ما حكم طواف الإفاضة للحائض؟ فهناك امرأةٌ ذهبت لأداء فريضة الحج، وداهمها الحيض قبل طواف الإفاضة، واقترَب موعد السفر مِن مكة المكرمة، بحيث لا تتمكن مِن الانتظار حتى تَطْهُر، فطافَت وعادت إلى بلدها، وتسأل: هل حجُّها صحيح شرعًا؟ وهل عليها شيء؟
المقرر بإجماع العلماء أنَّ الحيض لا يمنع أيَّ عملٍ مِن أعمال الحج سوى الطواف على خلافٍ فيه، ومن ثَمَّ فإذا حاضت المرأة أثناء الحج، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها، والذي يقتضيه يُسْرُ الشريعة، أن تُقَلِّدَ الحنفية في القول بصحة طواف الحائض، وهو الذي قرَّره بعض فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وما عليه العمل والفتوى، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يد لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلَّا فلتذبح شاة، كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألَّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء بأن الطهارة للطواف سُنَّةٌ، أو هي واجبةٌ تسقط المؤاخذة بها عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن علماء مذهبه.
المحتويات
أجمَعَ الفقهاءُ على أنَّ الحيض لا يَمنع شيئًا مِن أعمال الحج والعمرة إلا الطواف حول الكعبة؛ لحديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قَدِمْتُ مكةَ وأنا حائضٌ، ولَم أَطُفْ بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشَكَوْتُ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي» أخرجه الشيخان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «النُّفَسَاءُ وَالْحَائِضُ إِذَا أَتَتَا عَلَى الْوَقْتِ: تَغْتَسِلَانِ وَتُحْرِمَانِ، وَتَقْضِيَانِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "الجامع" وحسَّنه، والبغوي في "السنن" واللفظ له.
قال الإمام أبو الحسن ابن بَطَّال في "شرح صحيح البخاري" (4/ 330، ط. مكتبة الرشد): [العلماء مُجمِعُون على أنَّ الحائض تَشهَدُ المناسِكَ كلَّها غيرَ الطواف بالبيت] اهـ.
أجمَعوا كذلك على أنَّ المرأة إذا حاضت قبل طواف الركن في الحج أو العمرة، وأمكَنَها الانتظارُ، فإنَّ عليها أن تنتظر لتطوف على طهارة.
قال الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 205-206، ط. مجمع الملك فهد): [الذي لا أَعلَم فيه نزاعًا: أنه ليس لها أنْ تطوف مع الحيض إذا كانت قادرةً على الطواف مع الطُّهر، فما أَعلَم منازعًا أنَّ ذلك يَحرُمُ عليها وتَأثَمُ به] اهـ.
أما إذا داهم المرأةَ الحيضُ قبل طواف الإفاضة، ولَم ينقطع دمُ حيضها حتى حان موعد سفرها، وخافت فوات الرُّفقة، وتعذر عليها الانتظارُ حتى تطهُر، فالذي عليه العمل والفتوى: صحَّةُ طوافِها حالَ حيضها؛ لما تقرر في قواعد الشرع الشريف مِن أنَّ "الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"، و"إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ"، كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السُّبْكِي (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية)، ولما في ذلك مِن التخفيف ورفع الحرج ودفع المشقة في عذر الحيض الذي لا اختيار للمرأة فيه، خاصة أن الشريعة قد جاءت بالتيسير على المكلفين؛ رحمةً بهم، ورعايةً لأحوالهم، وقد أناطت أحكامها بقدر السعة والطاقة في نحو قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
وعلى ذلك نص فقهاء الحنفية، كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخْسِي (4/ 38، ط. دار المعرفة)، و"العناية" للإمام أكمل الدين البَابَرْتِي (3/ 50، ط. دار الفكر)، وبذلك أيضًا قال الإمام داود الظاهري كما نَقَل الإمام بدر الدين العَيْنِي في "عمدة القاري" (21/ 147، ط. دار إحياء التراث العربي)، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، كما في "المغني" للإمام ابن قُدَامة (3/ 343، ط. مكتبة القاهرة)، وهو ما عليه العمل والفتوى عند المالكية تخريجًا على قول المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، كما في "عقد الجواهر الثمينة" للإمام أبو محمد ابن شَاسٍ (1/ 277، ط. دار الغرب الإسلامي)، و"الذخيرة" للإمام شهاب الدين القَرَافِي (3/ 238، ط. دار الغرب الإسلامي)، وكذلك نصَّ فقهاء الشافعية على أنَّ الأحوط للحائض والألْيَقَ بمحاسن الشريعة في حالتها هذه -أن تُقَلِّد مذهب مَن يُصَحِّحُ طوافَها وهي حائض، كما في "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرَّمْلِي (3/ 317، ط. دار الفكر)، و"حاشية شيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الْهَيْتَمِي على شرح الإمام النووي للإيضاح" (ص: 387-388، ط. دار الحديث).
ولا تأثم المرأة بدخولها المسجد وطوافها في هذه الحالة؛ لأنَّ الإثم إنما يلحق الحائضَ بطوافها في الحالة المعتادة، أمَّا في حالة الضرورة التي تخشى فيها فوات رفقتها ويتعذر أو يتعسر عليها العَوْدُ للبيت الحرام للطواف، فإن الإثم ينتفي عنها حينئذ للضرورة، إذ قد نصَّ الحنفية على جواز دخول الحائض إلى المسجد للضرورة، والمقصود بالضرورة: الحاجة الأكيدة، وهي متحققة في حالة الحائض المعذورة التي تخشى فوات رفقتها ولا يمكنها الانتظار.
قال الإمام مَجد الدين ابن مَوْدُود الموصلي في "الاختيار" (1/ 13، ط. الحلبي): [ولا يدخل -أي: الجنب- المسجد إلا لضرورة، والحائض والنفساء كالجنب] اهـ، وهو ما نص عليه العلامة مُلَّا خسرو في "درر الحكام" (1/ 20، ط. دار إحياء الكتب العربية)، ونقله زين الدين ابنُ نُجَيْم في "البحر الرائق" (1/ 205، ط. دار الكتاب الإسلامي)، ثم قال: [وهو حسن] اهـ.
ومع انتفاء الإثم عن المضطرة للطواف وهي حائض، فإن وجوب الكفارة لا يسقط عنها عند الحنفية، فإنهم لَم يستثنوا حال الاضطرار والعذر مِن وجوب الكفارة، وسبب وجوبها مع وجود العذر: أن العذر قد حصل مِن قِبَل العِبَاد، حيث إن اضطرارها إنما جاء بسبب تعجُّل رفقتها.
وبيانُ ذلك: أنه قد تقرر في قواعد فقه الحنفية أنَّ ترك النُّسُك الواجب لعذرٍ لا مِن قِبَل العباد يُسقط الكفارة، ولذلك سقط عن المرأة الدمُ إذا حاضت قبل طواف الوداع مع كونه طوافًا واجبًا عند الحنفية.
قال الإمام علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 142، ط. دار الكتب العلمية): [طواف الصَّدَر واجبٌ عندنا... ودليل الوجوب: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ»، ومطلق الأمر لوجوب العمل، إلا أن الحائض خُصَّت عن هذا العموم بدليل، وهو ما روي «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَ طَوَافَ الصَّدَرِ لِعُذْرِ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِإِقَامَةِ شَيْءٍ آخَرَ مَقَامَهُ»، وهو الدم، وهذا أصلٌ عندنا في كل نُسُك جاز تركه لعذر: أنه لا يجب بتركه مِن المعذور كفارة، والله أعلم] اهـ.
وقد رجَّح الشيخ ابن تيمية رواية في المذهب الحنبلي تقتضي صحة طواف الحائض عند العذر بلا دم عليها، كما في "مجموع الفتاوى" (26/ 206-214)، ووافقه تلميذه الشيخ ابن القيم في اعتماد هذه الرواية التي تقتضي صحة طواف الحائض إذا لم يمكنها الاحتباس في مكة حتى تطهر، مِن غير إثم ولا دم، كما في "إعلام الموقعين" (4/ 359، ط. دار ابن الجوزي).
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ المقرر بإجماع العلماء أنَّ الحيض لا يمنع أيَّ عملٍ مِن أعمال الحج سوى الطواف على خلافٍ فيه، ومن ثَمَّ فإذا حاضت المرأة أثناء الحج، ولم يمكنها الانتظار حتى تطهر؛ لعذر من الأعذار التي لا مناص منها، فالأحوط لها، والذي يقتضيه يُسْرُ الشريعة، أن تُقَلِّدَ الحنفية في القول بصحة طواف الحائض، وهو الذي قرَّره بعض فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وما عليه العمل والفتوى، ولا إثم عليها؛ لأنها معذورة بما لا يد لها فيه ولا اختيار، ويستحبُّ لها أن تذبح بدنة؛ خروجًا من خلاف مَن أوجبها مِن الحنفية، وإلَّا فلتذبح شاة، كما هو عند الحنابلة في رواية، فإن شق عليها ذلك فلا حرج عليها ألَّا تذبح أصلًا؛ أخذًا بما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وجماعة من السلف، واختاره مَن قال مِن الفقهاء بأن الطهارة للطواف سُنَّةٌ، أو هي واجبةٌ تسقط المؤاخذة بها عند العذر، وهو رواية عن الإمام أحمد أفتى بها جمعٌ مِن علماء مذهبه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.