ما حكم تعيين نية الطواف في الحج؟ فرجلٌ يقول: والدتي امرأةٌ مُسِنَّةٌ، وقد أكرمها اللهُ تعالى بالحج هذا العام، وبعد عودتها سألتُها عن المناسك وكيف أدت الحج؟ فقالت: إنها كانت تفعل مثل ما يفعل غيرها، متبعة إرشادات مسؤول فَوْج الحجيج معهم، وطافت للقدوم والإفاضة والوداع مِن غير تعيين النية في كلٍّ منها. فهل يقبل منها ذلك أو كانت تحتاج إلى تعيين النية لكلِّ طواف قبل أدائه؟
حج والدة السائل الكريم صحيح شرعًا، ولا فدية عليها؛ لأن الطواف يقع صحيحًا ويجزئ عن صاحبه إذا فعله من غير نية، بشرط أن يقصد فعل الطواف ويؤديه في وقته الذي حدده الشرع الشريف، وتكفي نية الإحرام للحج وتكون شاملة لجميع أفعاله.
المحتويات
اختلف الفقهاء فيما يتعلق بتعيين نية الطواف، فذهب الحنفية والشافعية في الأصح إلى عدم اشتراط تعيين نية الطواف في الحج، إذ إن نية الحج كافية لجميع ما يشمله، ولا حاجة لتعيين نية مفردة لكل فعل من أفعاله، والمراد بتعيين نية الطواف هو عين الطواف باسمه من كونه طواف قدوم أو إفاضة أو غير ذلك، وليس المراد به نية فعل الطواف في العموم، حيث توجد نية الفعل من المحرم الذي يطوف ولو لم يتلفظ بها، وحيث وجدت نية الحج بداية من الإحرام به، والتي تشمل جميع أعماله وما يتضمنه، ومن ثَمَّ فإنه يكفي بعد ذلك وقوع الطواف، ويجزئ عن صاحبه ولو سَهَا عن تعيينه أو أخطأ في ذلك، ما دام قد أداه في وقته المقرر له شرعًا، كما لو صام شهر رمضان بمطلق النية فإنه يقع عن رمضان، أو صام الشهر بنية التطوع فإن صومه هذا يقع عن الفرض؛ لكون الوقت متعينًا لصومه، فكذا كلُّ طوافٍ واجبٍ أو سُنَّةٍ أداه المحرم في وقته فإنما يقع عما يستحقه الوقت مِن الطواف.
قال الإمام علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 128-129، ط. دار الكتب العلمية): [وأشار القاضي في "شرحه مختصر الطَّحَاوِي" إلى أنَّ نية الطواف عند الطواف ليست بشرط أصلًا، وأن نية الحج عند الإحرام كافية، ولا يحتاج إلى نية مفردة كما في سائر أفعال الحج.. فأما تعيين النية حال وجوده في وقته فلا حاجة إليه، حتى لو نفر في النفر الأول فطاف، وهو لا يعين طوافًا يقع عن طواف الزيارة لا عن الصدر؛ لأن أيام النحر متعينة لطواف الزيارة، فلا حاجة إلى تعيين النية، كما لو صام رمضان بمطلق النية أنه يقع عن رمضان؛ لكون الوقت متعينًا لصومه، كذا هذا.
وكذا لو نوى تطوعًا يقع عن طواف الزيارة، كما لو صام رمضان بنية التطوع، وكذلك كلُّ طواف واجب أو سُنَّة يقع في وقته من طواف اللقاء، وطواف الصدر، فإنما يقع عما يستحقه الوقت، وهو الذي انعقد عليه الإحرام دون غيره سواء عين ذلك بالنية، أو لم يعين، فيقع عن الأول، وإن نوى الثاني لا يعمل بنيته في تقديمه على الأول، حتى إنَّ المحرم إذا قَدِمَ مكة، وطاف لا يعين شيئًا، أو نوى التطوع، فإن كان محرمًا بعمرة يقع طوافه للعمرة، وإن كان محرمًا بحجة يقع طوافه للقدوم؛ لأنَّ عقد الإحرام انعقد عليه] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 16، ط. دار الفكر): [في نية الطواف قال أصحابنا: إن كان الطواف في غير حج ولا عمرة لم يصح بغير نية بلا خلاف، كسائر العبادات من الصلاة والصوم ونحوهما، وإن كان في حج أو عمرة فينبغي أن ينوي الطواف، فإن طاف بلا نية فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما: (أصحهما) صحته، وبه قطع جماعة، منهم إمام الحرمين] اهـ.
وقال الإمام جلال الدين المَحَلِّي في "شرحه على المنهاج" (2/ 139، ط. دار الفكر): [لا تجب النية في الطواف في الأصح؛ لأنَّ نية الحج أو العمرة تشمله، نعم يشترط ألَّا يصرفه إلى غرض آخر -كطلب غريم- في الأصح] اهـ.
وذهب فقهاء المالكية إلى أن تعيين النية في الطواف سُنَّة وليس شرطًا، فيُسَنُّ عندهم نية الفرض لطواف الفرض، كطوافِ العمرة الذي هو ركن فيها، وطوافِ الإفاضة الذي هو ركن مِن أركان الحج، ويُسَنُّ نية الوجوب للطواف الواجب، كطواف القدوم في الحج الذي هو واجب عندهم على الراجح، فمتى نوى المُحْرِمُ فرضيةَ الطواف أو وجوبَه، أو لم يَنْوِ شيئًا ولكنه ممن يعتقد وجوبه، فإنه يجزئه ولا شيء عليه، ويكفي نية عموم الطواف عندهم، ولو طاف ولم يَنْوِ فإنه تكفيه نية الإحرام، حيث تَشْمَلُ هذه النيةُ كلَّ أفعال الحج، كنية المصلي للصلاة التي تشمل جميع أفعال الصلاة الداخلة فيها، وأما إن طاف ولم يَنْوِ شيئًا، وكان ممن يعتقد عدم لزومه أو اعتقد عدم وجوبه، كأن يعتقد النفلية مثلًا في طوافٍ واجبٍ كالقدوم، فلا يجزئه طوافه حينئذٍ، ويجب عليه الإعادة إن كان في مكة، وإن عاد إلى بلده فعليه دم.
وذهب الإمام ابن القاسم مِنهم إلى أن تعيين النية في الطواف شرطٌ، حيث قال باستحباب الدم على مَن طاف مِن غير تعيين النية، فلو لم يعيِّن الطائفُ النيةَ قبل طوافه فإن هذا الطواف لا يجزئه، وعليه إعادة الطواف مرة ثانية، فلو عاد إلى بلده دون إعادةٍ فعليه دمٌ؛ لتركه التعيين والإعادة.
قال الإمام شمس الدين الحَطَّاب في "مواهب الجليل" (3/ 89، ط. دار الفكر) في معرض كلامه عمَّن نَسِيَ طواف الإفاضة حتى طاف للوداع: [أركان الحج لا تحتاج إلى تعيين، بدليل الوقوف والإحرام والسعي، وهذا مِن أركان الحج فلا يفتقر إلى تعيين، نعم نية الحج مشتملة على جميع أفعاله، ولا يصح غير الحج في زمان الحج، فلَمَّا صح الطوافُ في نفسه، وَجَبَ أن يُحكَم أنه طوافُ الإفاضة، ويَستحب ابنُ القاسم فيه الدمَ، كمن طاف عند قدومه مِن غير نيةٍ وَسَعَى ولم يُعِدْ سَعْيَهُ حتى رَجَع لبلده] اهـ.
وقال الإمام الخَرَشِي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 318، ط. دار الفكر): [وشرط صحَّة السَّعي في الحج والعمرة أن يتقدَّمه طوافٌ أيًّا كان، واجبًا كطواف القدوم للمفرد والقارن، أو ركنًا كطواف الإفاضة والعمرة، أو تطوعًا كطواف الوداع وطواف المُحْرِم مِن الحَرَم والمردف فيه، فلو سَعَى مِن غير طوافٍ لم يجزه ذلك السَّعي بلا خلاف. ابن عرفة.
والمذهب شرط كونه بعد طواف، لكن إن وقع بعد طواف فرضٍ، فيُسَنُّ أن ينوي به الفرض، وإن وقع بعد طواف تطوعٍ أو فرضٍ ولم ينو به الفرضَ وهو ممن يَعتقد عدمَ لزوم الإتيان به -ولا يتأتَّى ذلك إلا لبعض الجهلة في طواف القدوم- فإِنَّه لا يسعى بعده، فإنْ سعى أعاده بعد طوافٍ ينوي فرضيَّته، أي: وهو طواف القدوم إن لم يكن وُقُوفٌ بعرفةَ، وإلَّا فات طوافُ القدوم، فيُعيد طوافَ الإفاضة إن كان قد فَعَله، ويسعى بعده ما دام بمكَّة أو قريبًا منها، فإن تَبَاعَدَ عنها فَدَمٌ، فقول المؤلِّف: "ونوى فرضيَّته"، أي: على سبيل السُّنِّيَّةِ لا على سبيل الشَّرْطِيَّةِ، بدليل قوله: "وإِلَّا فدمٌ"، وقوله: "ونوى فرضيَّته"، أي: إن كان مِن الأطواف الفرض، ولا يريد أنَّ غير الفرض ينوي به الفرضَ] اهـ.
وقال الشيخ الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (2/ 35، ط. دار الفكر): [وقوله: "كما يقع لبعض الجهلة"، أي: فإنه يَعتقد عدم لزوم الإتيان بطواف القدوم، وأما إن لم يَنْوِ فرضيته والحال أنه ممن يعتقد لزومه فلا دم عليه.
والحاصل أنه متى نوى فرضيته أو وجوبه، أو لم يَنْوِ شيئًا ولكنه ممن يعتقد وجوبَه فلا دم عليه، وأما إن لم يَنْوِ شيئًا وكان ممن يعتقد عدم لزومه أو اعتقد عدم وجوبه فعليه دمٌ إن لم يُعِدْهُ] اهـ.
وذهب الشافعيةُ في وجهٍ والحنابلةُ إلى اشتراط تعيين النية في الطواف، إذ النية عندهم شرط من شروط صحته، ولا يُقبل على قولهم هذا طوافٌ بغير نية، فلو طاف المُحْرِم ولم يَنْوِ فلا يجزئه طوافه ويَبطُل، وسواء كان طوافَ فرضٍ أو سُنَّة، إذ الطواف كسائر العبادات التي تفتقر في إيقاعها إلى نية، فلو طاف وكان في حج أو عمرة فينبغي أن ينوي عين الطواف حتى يكون مجزئًا، ولأن الطواف كالصلاة، وذلك بالخبر الوارد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تصح صلاةٌ بغير نية.
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 16، ط. دار الفكر): [فإن طاف بلا نية فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما.. (والثاني) بطلانه] اهـ.
وقال الإمام علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 19، ط. دار إحياء التراث العربي): [يشترط لصحة الطواف عشرة أشياء.. النيَّةُ] اهـ.
وقال الإمام أبو السعادات البُهُوتِي في "كشاف القناع" (2/ 560، ط. دار الكتب العلمية): (وإن نوى أحدُهما) الطواف (عن نفسه، والآخر لم ينو) الطواف (وقع لمن نوى).. (وإن عُدمت النية منهما، أو نوى كلٌّ منهما عن الآخر، لم يصح) الطواف (لواحد منهما) لِخُلُوِّ طواف كلٍّ منهما عن نية منه.. لحديث «إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، ولأنَّه صلاة؛ للخبر، والصلاة مِن شرطها النية] اهـ.
مقتضى ما سبق مِن تحقيق مذاهب الفقهاء: أنَّ تقليد القائل بجواز الطواف مِن غير تعيين نيته جائز شرعًا، ما دام قد نوى فعل الطواف وأوقعه في وقته المحدد له شرعًا؛ لأنه مِن المقرر عن أهل العلم أنَّ "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَلَّدَ مَنْ أَجَازَ"، كما في "حاشية الإمام الشَّرْوَانِي" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، ولما فيه مِن التخفيف ورفع الحرج ودفع المشقة عمن حجَّ وطاف بغير نية، خاصة مع كِبَرِ السن وتقدُّمه -كما في مسألتنا-، إذ إن الشريعة الإسلامية قد جاءت بالتيسير على المكلَّفين ورفع الحرج عنهم؛ رحمةً بهم، ورعايةً لأحوالهم، وأناطت أحكامَها بذلك في نحو قول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
بالإضافة إلى ما سبق: فإنَّ تصرُّفات المكلفين بعد صدورها منهم محمولة على ما صحَّ من مذاهب المجتهدين وأقوالهم، ومتى وافق عمل العامي قول أحد المجتهدين ممن يقول بالصحة أو بالحِلِّ كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه باتفاق العلماء، كما في "الفتاوى" للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي -مفتي الديار المصرية الأسبق- (1/ 225، ط. دار وهبة).
ومِن المعلوم أنْ ليس كلُّ الناس يُحسن التمييز بين هذه الأفعال ويعرف المناسك بمسمياتها، خاصة لو كان كبيرًا في السن أو لا يُجيد الحفظ ليعرف ترتيب المناسك، فكثيرٌ مِن الحجاج اليوم يتبع المجموعة المرافقة له، أو يتبع الشخص المسؤول عن توجيه الحجاج والمُرَافِق لهم من الجهة المسؤولة عنهم، سواء كانت شركة سياحة أو مؤسسة مسؤولة عن رعاية أمور الحجاج والاهتمام بإرشادهم في أثناء أداء المناسك.
بناءً على ذلك: فإنَّ تعيين نية الطواف في الحج مُختلف في كونها لازمة للحاج أو غير لازمة، وقد أجاز فقهاء الحنفية والشافعية في الأصح عدم تعيينها، ويصح الطواف ويجزئ عن صاحبه إذا فعله من غير نية، بشرط أن يقصد فعل الطواف ويؤديه في وقته الذي حدده الشرع الشريف، وتكفي نية الإحرام للحج وتكون شاملة لجميع أفعاله.
وفي واقعة السؤال: حج والدة الرجل المذكور، مع كونها قد طافت للقدوم والإفاضة والوداع مِن غير تعيين النية في كلِّ طوافٍ منها -صحيح شرعًا، ولا إثم عليها في ذلك ولا حرج، ولا فدية عليها ولا إعادة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.