ما حكم صوم من أخذت دواء لمنع الحيض حتى تتمكن مِن صيام شهر رمضان كلِّه دون انقطاع؟
تناول المرأة دواءً يقطع دم الحيض عنها في وقت معيَّن، أو يؤخِّره -أمرٌ مشروعٌ ما لم يكن به ضررٌ عليها، فإنْ فَعَلَت وتَنَاوَلَت الدواءَ في رمضان لتتمكن مِن صومه كاملًا وانقطع الدم عنها، فإنه يُحكم لها بالطهارة، ويترتب على ذلك الحكم بصحة صومها شرعًا، ولا حرج عليها، ومع ذلك فإنَّ تَرْكَ الأمر على الفطرة التي فَطَرَ اللهُ النساءَ عليها هو الأَوْلَى في حَقِّها والأفضلُ، وتُثابُ المرأةُ على امتثال أَمْرِ الله تعالى في الفِعل والتَّرك على حدٍّ سواء.
المحتويات
صوم رمضان ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ فرضها الله سبحانه وتعالى على كلِّ مكلَّفٍ صحيـحٍ مقيمٍ مستطيعٍ خالٍ مِن الموانِع؛ قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
ولَمَّا كان الحيضُ أمرًا مكتوبًا على النساء وخارجًا عن إرادتهن، فقد خفَّف الله سبحانه وتعالى عنهن جُمْلةً مِن العبادات البدنيَّة التي لا تتناسب مع هذا الحدث كالصلاة والصيام والطواف، ونحو ذلك مِن العبادات.
ومِن المقرر شرعًا أنه لا يَصِحُّ صومُ الحائضِ، ولا يجبُ عليها ابتداءً بأنْ تشرعَ في الصوم وهي حائض، ولا دوامًا بأنْ يطرقها الحيض وهي صائمة فيَحرُم عليها استمرارها فيه، ولا يُجزئ إنْ فَعَلَته، ويجب عليها قضاءُ ما أفطرته بعد ذلك بإجماع الفقهاء؛ لِمَا ورد عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ" أخرجه الشيخان.
قال الإمام ابن حَزْم في "مراتب الإجماع" (ص: 23، ط. دار الكتب العلمية): [واتفقوا على أنَّ الحائضَ لا تُصلِّي ولا تَصومُ أيَّام حيضها] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البَرِّ في "التمهيد" (22/ 107، ط. أوقاف المغرب): [وهذا إجماعٌ أنَّ الحائضَ لا تصومُ في أيامِ حَيْضَتِهَا، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لا خلاف في شيءٍ مِن ذلك، والحمدُ لله] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (2/ 354، ط. دار الفكر): [أجمَعَت الأمة على تحريم الصوم على الحائضِ والنفساءِ، وعلى أنَّه لا يَصِحُّ صومها.. وأجمَعَت الأمَّةُ أيضًا على وُجُوبِ قضاء صوم رمضان عليها، نَقَل الإجماعَ فيه: الترمذي، وابن المنذر، وابن جرير، وأصحابنا، وغيرهم] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة في "المغني" (3/ 152، ط. مكتبة القاهرة): [أجمَعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ الحائضَ والنُّفساءَ لا يحلُّ لهما الصَّومُ، وأنَّهما يفطرانِ رمضانَ، ويقْضِيَانِ، وأنَّهما إذا صامَتَا لَمْ يُجْزِئْهُمَا الصَّومُ] اهـ.
قد تضافَرَت نصوص الفقهاء على مشروعية تناول المرأة دواءً بقصد تأخير الحيض، بشرط ألَّا تتضرر به في العاجل ولا في الآجل، وطريق ذلك بالرجوع إلى الطبيب المختص، فإن ترتب على تناولها لهذا الدواء ضررٌ على صحتها فيَحرُم عليها حينئذٍ تناوله، إذ مِن المقرر شرعًا أنه "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ".
كما نص الفقهاء على أن الطهر الحاصل بسبب تناول هذا الدواء طهرٌ تترتب عليه أحكامه، فتصوم فيه المرأةُ وتطوف وتصلي.
فعن وَاصِلٍ مَوْلَى ابن عُيَيْنَةَ عن رجلٍ "سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ امْرَأَةٍ تَطَاوَلَ بِهَا دَمُ الْحَيْضَةِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَشْرَبَ دَوَاءً يَقْطَعُ الدَّمَ عَنْهَا، فَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ بَأْسًا، وَنَعَتَ ابْنُ عُمَرَ مَاءَ الْأَرَاكِ". قال مَعْمَر: "وَسَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا" أخرجه الإمام عبد الرزاق الصَّنْعَانِي في "المصنف"، والمتقي الهندي في "كنز العمال".
وعن ابن جريجٍ قال: سئل عطاءٌ عن امرأةٍ تحيضُ، يُجعل لها دواء فترتفع حيضتها، وهي في قرئها كما هي، تطوف؟ قال: "نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الطُّهْرَ، فَإِذَا هِيَ رَأَتْ خُفُوقًا وَلَمْ تَرَ الطُّهْرَ الْأَبْيَضَ فَلَا" أخرجه الإمام عبد الرزاق الصَّنْعَانِي في "المصنف"، وأورده الخطيب البغدادي في "تلخيص المتشابه في الرسم" مِن طريق عمرو بن حبيب.
قال الإمام شمس الدين الحَطَّاب في "مواهب الجليل" (1/ 367، ط. دار الفكر) -بعد بحث مسألة: هل تصير المرأةُ طاهرةً باستعمالها دواءً لقَطْع الدم ورَفْعِه أم لا؟-: [(تنبيه) نصوص المذهب التي ذكرناها وغيرها صريحةٌ في أنَّ صومَها صحيحٌ مُجْزِئٌ] اهـ.
وقال الإمام الزُّرْقَانِي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (1/ 238، ط. دار الكتب العلمية) بعد ذكره أقوال فقهاء المالكية وما يظهر فيها مِن خلافٍ بينهم في عَدِّ الدم النازل بسبب الدواء حيضًا مِن عدمه، وكذا في عَدِّ الانقطاع بسبب الدواء طهرًا مِن عدمه: [هذا، وسماع ابن القاسم وكلام ابن كنانة يَدُلَّان على أنَّ وجوده بدواءٍ يُحكَم له بحُكم الحيض، ورفعه به يُحكَم له بحُكم الطهر، مع كراهة فعل ذلك فيهما، وعللها ابن رشد باحتمال دخولِ ضررٍ بجسمها بسببه] اهـ.
وقال الإمامُ مُحِبُّ الدِّين الطَّبَرِي الشافعي في "القِرى لقاصد أم القُرى" (ص: 424، ط. الحلبي) -مُعَقِّبًا على قول ابن عمر رضي الله عنهما-: [وإذا اعْتُدَّ بارتفاعه في هذه الصورة، اعْتُدَّ بارتفاعه في انقضاء العدة وسائر الصور] اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِي الشافعي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/ 122، ط. المكتبة الإسلامية): [مَن انقطع دمها لعارضِ مرضٍ أو دواءٍ سِنِين، ثم استُحيضت أو حاضت، كان ذلك الطُّهرُ المتطاوِلُ طُهرًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (1/ 266): [(فصل) رُوِيَ عن أحمدَ رحمه الله أنَّه قال: لا بأس أن تشربَ المرأةُ دواءً يقطع عنها الحيض، إذا كان دواء معروفًا] اهـ.
وقال العلامة برهان الدين ابن مُفْلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (1/ 258، ط. دار الكتب العلمية): [لا بأس بشرب دواء مباح لقطع الحيض إذا أُمِنَ ضررُه] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ تناول المرأة دواءً يقطع دم الحيض عنها في وقت معيَّن، أو يؤخِّره -أمرٌ مشروعٌ ما لم يكن به ضررٌ عليها، فإنْ فَعَلَت وتَنَاوَلَت الدواءَ في رمضان لتتمكن مِن صومه كاملًا وانقطع الدم عنها، فإنه يُحكم لها بالطهارة، ويترتب على ذلك الحكم بصحة صومها شرعًا، ولا حرج عليها، ومع ذلك فإنَّ تَرْكَ الأمر على الفطرة التي فَطَرَ اللهُ النساءَ عليها هو الأَوْلَى في حَقِّها والأفضلُ، وتُثابُ المرأةُ على امتثال أَمْرِ الله تعالى في الفِعل والتَّرك على حدٍّ سواء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.