ما حكم الاستفادة من الأجنة المجهضة في التجارب العلمية والعلاج وزراعة الأعضاء؟
الانتفاع بالأجنة المجهضة في التجارب العلمية والعلاج وزراعة الأعضاء جائز إذا ما روعي في ذلك جملةٌ من الضوابط، ومنها:
أولًا: أن يكون الإجهاض بسبب معتبر شرعًا، وألا يتعمد حصوله من أجل الانتفاعِ بالأجنة.
ثانيًا: أن يكون استخدام هذه الأجنة بموافقة الوالدين ورضا كليهما أو من يقوم مقامهما عند فقدهما.
ثالثًا: أن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق هذه الأغراض والمصالح المبتغاة إلا باستخدام هذه الأجنة المجهضة.
رابعًا: وجود هيئة متخصصة موثوقة تابعة للدولة تقوم بالإشراف على هذه الأغراض وإجراءات تنفيذها.
خامسًا: اتباع الإجراءات والضوابط القانونية والمهنية المرعية في مثل هذه الحالات.
سادسًا: أن تكون التجارِبُ التي يُرادُ الاستفادةُ بالأجنة فيها مبنيةً على أسس علمية معترَفٍ بها، وألَّا يُتجاوَزَ فيها الأصولُ العلميةُ لعلمِ الطب.
سابعًا: اتخاذُ كافة الإجراءات والضوابط التي تُبْعِدُ هذه العمليةَ عن نِطَاقِ التَّلَاعُبِ بالإنسان.
المحتويات
مِن المقاصد الكلية التي عُنِيَ بها الشرعُ الشريف عنايةً بالغةً: حفظُ النفس وصَوْنُها عن كل ما يَلحق بها من الأذى، من أجل ذلك كان تحصيلُ جميعِ العلوم المُوصِّلَةِ إلى هذه الغاية وذلك المقْصِدِ -فرضَ كفاية في حقِّ الأمة، وكان الاحترافُ فيها والسعيُ في التقدم إلى أعلى تقنياتها ووسائلها فرضَ عينٍ على المتخصِّص القادر على ذلك، ومِن هذه العلوم: علمُ الطب الذي تطور في العقودِ الأخيرةِ تطورًا يَستحق الإشَادة به، والنَّظرَ في مُستَجِدَّاتِه مِن منظور الشرع الشريف؛ وذلك للوقوف على مدى توافقها مع دلالات نصوصِه وقواعدِه الكليَّة وضوابطِه المنهجيَّة، ومن هذه المستجِدَّات: الاستفادةُ من الأجنةِ المجهَضة في التجارِبِ العلمية والعلاجية.
ويختلف الحكم الفقهي في مشروعيةِ الاستفادةِ بالأجنة المجهَضة وَفْقًا لاختلافِ المرحلةِ العمرية التي أُجْهِض فيها ذلك الجنين، وذلك على التفصيل الآتي:
الجنينُ المجهَضُ في الشهور الأولى من الحمل، وقبل تمام مائة وعشرين يومًا، وهو الذي لم ينفخ فيه الروح على ما اتفق عليه الفقهاء، وهو وإن كان له مراحل نموٍّ قبل هذه المرحلة بأوصاف محددة إلا أن حياته الإنسانية وما يلزم عنها من حركة لا تبدأ إلا بنفخ الروح فيه، أي ما بعد تمام الشهر الرابع، وهو ما قرره القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12- 14].
وعَنْ عَبْدِ الله بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم، وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يُرسَل الملَك فينفخ فيه الروح... الحديث" متفق عليه.
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (17/ 24- 25، ط. هجر) في بيان معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾: [وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك نفخ الروح فيه؛ وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقًا آخر إنسانًا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم، وبنفخ الروح فيه يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحول أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانًا وخلقًا آخر، غير الطين الذي خُلِقَ منه] اهـ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المُعْلم بفوائد مسلم" (8/ 123، ط. دار الوفاء): [اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا] اهـ.
وحالة نزول الجنين في هذه المرحلة -أي قبل تمام مائة وعشرين يومًا- لا تتضح فيها الصورة الإنسانية بشكل مكتمل، بل في بعض الأحيان لا يزيد عن كونه كتلة من الدم المتجمع لا تتجاوز السنتيمترات القليلة، وتكون أنسجتها غير متماسكة، فلا يتحمل التغسيل والتكفين؛ لاحتمال تهتكها بمجرد ملامستها، فلا تجري عليه في هذه الحالة جميع أحكام الميت من تغسيله وتكفينه ودفنه، وإنما يُكتفَى فقط بستره ودفنه إن سمحت حالته بذلك.
ولما كان الحال كذلك في هذه المرحلة من عدم اكتمال خَلْق الجنين المجهض وتَعَذُّر تكفينه ودفنه غالبًا، فإن دعت الحاجة إلى الانتفاعِ ببعض ما يشتمل عليه من أنسجة أو خلايا في التجارِب العلمية التي يعود نفعُها على جنسِ الإنسان أو على بعضِ المرضى كالأبحاث المتعلقة بعلم الجينات أو الهندسة الوراثية، فلا مانع من ذلك شرعًا؛ تحقيقًا للمصلحة، ولانتفاء امتهان حرمة الإنسان التي هي مظنة المنع من ذلك، وهو ما يتوافق مع الأصول العامة ومقاصد الشرع الشريف؛ فإن "الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ"، كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (6/ 446، ط. دار ابن عفان).
الجنينُ المجهضُ بعد تمام 120 يومًا له حالتين:
أن يجهض ميتًا، أو حيًّا ثم يفارق الحياةَ فور نزوله، فحكمه حينئذٍ حكم الآدمي الذي فارق الحياة، وحرمتُه كحرمةِ الحي، فيحرُمُ المساسُ به أو الانتفاعُ بجسده إلا في حال الضرورة الداعية لذلك، لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ولحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كَسرُ عَظمِ المَيِّتِ كَكَسرِهِ حَيًّا» رواه مالك في "الموطأ" وأبو داود وابن ماجه في "سننيهما".
قال العلامة أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (2/ 30، ط. مطبعة السعادة): [قوله: "كسر عظم المسلم مَيْتًا ككسره وهو حيٌّ" يريد أن له من الحرمة في حال موته مثل ما له منها حال حياته، وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته] اهـ.
فإن تحققت الحاجة أو الضرورة لتَحَتُّم الانتفاع به من أجل إجراء بعض التجارب الطبية كالكشفِ عن الأمراض الوبائية المستجِدة، وأخْذِ سُبُلِ الاحتياطِ التي تَقِي الإنسانَ الإصابةَ بها، أو لمداواةِ بعضِ الأمراض المناعية أو الجينية المستعصية، أو زراعةِ بعضِ الأعضاءِ الداخلية منها لمن يحتاج إليها من المرضى، أو غير ذلك من أوجه الاستفادة المعتبرة، فلا مانع شرعًا حينئذ، فإن الشرع الشريف جاء موافقًا للعلم داعيًا إليه في كل مجالٍ نافع للإنسان، خاصةً إذا قُصِدَ به الحفاظُ على النفس -الذي هو أحد المقاصد الشرعية- وإحياؤها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
فالعلاج إذا كان مأذونًا فيه ابتداءً كانت وسائلُه وما يتوقفُ عليهِ مأذونًا فيها أيضًا؛ لأن القاعدة أنَّ الإذنَ في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده، كما في "إحكام الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 288، ط. مطبعة السُّنَّة المحمدية).
ولا يعترض على مشروعية ذلك بأن فيه تعارضًا مع حرمة الجنين الميت؛ إذ قد تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الضرورات تبيح المحظورات"، وأنَّ حقَّ الحي مُقدَّمٌ على حقِّ الميت إذا تعارضَا ولم يمكن الجمع بينهما؛ رعايةً لرفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، كما في "تكملة البحر الرائق" للعلامة الطوري الحنفي (8/ 233، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي الشافعي (ص: 87، ط. دار الكتب العلمية).
والقول بجواز ذلك حال الضرورة أو الحاجة جارٍ على ما اعتبره الفقهاء من تغليب مصلحة الحي على الميت في غير مسألة من المسائل التي استحدثت في زمانهم، والتي منها شق بطن من ماتت وولدها حي، وشق البطن لإخراج ما قد ابتلعه الميت من مال قبل وفاته. ينظر ما قرره العلامة أبو بكر الرازي الحنفي في "تحفة الملوك" (ص: 239، ط. دار البشائر)، والعلامة الزرقاني المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 201، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 141، ط. المكتب الإسلامي)، والإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 373، ط. دار الكتب العلمية).
إلَّا أن ذلك مشروطٌ بألا يُتَجَاوزَ في الأخذِ من جسد ذلك الجنين المجهَض إلا بقدر الحاجة والضرورة، وأن يُصانَ ما عدا ذلك عن العبث به فيكرَّمَ ويُدْفن، وذلك لما تقرر أيضًا من أن ما ثبت للضرورة يُقَدَّر بقدرها، كما في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للإمام العز بن عبد السلام (1/ 107، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
وقد أجاز القانون الاحتفاظ بجثث بعض الموتى في الجهاتِ الصحية أو الجامعية من أجل الاستفادة منها في الأغراض العلمية، ملاحظة لما لها من أهمية، بشرط موافقة ذوي الشأن من أقارب المتوفَّى، كما نصت على ذلك المادة رقم (26- الفقرة الثانية) من القانون رقم 130 لسنة 1946، والخاص بالمواليد والوفيات.
أن يجهض فينزل حَيًّا وتستمر حياته بعد إجهاضه، فهو إنسان مكرم تُرجى حياتُه، وله كافةُ الحقوق التي يكفُلُها له الشرع الشريف والقوانينُ المنظمة، والتي منها: أنه لا يحق لأحد استغلالُ جسدِه أو جزءٍ منه في إجراء أيِّ تجارِبَ أو أبحاثٍ دون رضًا تامٍّ منه، وبشرط ألا يكون في ذلك أيُّ ضررٍ صحيٍّ يعود عليه، وذلك ما أكدته المادة رقم (60) من الدستور المصري، حيث نصت على أنَّ: [لجسدِ الإنسان حرمة، والاعتداءُ عليه، أو تشويهُه، أو التمثيلُ به جريمةٌ يعاقب عليها القانون. ويحظر الاتجار بأعضائه، ولا يجوز إجراء أية تجربة طبية، أو علمية عليه بغير رضاه الحر الموثق، ووفقًا للأسس المستقرة في مجال العلوم الطبية، على النحو الذي ينظمه القانون] اهـ.
ولكون الطفل بعد ولادته فاقدًا للأهلية التي يتعذر والحالة هذه الوقوف على رضاه، فإن القيام بهذه التجارب على جسده موقوفٌ على موافقة والديه أو من ينوب عنهما في حال فقدهما، بشرط أن تكون هذه التجارب آمنة على ذلك الطفل بحيث لا تفضي إلى لحوق أي ضرر به، وإلا حرمت تلك التجارب.
مما سبق يتضح أن الانتفاع بالأجنة المجهضة جائز إذا ما روعي في ذلك جملةٌ من الضوابط، ومنها:
أولًا: أن يكون الإجهاض بسبب معتبر شرعًا، وألا يتعمد حصوله من أجل الانتفاعِ بالأجنة.
ثانيًا: أن يكون استخدام هذه الأجنة بموافقة الوالدين ورضا كليهما أو من يقوم مقامهما عند فقدهما.
ثالثًا: أن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق هذه الأغراض والمصالح المبتغاة إلا باستخدام هذه الأجنة المجهضة.
رابعًا: وجود هيئة متخصصة موثوقة تابعة للدولة تقوم بالإشراف على هذه الأغراض وإجراءات تنفيذها.
خامسًا: اتباع الإجراءات والضوابط القانونية والمهنية المرعية في مثل هذه الحالات.
سادسًا: أن تكون التجارِبُ التي يُرادُ الاستفادةُ بالأجنة فيها مبنيةً على أسس علمية معترَفٍ بها، وألَّا يُتجاوَزَ فيها الأصولُ العلميةُ لعلمِ الطب.
سابعًا: اتخاذُ كافة الإجراءات والضوابط التي تُبْعِدُ هذه العمليةَ عن نِطَاقِ التَّلَاعُبِ بالإنسان.
وبناءً على ذلك وفي السؤال: فإن الاستفادةَ من الأجنةِ المجهَضة في التجارِب العلمية والعلاج وزراعة الأعضاء جائزة شرعًا إذا توفرت الشروط والضوابط السابقة، وإلا فلا يجوز.
والله سبحانه وتعالى أعلم.