تسحرت وأنا شاكَّة في طلوع الفجر، ثم تبين لي بعد الانتهاء من الأكل أن وقت الفجر قد انتهى وبدأ النهار، فما حكم ما فعلتُه؟ وما حكم صومي؟ وهل يجب عليَّ قضاء ذلك اليوم؟ وما الحكم لو أفطرتُ وأنا أظنُّ أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب بعد؟
المختار للفتوى أن من أكل شاكًّا في طلوع الفجر ثم تبين خطؤه: فصومه صحيح ولا يلزمه القضاء، وأن من أفطر وهو شاك في غروب الشمس لزمه القضاء ما دام لم يترجح عنده غروبها، فإذا اجتهد حتى غلب على ظنه غروبها فأفطر ثم تبين خطؤه: فلا قضاء عليه؛ لأن الظن الغالب كالمتيقن والخطأ بعد الاجتهاد مرفوع عن المكلف.
المحتويات
من سعة الشريعة الإسلامية ورحمتها أنها رفعت عن المكلفين الحرج، واستنبط الفقهاء من نصوصها القواعد والضوابط التي تكشف عن مقاصدها وعلل أحكامها، وفرقت في أفعال المكلفين بين العمد والخطأ والشك والنسيان، فتواردت النصوص على أن الإنسان مسؤول ومحاسب على ما كان منه في حال العمد، قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: 5]، مرفوع عنه المؤاخذة والإثم إن كان ناسيًا أو مخطئًا، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، ووضعت لحال الشك قاعدة محكمة تمنع بها المكلف من الخوض في غياهب الشك والتردد، وهي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك".
فعن عبد الله بن زيد الأنصاري المازني رضي الله عنه قال: شُكِيَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجلُ يجد في الصلاة شيئًا، أيقطع الصلاة؟ قال: «لَا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» متفق عليه.
قال الإمام التاج السبكي الشافعي في "الأشباه والنظائر" (1/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [اليقين لا يرفع بالشك، ولا يخفى أنه لا شك مع اليقين، ولكن المراد: استصحاب الأصل المتيقن لا يزيله شك طارئ عليه، فقل إن شئت: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو الاستصحاب حجة] اهـ.
وقال الإمام الزركشي الشافعي في "البحر المحيط" (8/ 13، ط. دار الكتب العلمية): [استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي، عقلي أو شرعي، ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، وهو معنى قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل، فمن ادعاه فعليه البيان] اهـ.
وجاء في "مجلة الأحكام العدلية" (ص: 17، ط. نور محمد): [ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه] اهـ.
وهذه القاعدة تبين الفرق بين مسألتَي الأكل بعد الفجر عند الشك في عدم طلوعه، والأكل قبل المغرب عند الشك في غروب الشمس؛ فإنه لَمّا كان المعتبر من الأمور بقاءَ ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره: تباين الحال في المسألتين:
فحالُ من شك في طلوع الفجر حالُ سحور؛ لأن الليل هو الأصل، والنهار لا يثبت بالشك، فيظل على حاله، حتى يثبت عنده وجوب الإمساك.
وحالُ من شك في غروب الشمس حالُ إمساك؛ لأن النهار هو الأصل، والليل لا يثبت بالشك؛ فيظل على حاله، حتى يثبت عنده جواز الإفطار.
ولذلك اتفق الفقهاء على وجوب القضاء على من أكل أو شرب في رمضان وهو شاكٌّ في غروب الشمس؛ لأنه لم يستصحب الأصل، بينما لم يوجب جمهورهم عليه القضاء إذا أكل وهو شاك في طلوع الفجر؛ لأنه مستصحب للأصل، ما لم يتبين خطؤه؛ لتعارض استصحاب الأصل مع الاحتياط.
قال الإمام ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (1/ 249، ط. دار الغرب الإسلامي): [ومن جهة المعنى: أن الأكل بالليل مباح؛ فلا يمتنع منه إلا بيقين وهو تبين الفجر، والأكل بالنهار في رمضان محظور؛ فلا يستباح إلا بيقين، وهو تبين غروب الشمس] اهـ.
وقال الإمام الزركشي الحنبلي في "شرح مختصر الخرقي" (2/ 601، ط. العبيكان): [واتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكًّا في غروب الشمس، لا في طلوع الفجر؛ نظرًا للأصل فيهما] اهـ.
فأما حالة الشك في طلوع الفجر:
فجمهور الفقهاء لا يحرمون عليه الأكل حتى يتيقن الفجرَ؛ فالحنفية يستحبون للشاك في طلوع الفجر أن يدع الطعام والشراب، وأجاز الشافعية والحنابلة له الأكل والشرب حتى يتيقن؛ استصحابًا للأصل في بقاء الليل، ولعدم قيام الدليل على طلوع الفجر.
جاء في كتاب "الأصل" للإمام محمد بن الحسن الشيباني (2/ 209، ط. إدارة القرآن): [قلت: أرأيت رجلًا تسحر في شهر رمضان فشك في الفجر؛ طلع، أم لم يطلع؟ قال: "أحب إليّ إذا شك أن يدع الأكل والشرب"، قلت: فإذا أكل وهو شاكٌّ في الفجر؟ قال: "صومه تام"] اهـ.
وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 105، ط. دار الكتب العلمية): [ولو أكل وهو شاكٌّ: لا يحكم عليه بوجوب القضاء عليه؛ لأن فساد الصوم مشكوك فيه؛ لوقوع الشك في طلوع الفجر، مع أن الأصل هو بقاء الليل، فلا يثبت النهار بالشك] اهـ.
وقال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (4/ 22، ط. دار المنهاج): [ولو فرض أكل من غير اجتهاد، ولم يتبين أمرٌ، فالوجه القطع بأن لا قضاء أيضًا؛ اكتفاء باستصحاب الحال] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 333، ط. دار الكتب العلمية): [وإن أكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن أكل وهو يشك في غروب الشمس لم يصح صومه؛ لأن الأصل بقاء النهار] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 306، ط. دار الفكر): [ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع وغيرها بلا خلاف حتى يتحقق الفجرَ؛ للآية الكريمة: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾... وقد اتفق أصحابنا على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر؛ وصرحوا بذلك، فممن صرح به: الماوردي، والدارمي، والبندنيجي، وخلائق لا يحصون.
وأما قول الغزالي في "الوسيط": لا يجوز الأكل هجومًا في أول النهار، وقول المتولي في مسألة السحور: لا يجوز للشاك في طلوع الفجر أن يتسحر، فلعلهما أرادا بقولهما لا يجوز: أنه ليس مباحًا مستوي الطرفين، بل الأولى تركه، فإن أراد به تحريمَ الأكل على الشاك في طلوع الفجر: فهو غلط مخالف للقرآن ولابن عباس ولجميع الأصحاب رضي الله عنهم، بل لجماهير العلماء، ولا نعرف أحدًا من العلماء قال بتحريمه إلا مالكًا؛ فإنه حرمه وأوجب القضاء على من أكل شاكًّا في الفجر، وذكر ابن المنذر في "الإشراف" بابًا في إباحة الأكل للشاك في الفجر؛ فحكاه عن أبي بكر الصديق وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعطاء والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، واختاره، ولم ينقل المنع إلا عن مالك، والله أعلم] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 174، ط. مكتبة القاهرة): [قال أبو داود: قال أبو عبد الله: إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعَه، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء والأوزاعي.
قال أحمد: يقول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى أبو قلابة قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر: "يا غلامُ! أَجِفِ البابَ؛ لا يَفْجَأْنا الصبحُ". وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أتسحر؛ فإذا شككتُ أمسكتُ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كُلْ ما شككتَ، حتى لا تشكّ"] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "القواعد" (ص: 339-340، ط. دار الكتب العلمية): [القسم الثاني: ما عُمِل بالأصل ولم يُلتَفت إلى القرائن الظاهرة... ومنها: إذا شك في طلوع الفجر في رمضان؛ فإنه يباح له الأكلُ حتى يَتَيَقَّنَ طلوعَه، نص عليه أحمد، ولا عبرة في ذلك بغلبة الظن وبالقرائن ونحوها، ما لم يكن مستنِدًا إلى إخبار ثقةٍ بالطلوع] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 331، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا) يُكره (الأكل والشرب) مع الشك في طلوع الفجر الثاني، (قال أحمد) في رواية أبي داود: (إذا شك في) طلوع (الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه)؛ لأن الأصل بقاء الليل، (قال الآجري وغيره: ولو قال لعالِـمَين: ارقُبا الفجر، فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع، أكل حتى يتفقا) على أنه طلع، وقاله جمع من الصحابة وغيرهم، ذكره في "المبدع"؛ لأن قولهما تعارض فتساقطا، والأصل عدم طلوعه] اهـ.
أما المالكية فنص الإمام مالك على كراهة الأكل؛ واختلفوا في حملها على المنع، أو الكراهة، أو الجواز:
جاء في "المدونة" في فقه المالكية (1/ 226، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: ما قول مالك فيمن شك في الفجر في رمضان؛ فلم يدر أكل فيه، أو لم يأكل؟ قال: قال مالك: عليه قضاء يوم مكانه. قلت: وكان مالك يكره للرجل أن يأكل إذا شك في الفجر؟ قال: نعم] اهـ.
وقال الإمام أبو محمد بن أبي زيد القيرواني المالكي في "النوادر والزيادات" (2/ 18، ط. دار الغرب الإسلامي): [قال ابن حبيب: ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما في مَن شكَّ في الفجر، أنْ يأكل حتى يوقنَ به. وهو القياس؛ لقول الله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾، قال ابن الماجشون: فهو العلم به، وليس الشك علمًا به] اهـ.
وقال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (2/ 773-774، ط. أوقاف قطر): [اختُلف فيمن شك في الفجر فأحبَّ أن يأكل: بالمنع، والكراهة، والجواز، فقال في "المدونة": يُكره له ذلك، وقيل: هو ممنوع، وحملوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ»، قال: والمعنى: أي: قاربت الصبح.
وقال ابن حبيب: القياس والذي أختاره: جواز ذلك، وأن يأكل إذا شك حتى يتبين؛ لقول الله عز وجل، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما] اهـ.
إن تسحر وهو شاكٌّ ثم تبين أن الفجر كان قد طلع:
فمن ذهب إلى استحباب تركه الطعام: ذهب إلى استحباب القضاء، وهم الحنفية.
ومن ذهب إلى جواز أكله: ذهب إلى عدم لزوم القضاء، وهم الشافعية والحنابلة.
ومن كره أكله: أوجب عليه القضاء، وهم المالكية.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 77-78، ط. دار المعرفة): [إلا أنه يؤخر على وجه لا يشك في الفجر الثاني، فإن شك فيه فالمستحب أن يدع الأكل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» والأكل يريبه، فإن أكل وهو شاك فصومه تام؛ لأن الأصل بقاء الليل والتيقن لا يزال بالشك، فإن كان أكبر رأيه أنه تسحر والفجر طالع فالمستحب له أن يقضي احتياطًا للعبادة، ولا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية؛ لأنه غير متيقن بالسبب، والأصل بقاء الليل] اهـ.
وقال العلامة برهان الدين ابن مازه البخاري الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 375، ط. دار الكتب العلمية): [إذا تسحر وغالبُ رأيه أن الفجر لم يطلع؛ ثم تبين أنه قد طلع، فإنه لا يجب عليه القضاء، بل يستحب له القضاء على الرواية الصحيحة] اهـ.
وفي "المدونة" (1/ 226، ط. دار الكتب العلمية): [قلت: وكان مالك يكره للرجل أن يأكل إذا شك في الفجر؟ قال: نعم، قال سحنون: وإنما لم يكن عليه أن يقضي في التطوع: لأن ابن وهب حدثني، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن عبد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، أنه قال: "إن كان في فريضة فليصم ذلك اليوم وليقضه يومًا مكانه، وإن كان في تطوع فليصم ذلك اليوم ولا يقضيه"] اهـ.
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (2/ 18): [قال أشهب: ومَن أكل وهو شاكٌّ في الفجر فإنما عليه القضاء، وكذلك لو جامع، وكذلك لو فعل ذلك وهو لا يشك في الفجر يريد أنَّه لم يطلع ثم شك، أنَّه يقضي في كل صيام واجب، ولا قضاء عليه في التطوع] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب في "شرح الرسالة" (1/ 171، ط. ابن حزم): [قال رحمه الله: "وإن شك في الفجر فلا يأكل"... وهذا لأن إباحة الأكل متعلقة بيقين بقاء الليل، فإذا شك في الفجر لم يجز له الأكل؛ لأنه لا يأمن أن يكون قد أكل في الفجر؛ فيكون قد غرر بصيامه.
فإن أكل ولم يتبين له أنه أكل قبل الفجر أو بعده قال ابن القاسم: عليه القضاء؛ وذلك لما قلناه من أنه ليس على ثقة في إمساك جميع اليوم؛ لجواز أن يكون أكل بعد الفجر.
وخالفنا أهل العراق والشافعي فقالوا: إذا أكل وهو شاك في طلوع الفجر فلا قضاء عليه، وإذا أكل وهو شاكٌّ في غروب الشمس فعليه القضاء] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (1/ 249): [وقد اختلف إذا شك في الفجر هل يأكل أم لا، فقال مالك: إذا شك في الفجر فلا يأكل، فإن أكل فعليه القضاء، وقال ابن حبيب: استحبابًا، وقال جماعة من أهل العلم -وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما-: إنه يأكل ما شك في الفجر حتى يتبين له، على ظاهر قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وأما من شك في غروب الشمس فلا يأكل باتفاق، وإن أكل فعليه القضاء والكفارة؛ لقول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]] اهـ.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يلزمه القضاء؛ مستدلين بأن الشرع أباح له الأكل والشرب حتى يتبين، فلو ألزمه القضاء لما كان الأكل مباحًا له حال شكه:
قال الإمام البغوي في "التهذيب في فقه الإمام الشافعي" (3/ 159، ط. دار الكتب العلمية): [ومن أصحابنا من قال: إذا أكل شاكًّا في طلوع الفجر؛ فبان طالعًا، لا قضاء عليه؛ لأن الأصل كان بقاء الليل؛ بخلاف ما لو أكل شاكًّا في غروب الشمس؛ فبان أنها لم تغرب، يجب القضاء؛ لأن الأصل هناك بقاء النهار، وتحريم الأكل، والشافعي لم يلزمه القضاء إذا بان الفجر طالعًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 147-148): [وإن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، ولم يتبين الأمر، فليس عليه قضاء، وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر. نص عليه أحمد. وهذا قول ابن عباس، وعطاء، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي. وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق، وابن عمر، رضي الله عنهم، وقال مالك: يجب القضاء؛ لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته، فلا يسقط بالشك، ولأنه أكل شاكًّا في النهار والليل، فلزمه القضاء، كما لو أكل شاكًّا في غروب الشمس. ولنا قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187] مد الأكل إلى غاية التبين، وقد يكون شاكًّا قبل التبين، فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل] اهـ.
والقول بعدم وجوب القضاء هو المروي عن كثير من الصحابة؛ كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وهو مروي أيضًا عن كثير من التابعين كالإمام محمد الباقر، وأبي مجلز، وإبراهيم، ومسلم، وأصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن.
قال الإمام ابن المنذر في "الإشراف" (3/ 119، ط. مكتبة مكة): [باب من أكل وهو لا يعلم بطلوع الفجر ثم علم: واختلفوا فيمن أكل وهو لا يعلم بطلوع الفجر، ثم علم، فقالت طائفة: يتم صومه ويقضي يومًا مكانه، روى هذا القول عن محمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وقد روينا عن مجاهد، وعطاء، وعروة بن الزبير، أنهم قالوا: لا قضاء عليه.
وحكى عن إسحاق: أنه قال لا قضاء عليه، وأحب إلينا أن يقضيه، وجعل من قال بهذا القول بمنزلة من أكل ناسيًا؛ لأنه والناسي أكل كل واحد منهما، والأكل عنده له مباح] اهـ.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى بالآثار" (4/ 373، ط. دار الفكر): ["من تسحر فإذا به نهار وهو يظن أنه ليل" من لم ير في ذلك قضاء. فهؤلاء: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وابن مسعود، وحذيفة، وعمه خبيب، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فهم أحد عشر من الصحابة، لا يعرف لهم مخالف من الصحابة إلا رواية ضعيفة من طريق مكحول عن أبي سعيد الخدري ولم يدركه، ومن طريق يحيى الجزار عن ابن مسعود ولم يدركه.
ومن التابعين: محمد بن علي، وأبو مجلز، وإبراهيم، ومسلم، وأصحاب ابن مسعود، وعطاء، والحسن، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وجابر بن زيد. ومن الفقهاء: معمر، والأعمش.
فإن ذكروا رواية سعيد بن قطن عن أبيه عن معاوية فيمن أفطر وهو يرى أنه ليل فطلعت الشمس: أن عليه القضاء، وبالرواية عن عمر بمثل ذلك: فإنما هذا في الإفطار عند الليل، لا في الأكل شاكًّا في الفجر، وبين الأمرين فرق] اهـ.
وقال أيضًا (4/ 366): [مسألة: ولا يلزم صوم في رمضان ولا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني، وأما ما لم يتبين فالأكل والشرب والجماع مباح كل ذلك، كان على شك من طلوع الفجر أو على يقين من أنه لم يطلع، فمن رأى الفجر وهو يأكل فليقذف ما في فمه من طعام وشراب وليصم، ولا قضاء عليه، ومن رأى الفجر وهو يجامع فليترك من وقته، وليصم، ولا قضاء عليه، سواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة، فلو توقف باهتًا فلا شيء عليه وصومه تام، ولو أقام عامدًا فعليه الكفارة] اهـ.
أما في حالة الشك في غروب الشمس:
فالفقهاء جميعًا متفقون على أن من شك في غروب الشمس فليس له أن يفطر ابتداء؛ لأن النهار هو الأصل، فلا يزول إلا بيقين، عملًا بقاعدة استصحاب الأصل، وبقاء ما كان على ما كان.
قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 106): [ولو شك في غروب الشمس لا ينبغي له أن يفطر؛ لجواز أن الشمس لم تغرب فكان الإفطار إفسادا للصوم... فرق بينه وبين التسحر.
ووجه الفرق: أن هناك الليل أصل، فلا يثبت النهار بالشك فلا يبطل المتيقن به بالمشكوك فيه، وههنا النهار أصل فلا يثبت الليل بالشك، فكان الإفطار حاصلًا فيما له حكم النهار] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "شرح الرسالة" (1/ 171): [وإذا شك في غروب الشمس فالأصل بقاء النهار؛ فوجب اعتبار الأصل] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (1/ 249): [وأما من شك في غروب الشمس فلا يأكل باتفاق] اهـ.
وقال الإمام الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 333): [وإن أكل وهو يشك في غروب الشمس لم يصح صومه؛ لأن الأصل بقاء النهار] اهـ.
نص الفقهاء على أنه إذا أفطر وهو شاك في غروبها، ثم تبين خطؤه: لزمه القضاء.
جاء في كتاب "الأصل" للإمام محمد بن الحسن الشيباني (2/ 188-189): [فإن أفطر وهو يرى أن الشمس قد غابت، ثم تبين له بعد ذلك أنها لم تغب. قال: عليه أن يمكث حتى تغيب الشمس ثم يفطر وعليه قضاء ذلك اليوم ولا كفارة عليه لأنه ظن أن الشمس قد غابت] اهـ.
وقال العلامة ابن مازه في "المحيط البرهاني" (2/ 375): [وإن أفطر وغالب رأيه أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب بعد كان عليه قضاء ذلك اليوم] اهـ.
وقال الإمام الزيلعي في "تبيين الحقائق" (1/ 342): [وأما إذا أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب فعليه القضاء] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة على مذهب عالم المدينة" (ص: 472، ط. المكتبة التجارية): [ولو صلى المغرب وعنده أن الشمس قد غربت، ولم تكن غربت؛ لزمه القضاء، وكذلك إذا أفطر وعنده أنها قد غربت، وبان له أنها لم تغرب] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر القرطبي المالكي في "الكافي في فقه أهل المدينة" (1/ 350، ط. الرياض الحديثة): [فإن ظن أن الشمس قد غربت بغيم أو بغيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير (3/ 415، ط. دار الكتب العلمية): [أما إن اشتبه عليه دخول الليل، فظن أن الشمس قد غربت، وأن الليل قد دخل فأفطر فله ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يتبين له أنه كان نهارًا، وأن الشمس لم تكن غربت فعليه الإعادة، وهو قول عامة الفقهاء] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب في دراية المذهب" (4/ 20، ط. دار المنهاج): [من أقدم على مفطرٍ في آخر النهار؛ ظانًّا أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، لزم القضاء، نص عليه الشافعي] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 147): [أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، فعليه القضاء هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، وحكي عن عروة، ومجاهد، والحسن، وإسحاق: لا قضاء عليهم] اهـ.
وقال الإمام ابن هبيرة الشيباني في "اختلاف الأئمة العلماء" (1/ 234، ط. دار الكتب العلمية): [واتفقوا على أنه إذا أكل وهو يظن أن الشمس قد غابت، أو أن الفجر لم يطلع، فبان الأمر بخلاف ذلك: أنه يجب عليه القضاء] اهـ.
ونقله الاتفاق على وجوب القضاء على من أكل ظانًّا عدم طلوع الفجر: إنما هو في حال الشك والتردد بين أمرين بلا اجتهاد ولا ترجيح عنده، أما إذا اجتهد ونظر فترجح عنده أن الفجر لم يطلع، أو أن الشمس قد غربت فأكل، ثم تبين له أنه قد أخطأ في اجتهاده، فالخطأ مرفوع عنه ولا قضاء عليه؛ إذ دلت النصوص على أن الإنسان غير مؤاخذ بما كان منه على سبيل الخطأ.
قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: 5].
وقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 286].
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» أخرجه ابن ماجه في "السنن" والطبراني في "المعجم"، والبيهقي في "السنن"، وصححه ابن حبان.
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 127، ط. مكتبة الرشد): [(فبين أنه لا جناح علينا إلا فيما تعمدت قلوبنا، واحتجوا بقوله عليه السلام: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فوجب أن يكون مرفوعًا من كل وجه إلا أن يقوم دليل] اهـ.
وروى عن الصحابة رضي الله عنهم أن منهم من أفطر خطأً ظانًّا بغروب الشمس، واختلف في قضائه، ومنهم من نص على أنه لم يقض لعدم التعمد ولسبق الاجتهاد.
فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: "أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: "لا بد من قضاء" وقال معمر: سمعت هشامًا "لا أدري أقضوا أم لا" أخرجه البخاري في "الصحيح".
قال العلامة الخطابي في "معالم السنن" (2/ 109، ط. المطبعة العلمية): [اختلف في وجوب القضاء في مثل هذا: فقال أكثر أهل العلم: القضاء واجب عليه، وقال إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر: لا قضاء عليه ويمسك بقية النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس، وروي ذلك عن الحسن البصري، وشبهوه بمن أكل ناسيًا في الصوم] اهـ.
وروى الإمام مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم، عن أخيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى، وغابت الشمس فجاءه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين أطلعت الشمس؟ قال عمر: "الْخطْب يَسِيرٌ، وَقَد اجْتهَدْنَا". قال مالك: يريد بقوله: "الخطب يسير" القضاءَ، فيما نُرى، والله أعلم، وخفة مئونته ويسارته؛ يقول: نصوم يوما مكانه".
وجاء نص عمر رضي الله عنه على عدم القضاء في رواية عبد الرزاق في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار":
ولفظ رواية عبد الرزاق في "المصنف": "أفطَرَ النَّاسُ في زمنِ عمرَ بن الخطاب، فرأيتُ عِسَاسًا أُخرِجَت من بيتِ حفصةَ، فشَرِبُوا، ثم طلعتِ الشمسُ من سَحَابٍ، فكأنَّ ذلك شقَّ على النَّاسِ، فقالوا: نَقضي هذا اليومَ، فقال عمرُ رضي الله عنه: "لِمَ؟ واللهِ ما تَجَانفنَا لإثمٍ".
ولفظ رواية البيهقي في "السنن الكبرى" و"معرفة الآثار" عن زيد بن وهب، قال: بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان، والسماء متغيمة فرأينا أن الشمس قد غابت، وأنا قد أمسينا، فأخرجت لنا عساسًا من لبن من بيت حفصة، فشرب عمر رضي الله عنه وشربنا، فلم نلبث أن ذهب السحاب وبدت الشمس، فجعل بعضنا يقول لبعض: نقضي يومنا هذا، فسمع ذلك عمر رضي الله عنه فقال: "والله لا نقضيه، وما تجانفنا لإثم".
وكان عدي بن حاتم رضي الله عنه يجتهد في معرفة توقيت الصيام، حتى بيَّنه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمره بقضاء ما سبق، فلما نزلت: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187] قال له عدي بن حاتم رضي الله عنه: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ» متفق عليه.
قد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إن ترجح عنده بعد نظرٍ واجتهاد أن الشمس قد غربت فأفطر، ثم تبين خطؤه وأنها لم تغرب، فصيامه صحيح ولا قضاء عليه؛ لأن غالب الظن حجة موجبة للعمل به، ولعموم الأدلة الدالة على أن العبد غير مؤاخذ بما أخطأ فيه، ولأن الظن الغالب كالمتيقن.
قال الإمام السمرقندي في "تحفة الفقهاء" (1/ 365-366، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كان أكثر رأيه أن الفجر لم يطلع ينبغي أن يدع الأكل أيضًا؛ لما قلنا لكن لو تسحر لا يلزمه القضاء؛ لأن بقاء الليل أصل وهو ثابت بغالب الرأي، وإنما الشك والاحتمال في طلوع الفجر فلا يجب القضاء بالشك والاحتمال.. ولو كان غالب ظنه أن الشمس قد غربت لا يسعه أن يفطر لاحتمال أن الشمس لم تغرب، ولو أفطر لا قضاء عليه؛ لأن الغالب في حق العمل بمنزلة المتيقن] اهـ.
وقال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (2/ 106): [ولو أفطر وأكبر رأيه أن الشمس قد غربت فلا قضاء عليه لما ذكرنا أن غالب الرأي حجة موجبة للعمل به، وأنه في الأحكام بمنزلة اليقين، وإن كان غالب رأيه أنها لم تغرب فلا شك في وجوب القضاء عليه؛ لأنه انضاف إلى غلبة الظن حكم الأصل وهو بقاء النهار فوقع إفطاره في النهار فيلزمه القضاء] اهـ.
وفرق المالكية في صحة صومه بين الفرض والتطوع، وفي قول بأن الصوم صحيح ولا قضاء عليه.
قال القاضي أبو محمد بن نصر البغدادي المالكي في "الإشراف على نكت الخلاف" (1/ 430، ط. ابن حزم): [مسألة: إذا أكل مجتهدًا، ثم بان له أن الشمس لم تغرب، أو الفجر قد طلع فصومه فاسد وعليه القضاء في الفرض، خلافاً لداود في قوله: إن صومه صحيح، ولا قضاء عليه] اهـ.
وجاء في "الجامع لمسائل المدونة" (3/ 1088، ط. دار الفكر): [وذكر مالك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفطر يومًا في رمضان في يوم غيم ورأى أنه قد غابت الشمس، ثم قيل له: قد طلعت الشمس، فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد اجتهدنا. قال مالك: يريد بالخطب القضاء. وإلى هذا ذهب الحنفي والشافعي. وذهب الحسن وابن سيرين إلي أن لا قضاء عليه. وكذلك إذا أكل بعد الفجر يظنه قبله، ودليلهم قوله صلي الله عليه وآله وسلم: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ»؛ ولحديث عمر هذا؛ فإنه قال: "والله لا يقضي" فلم ينكر عليه أحد] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (3/ 416، ط. دار الكتب العلمية): [وحكي عن داود بن علي وبه قال الحسن وعطاء إنه لا قضاء عليه تعلقًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وبما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بسويق، وهو صائم فأكل، وعنده أن الليل قد وجب وأكل الناس معه ثم طلعت الشمس، فقال: والله ما نقضي ما جانفنا إثمًا] اهـ.
وقال العلامة الروياني الشافعي في "بحر المذهب" (3/ 253، ط. دار الكتب العلمية): [ومتى تحقق الليل أفطر ويستحب له تعجيل الفطر، وإن لم يتحقق وغلب على ظنه دخوله نظر فإن كان غير دليل فالمستحب أن لا يأكل حتى يغرر بالصوم، فإن أكل ونفي الأمر على ذلك فلا قضاء عليه] اهـ.
قال الإمام ابن الرفعة الشافعي في "كفاية النبيه في شرح التنبيه" (6/ 327، ط. دار الكتب العلمية): [ولو أكل ظانًّا أن الشمس قد غربت، قال البندنيجي: ينظر: فإن كان ذلك عن دليل، فالمستحب له ألَّا يأكل حتى لا يضر بالصوم، فإن أكل وبقي الأمر على ذلك، فلا قضاء عليه، وهو الذي أورده المتولي، وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف فيه] اهـ.
وقال الإمام الزركشي الحنبلي في "شرح مختصر الخرقي" (2/ 600-601): [أمّا إن أكل ظانًّا أنّ الفجر لم يطلع، وأن الشمس قد غربت، ولم يتبين له شيء، فلا قضاء عليه، ولو تردد بعد، قاله أبو محمد؛ إذ لم يوجد يقين أزال ذلك الظن، فالأصل بقاؤه، وأوجب عليه صاحب "التلخيص" القضاءَ في ظن الغروب؛ إذ الأصل بقاء النهار، ومن هنا قال: يجوز الأكل بالاجتهاد في أول اليوم، ولا يجوز في آخره إلا بيقين، وأبو محمد يجوز الأكل بالاجتهاد فيهما] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 323): [(وإن أكل ونحوه شاكًّا في غروب الشمس ودام شكه) قضى؛ لأن الأصل بقاء النهار (ولا) يقضي إن أكل ونحوه (ظانا) غروب الشمس (ودام شكه)، ولم يتبين له الحال؛ لأن الأصل براءته] اهـ.
قد تقرر في قواعد الفقه أن الأحكام إنما تبنى على الظاهر منها، فإذا دل الظاهر أن الشمس قد غربت أو أن الفجر قد دخل: كان على المكلف الفطر ولا يضره خطؤه بعد ذلك؛ لتمسكه بالظاهر.
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (6/ 54، ط. دار المعرفة): [أن الحكم ينبني على الظاهر] اهـ.
وقال (6/ 162): [والبناء على الظاهر واجب حتى يظهر خلافه] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر القرطبي في "الاستذكار" (2/ 359، ط. وزارة الأوقاف المغرب): [وأجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر، وإلى الله عز وجل السرائر] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في "القواعد" (ص: 341): [القسم الثالث: ما عمل فيه بالظاهر ولم يُلتفَت إلى الأصل.. ومنها: الفطر في الصيام؛ يجوز بغلبة ظن غروب الشمس في ظاهر المذهب، ومن الأصحاب من قال: لا يجوز الفطر إلا مع تيقن الغروب، وبه جزم صاحب "التلخيص"، والأول أصح؛ لأن الوقت عليه أمارات تعرف بها فاكتُفِيَ فيها بالظن الغالب] اهـ.
وقال العلامة بدر الدين الدَّمامِيني في "مصابيح الجامع" (4/ 377، ط. دار النوادر): [قال ابن المُنَيِّر: والحكمة في اتفاق هذا في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم: أن لا يكون للشيطان على الناس سبيلٌ في تقنيطهم من رحمة الله، وتغييرهم لأحكام الله، وظنهم أنهم مخاطبون بالباطن لا بالظاهر، فأعلم الله بذلك أنهم إنما خوطبوا بالظن والظاهر، فإذا اجتهدوا وأخطأوا فلا حرج عليهم] اهـ.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فالقول بصحة الصوم إذا أكل الصائم أو شرب مخطئًا، يختلف باختلاف حاله ووقته.
فالفقهاء متفقون على أنه إن أكل أو شرب وهو شاكٌّ في طلوع الفجر، فصيامه صحيح ما دام شاكًّا؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، واليقين هنا كونه مفطرًا، والأصل في وقته الإفطار، والنهار لا يثبت بالشك، فلا يبطل المتيقن بالمشكوك فيه.
ولكنهم اختلفوا في وجوب القضاء عليه إذا ما تبين خطؤه بأن تيقن أن الفجر كان طالعًا، فذهب البعض منهم إلى أنه يلزمه القضاء، وذهب البعض إلى استحبابه، وذهب آخرون إلى أنه لا يلزمه القضاء، وفرق المالكية بين صيام الفرض والتطوع؛ فأوجبوا القضاء في صيام الفرض ولم يوجبوه في صيام التطوع.
أما إذا أكل أو شرب وهو شاك في غروب الشمس فقد اتفقوا على أنه يلزمه القضاء؛ لأن وقته وقت إمساك، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يعرض ما يزيله. فأما إذا استفرغ الجهد في معرفة غروب الشمس فترجح عنده وغلب على ظنه أنها قد غربت فأفطر، ثم تبين بعد فطره أنه قد أخطأ في اجتهاده وظنه، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه صومه صحيح ولا يلزمه القضاء.
والمختار للفتوى أن من أكل شاكًّا في طلوع الفجر ثم تبين خطؤه: فصومه صحيح ولا يلزمه القضاء، وأن من أفطر وهو شاك في غروب الشمس لزمه القضاء ما دام لم يترجح عنده غروبها، فإذا اجتهد حتى غلب على ظنه غروبها فأفطر ثم تبين خطؤه: فلا قضاء عليه؛ لأن الظن الغالب كالمتيقن والخطأ بعد الاجتهاد مرفوع عن المكلف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.