأما الشَّام فلم يكن مرخصًا، وتوقَّف المطر به، وفزع الناس، واجتمعنا لسماع "البخاري" ففتح الله بنزول الغيث] اهـ.
وفي سنة 748هـ، في شهر رجب: هبَّت ريح شديدة جدًّا، ثم انجلت وقد علت وجوهَ الناس صفرةٌ ظاهرةٌ في وادي دمشق كلِّه، وأخذ فيهم الموت مدة شهر رجب، فبلغ في اليوم ألفًا ومائتي إنسان، وصارت الأموات مطروحةً في البساتين على الطُّرقات، نادى قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين السبكي (ت756هـ) ونائبه بدمشق باجتماع الناس بالجامع الأموي، فصاروا به جمعًا كبيرًا، وقرأوا صحيح البخاري في ثلاثة أيام وثلاث ليال.. فتناقص الوباء حتى ذهب بالجملة كما ذكر العلامة ابن تغري بردي (ت874هـ) في "النجوم الزاهرة" (10/ 203-204، ط. دار الكتب المصرية).
وقال في السنة نفسها (10/ 204-205): [وفي شعبان تزايد الوباء بديار مصر، وعظم في شهر رمضان وقد دخل فصل الشتاء فرُسِمَ بالاجتماع في الجوامع للدعاء في يوم الجمعة سادس شهر رمضان، فنودي أن يجتمع الناسُ بالصَّناجق الخليفتية والمصاحف إلى قبَّة النصر خارج القاهرة، فاجتمع الناس بعامَّة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريون إلى مصلى خولان بالقرافة، واستمرَّت قراءةُ البخاريِّ بالجامع الأزهر وغيره عدَّة أيام، والناس يدعون إلى الله تعالى ويقنتون في صلواتهم] اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (18/ 502-503) في أحداث سنة 749هـ: [وتواترت الأخبارُ بوقوع الوباء في أطراف البلاد، فذُكِرَ عن بلاد القرم أمر هائل، وموتان فيهم كثير، ثم ذُكِرَ أنه انتقل إلى بلاد الفرنج، حتى قيل: إن أهل قبرص مات أكثرُهم، أو ما يقارب ذلك، وكذا وقع بغزة أمرٌ عظيمٌ في أوائلِ هذه السنة، وقد جاءت مطالعة نائب غزة إلى نائب دمشق: أنه مات من يوم عاشوراء إلى مثله من شهر صفر نحوٌ من بضعة عشر ألفًا، وقُرِئَ البخاريُّ في يوم الجمعة بعد الصلاة سابع ربيع الأول في هذه السنة، وحضر القضاةُ وجماعةٌ من الناس، وقرأت بعد ذلك المقرئون، ودعا الناس برفع الوباء عن البلاد] اهـ.
وقال العلامة المقريزي في "السلوك لمعرفة دول الملوك" (4/ 366، ط. دار الكتب العلمية) في أحداث 775هـ: [وفيه استجَدَّ السلطانُ عنده بالقصر من قلعة الجبل قراءةَ كتابِ "صحيح البخاري" في كل يوم من أيام شهر رمضان بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم تبركًا بقراءته؛ لِمَا نزل بالناس من الغلاء، فاستمرَّ ذلك، وتناوب قراءتَه: شهابُ الدين أحمد بن العرياني، وزينُ الدين عبد الرحيم العراقي؛ لمعرفتهما علمَ الحديث، فكان كلُّ واحدٍ يقرأ يومًا] اهـ.
وفي حوادث سنة 789هـ: قال مؤرخ اليمن العلامة أبو الحسن علي بن الحسن الخزرجي اليمني (ت812هـ) في "العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية" (2/ 193، ط. مطبعة الهلال): [وفي النصف من شهر شعبان حصل في نواحي عدن زلازلُ شديدة وأَقامت أيامًا وسقط بعض دور عدن، وفزعوا عند ذلك إلى تلاوة القرآن وقراءَة "البخاري" من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وفي حوادث سنة 790هـ: قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر بأبناء العمر" (1/ 354، ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية): [فندب القاضي برهان الدين بن الميلق جماعة لقراءة "البخاري" بالجامع الأزهر، ودعوا الله عقب ختمه برفع الوباء، ثم اجتمعوا يوم الجمعة بالجامع الحاكمي ففعلوا مثل ذلك، ثم اجتمعوا أكثر من عددهم الأول فاستغاثوا بالجامع الأزهر، وكان وقتًا عظيمًا، فارتفع الوباء في ثاني جمادى الآخرة بعد أن بلغ في كل يوم ثلاثمائة نفس] اهـ.
وقد جرت العادة في الديار المصرية قديمًا بقراءة "صحيح البخاري"؛ فابتُدئت قراءته في رمضان بالقلعة عام 775هـ بحضرة السلطان، وكان القارئ هو حافظ زمانه ومحدث عصره الإمام زين الدين العراقي (ت806هـ)، ثم أشرك معه الشهاب العرياني، حيث كان يجتمع بالقلعة طائفة من الفقهاء والعلماء لقراءة الصحيح، ويختم بشكل دوري كل ثلاثة شهور، ويقام لختمه حفلٌ يخلع فيه السلطان الخِلَعَ على قاضي القضاة والقضاة والعلماء؛ كما ذكره العلامة المؤرخ ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" (15/ 93) في سنة 841هـ، والعلامة ابن شاهين الظاهري المصري (ت893هـ) في كتابه "زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك" (ص: 92، ط. باريس 1894م).
وعلى ذلك جرى علماءُ الأزهر الشريف عبر القرون؛ حتى اعتنى العلامة الجبرتي في خططه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" بنقل كثير من الحوادثِ والوقائعِ التي اجتمع فيها علماء الأزهر لقراءة "صحيح البخاري" لدفع الوباء، والغلاء، والنصر على الأعداء، وخسوف القمر، وغير ذلك:
يقول في "الخطط" (2/ 78-79، ط. دار الجيل) في سنة 1203هـ: [وفي يوم الخميس ثامن عشرينه ورد مرسوم من الدولة، فعمل الباشا الديوان في ذلك وقرأوه، وفيه الأمر بقراءة "صحيح البخاري" بالأزهر والدعاء بالنصر للسلطان على الموسقو (الروس) فإنهم تغلبوا واستولوا على قلاع ومدن عظيمة من مدن المسلمين، وكذلك يدعون له بعد الأذان في كل وقت، وأمر الباشا بتقرير عشرة من المشايخ من المذاهب الثلاثة يقرأون "البخاري" في كل يوم، ورتَّب لهم في كل يوم مائتين نصف فضة، لكل مدرس عشرون نصفًا من الضربخانة، ووعدهم بتقريرها لهم على الدوام بفرمان] اهـ.
وقال أيضًا (3/ 395) في سنة 1228هـ: [وفيه أيضًا زاد الإرجافُ بحصول الطاعون وواقع الموت منه بالإسكندرية، فأمر الباشا بعمل كورنتينة بثغر رشيد، ودمياط، والبراس، وشبرا، وأرسل إلى الكاشف الذي بالبحيرة بمنع المسافرين المارين من البر، وأمر أيضًا بقراءة "صحيح البخاري" بالأزهر، وكذلك يقرأون بالمساجد والزوايا سورة الملك والأحقاف في كل ليلة؛ بنِيَّةِ رفْع الوباء] اهـ.
وقال أيضًا (3/ 568-569) في سنة 1232هـ: [وفي أواخره حصل الأمرُ للفقهاء بالأزهر بقراءة "صحيح البخاري"، فاجتمع الكثير من الفقهاء والمجاورين وفرقوا بينهم أجزاء وكراريس من "البخاري" يقرؤون فيها في مقدار ساعتين من النهار بعد الشروق، فاستمروا على ذلك خمسة أيام؛ وذلك بقصد حصول النصر لإبراهيم باشا] اهـ.
وقال أيضًا (3/ 579) في جمادى الثانية سنة 1233هـ: [في منتصفه ليلة الثلاثاء حصل خسوف للقمر في سادس ساعة من الليل، وكان المنخسف منه مقدار النصف، وحصل الأمر أيضًا بقراءة "صحيح البخاري" بالأزهر] اهـ.
وذكر العلامة الغازي المكي في "إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام" (2/ 460-462، ط. مكتبة الأسدي) عن العلامة الحضراوي (ت1327هـ) في "تاج تواريخ البشر": أنه كان بالمدينة المنورة وباء قدم أصله من خيبر، مات منه جملة من الزوار، فقام علماء الحرم بقراءة "صحيح البخاري" تجاه البيت المعظم، وابتهلوا إلى الله تعالى أن يدفعَ الله السُّوء عن أهل هذا البلد وعن سائر المسلمين، حتى صرف الله السوء.
وفي حوادث سنة 1298هـ: يقول العلامة أبو عبد الله السنوسي في "مسامرات الظريف بحسن التعريف" (1/ 367، ط. دار الغرب الإسلامي) في ترجمة الشيخ محمد الشريف (ت1307هـ): [وهو أوَّل مَن جمع الناسَ لخَتْم البخاري في مجلس واحد؛ للاستغاثة ودفْع الكروب، وذلك أواسط جمادى الأولى سنة 1298 ثمانٍ وتسعين، فحضر بجامع الزيتونة عند باب الشفاء، وأحضر نسخة من "صحيح البخاري" مجزأة عشرين جزءًا في غاية الضبْط والصحَّة، وجمع معه تسعة عشر مدرسًا من علماء جامع الزيتونة؛ ليرويَ كلُّ واحد جزءًا كاملًا في ذلك المجلس، فحضرنا هنالك قبل الزوال بأربع ساعات، واستمرَّ بنا على رواية "الصحيح" المذكور إلى مضي ساعة من الزوال، فتمت روايته في خمس ساعات من يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1298هـ ثمانٍ وتسعين، وقد واظب الشيخ مدَّة على ذلك مع ذكر الاسم اللطيف وأدعية مدة استمرت إلى منتصف جمادى الثانية يحضر معه في كلِّ يوم بعضُ المدرسين ويتلو بينهم في آخر المجلس استغاثات مناسبة للحال] اهـ.
وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي":
[وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في "أشعة اللمعات": قرأ كثيرٌ من المشايخِ والعلماء الثقات "صحيح البخاري" لحصول المرادات، وكفاية المهمات، وقضاء الحاجات، ودفع البليات، وكشف الكربات، وصحة الأمراض، وشفاء المرضى، وعند المضائق والشدائد، فحصل مرادهم وفازوا بمقاصدهم، ووجدوه كالترياق مجربًا، وقد بلغ هذا المعنى عند علماء الحديث مرتبةَ الشهرة والاستفاضة.
ونقل السيد جمال الدين المحدِّث عن أستاذه السيد أصيل الدين، أنه قال: قرأتُ "صحيح البخاري" نحو عشرين ومائة مرةٍ في الوقائعِ والمهمات لنفسي وللناس الآخرين، فبأي نية قرأتُه حصل المقصود وكفى المطلوب -انتهى مترجمًا بالعربية-.
قلت: قد أجاز كثيرٌ من أهل العلم في هذا الزمان قراءة "صحيح البخاري" وختمه لشفاء الأمراض ودفع المصائب وحصول المقاصد؛ فيجتمعون ويقرأ بعضهم الجزء الأول منه مثلًا، وبعضهم الجزء الثاني، وبعضهم الثالث، وهكذا.. فيختمونه باجتماعهم، ثم يدعون الله تعالى لشفاء مرضاهم، أو لدفع مصائبهم، أو لحصول مقاصدهم.
واستدلوا على ذلك بأنَّ قراءته بتمامه رقيةٌ لشفاء المرضى ودفْع المصائبِ وحصول المقاصدِ، والرقية بما ليس فيه شركٌ ولا كلمة لا يفهم معناها جائزة بالاتفاق.
فإن قيل: كيف علموا أن قراءته بتمامه رقية، ولم يثبت كونه رقية: لا بالكتاب ولا بالسُّنة ولا بالإجماع؟
يقال: كون شيء من الآيات القرآنية أو ذكْر أو دعاء من الأذكار والأدعية المأثورة رقية لشيء من الأمراض، وجواز الاسترقاء به لا يتوقَّف على ثبوت كونه رقيةً من الكتاب والسنة؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبَوْا أن يضيفوهم، فلُدِغ سيد ذلك الحي، فسعَوْا بكل شيء، لا ينفعه شيء.. الحديث. وفيه: فقال: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟».
قال الحافظ في "الفتح": "وزاد سليمان بن قتة في روايته بعد قوله: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟، قلت: أُلقِيَ في رُوعي، والدارقطني من هذا الوجه: فقلتُ: يا رسول الله، شيءٌ أُلقِيَ في رُوعي، وهو ظاهر في أنه لم يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرقي بالفاتحة، ولهذا قال أصحابه لما رجع: ما كنتَ تُحسِنُ رُقيةً! كما وقع في رواية معبد بن سيرين] اهـ.
أما دعوى نفي مقصود التلاوة والتبرُّك والتعبُّد بنصوص الكتاب والسنة: فهي دعوى باطلةٌ لم يُسبَق إليها صاحبها؛ إذ هي مبطلة لباب الرواية والتلقي في الدين، مخالفة لإجماع المسلمين، ولو كان المراد عدم الاكتفاء بالرواية عن الدراية لم يصحَّ ذلك حجة على المنع، فليس كلُّ أحد يحسن الدراية، والناس في ذلك متفاوتون، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في قوله: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالتِي فَحَفِظَهَا فَأدَّاهَا؛ فَرُبَّ حَامِل فِقه غَيْر فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أفقَهُ مِنْهُ» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وهو حديث متواتر.
كان الحُفَّاظ عبرَ القرونِ حريصين على قراءة الحديث وتلقيه، وكانوا يخصصون الساعاتِ الطوالَ لسرْد نصوصِ الكتب الحديثية ومتونها؛ كحال المقرئين في تلقي كتاب الله تعالى، وهذا باب يختلف عن باب الدراية والتفسير والشرح والبيان.
فذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي (ت463هـ) في "تاريخ بغداد": أنه سمع "صحيح البخاري" كله من الشيخ إسماعيل بن أحمد الحيري في ثلاثة مجالس: اثنان منها في ليلتين: يبتدئ بالقراءة وقت صلاة المغرب، ويقطعها عند صلاة الفجر، والثالث من ضحوة النهار إلى المغرب، ثم من المغرب إلى وقت طلوع الفجر.
قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (10/ 175، ط. دار الغرب الإسلامي) بعدما ساقها: [وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه] اهـ.
وسمعه كذلك من الشيخة كريمة المروزية في مكة في خمسة أيام؛ كما ذكر الحافظ ابن الجوزي في ترجمته من "المنتظم".
وتخصيص المسلمين لذلك شهرًا معينًا في السنة ومكانًا معينًا في بيت من بيوت الله لا يخرجُ طاعتهم وطلبهم للعلم عن المشروعية، بل ذلك أمرٌ ضروري لتنظيم طلب العلم وسماع الحديث، وإلا لكان تنظيم الدراسة في الكليات الشرعية مثلا بزمان معين ومكان معين بدعة ضلالة، وهذا لا يقولُ به عاقل، وقد نصَّ أهل العلم على مشروعية تخصيص زمان معين أو مكان معين بالأعمال الصالحة.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 69) وهو يتكلم على حديث ابن عمر رضي الله عنهما في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشيًا وراكبًا: [وفي هذا الحديث على اختلاف طرقه دلالةٌ على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك] اهـ.
وأما من اتهم المسلمين في فعلهم ذلك بالبدعة، فهو الأولى بهذا الوصف؛ لأنه تحجَّر واسعًا وضيَّق على المسلمين أمرًا جعل الشرعُ لهم فيه سعةً، حيث إن الإسلام حثَّ حثًّا مطلقًا على تعلُّم العلم وسماع كلام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر المطلق يقتضي عمومَ الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ومنع المداومة على الخير ضربٌ من ضروب الجهل والصدِّ عن العلم النافع، والناهي عن ذلك قد سنَّ سنةً سيئةً في المنع من فعل الخير وتنظيمه والمداومة عليه، مخالفًا بذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّ عمله كان ديمة، ومن أنَّ أحب الأعمال إلى الله أدومها كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، ولم يلتفت في نهيه هذا إلى عواقبِ ما يقوله ويزعمه مِن صرْف المسلمين عن سماع حديث نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ويُخشَى عليه أن يدخل بنهيه هذا في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ [البقرة: 114]، نسأل الله العافية والسلامة، والله تعالى يديم المسلمين على هذه المواسم الصالحة المباركة ويسدد خطاهم ويتقبل منا ومنهم صالح الأعمال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.