حكم التلفيق بين مذهبين في بعض مسائل الطهارة

  • المفتى: فضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي
  • تاريخ الصدور: 26 نوفمبر 1919
  • رقم الفتوى: 7308

السؤال

ما حكم التلفيق بين مذهبين في بعض مسائل الطهارة؟ حيث جاء في حاشية العلامة السفطي المالكي ‏على الشرح المسمى بـ"الجواهر الزكية ‏على ألفاظ العشماوية" للشيخ أحمد بن ‏تركي المالكي في باب فرائض ‏الوضوء ما نصه: "واعلم أنهم ذكروا ‏للتقليد شروطًا.." إلى أن قال: ‏‏"الثالث: أنه لا يلفق في العبادة، أما إن ‏لفق كأن ترك المالكي الدلك مقلدًا ‏لمذهب الشافعي، ولا يبسمل مقلدًا ‏لمذهب مالك، فلا يجوز؛ لأن الصلاة ‏حينئذٍ يمنعها الشافعي؛ لفقد البسملة، ‏ويمنعها مالك؛ لفقد الدلك"، ثم قال بعد ‏ذلك: "وما ذكروه من اشتراط عدم ‏التلفيق رده سيدي محمد الصغير ‏وقال: المعتمد أنه لا يشترط ذلك، ‏وحينئذ فيجوز مسح بعض الرأس ‏على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة ‏على مذهب المالكية، وكذا الصورة ‏المتقدمة ونحوها وهو سعة ودين الله ‏يسر".‏ فهل لو اغتسل غسلًا واجبًا أو توضأ ‏وضوءًا واجبًا من ماءٍ قليلٍ مستعمل ‏في رفع حدث مقلدًا لمذهب مالك ‏وترك الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي ‏يكون غسله أو وضوؤه صحيحًا مثل ‏الصورتين المتقدمتين؟ وهل يجوز التلفيق في قضية ‏واحدة بين مذهبين في غسل واجب أو ‏وضوء واجب؟

‏المعتمد أنه لا يشترط عدم التلفيق، ‏وحينئذ يجوز مسح بعض الرأس على ‏مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على ‏مذهب المالكية، وكذا الصورة ‏المتقدمة ونحوها، وهو سعة، ودين ‏الله يسر؛ كما نصَّ على ذلك العلامة الأمير.

وهذا قول صحيح، وهو ‏الذي تقتضيه النصوص الشرعية ‏أصولًا وفروعًا. 

ولو ‏اغتسل المسلم غسلًا واجبًا وتوضأ وضوءًا ‏واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع ‏حدث مقلدًا لمذهب مالك، وترك الدلك ‏مقلدًا لمذهب الشافعي يكون غسله ‏ووضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المذكورتين في ‏السؤال ومثل غيرهما من الصور ‏التي لا يضر فيها التلفيق بين مذهبين ‏أو مذاهب متعددة متى لم يكن هذا ‏التلفيق خارقًا للإجماع، وأما إذا كان ‏التلفيق خارقًا للإجماع بأن كانت ‏الحقيقة المركبة يقول ببطلانها جميع ‏المجتهدين، ولا يمكن لمجتهد آخر ‏على فرض وجوده أن يقول بها ‏كحرمان الجد من الميراث بالكلية ‏فالتلفيق باطل بالإجماع كما أن إحداث ‏قول بحرمان الجد بالكلية باطل ‏بالإجماع.

اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد أن ‏العلماء قد اختلفوا في التلفيق؛ وهو ما ‏إذا قلّد الشافعي مثلًا في عدم فرضية ‏الدلك للأعضاء المغسولة في الوضوء ‏أو الغسل، وقلد مالكًا مثلًا في عدم ‏نقض الوضوء باللمس بلا شهوة ‏وصلى، فإنَّ صلاته باطلة في ‏المذهبين؛ أما عند مالك؛ فلترك الدلك ‏في الوضوء، وأما عند الشافعي؛ ‏فلنقض الوضوء باللمس مطلقًا، ففريق ‏ذهب إلى صحة التقليد مطلقًا ولو في ‏مثل هذه الصورة الملفقة من مذهبين ‏على الوجه المذكور، وإلى ذلك ذهب ‏الكمال بن الهمام في "التحرير" -(3/ 351، مع شرحه "التقرير والتحبير"، ط. دار الكتب العلمية) -؛ حيث ‏صرح بجواز التقليد مطلقًا، وقال: ‏[وقيده متأخر بأن لا يترتب عليه ما ‏يمنعانه]، قال شارحه ابن أمير حاج: ‏‏[(وقيده)؛ أي: جواز تقليد غير مقلده. ‏‏(متأخر) وهو العلامة القرافي. (بأن لا ‏يترتب عليه)؛ أي: تقليد الغير. (ما ‏يمنعانه) بإيقاع الفعل على وجه يحكم ‏ببطلانه المجتهد إن معًا لمخالفة ‏الأول فيما قلده فيه غيره، والثاني في ‏شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك ‏العمل عنده] اهـ.‏

وأيد ذلك الشيخ عبد العظيم محمد ‏المكي في رسالته في التقليد -المسماة بـ"القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" (ص: 79-86، ط. دار الدعوة-الكويت)- حيث قال ‏ما نصه: [قد استفاض عند فضلاء ‏العصر منع التلفيق في التقليد، وذلك ‏بأن يعمل مثلًا في بعض أعمال ‏الطهارة والصلاة أو أحدهما بمذهب ‏إمام، وفي البعض الآخر بمذهب إمام ‏آخر، ولم أجد على امتناع ذلك برهانًا، ‏بل قد أشار إلى منعه المحقق في ‏"التحرير"، وأنه لم يدر (ما يمنع) منه، ‏ونقل منع التلفيق عن بعض ‏المتأخرين، قال شارح تحريره ‏العلامة ابن أمير حاج: (وهو  ‏القائل بالمنع) العلامة القرافي. قلت: والقرافي رجل من ‏فضلاء الأصوليين من المالكية، ولا ‏علينا أن لا نأخذ بقوله] اهـ.‏

وقد صرَّح الأصوليون بأن المجتهدين ‏إذا اختلفوا على قولين لا ثالث لهما ‏جاز الاجتهاد بإحداث قول ثالث إن ‏كان مفصلًا، وقال أيضًا في رسالته ‏المذكورة -(ص: 94-97)-: [كما لو حصل التلفيق ‏بالاجتهاد، وحكمنا بالصحة فكذلك، أو ‏حصل التلفيق بالتقليد حكمنا بالصحة؛ ‏لأن الاجتهاد أصل في العمل والتقليد ‏فرع؛ لأن التكليف في الأصل إنما هو ‏بالاجتهاد عند عدم النص، فإذا عجز ‏عن الاجتهاد ونزل إلى التقليد ففي كل ‏موضع قلنا بالصحة مع الاجتهاد، ‏ونقول بها مع التقليد عند العجز عنه ‏من غير زيادة أمر آخر، وما زاد ‏على ذلك فهو قول مخترع لا يقوم له ‏دليل مُرضٍ ولا ينهض به حجة، وما ‏يزعمه مَن منع مِن التلفيق من أن كلًّا ‏من المجتهدين اللذين قلدهما مثلًا ‏يقول ببطلان صلاته الملفقة مثلًا لو ‏سئل عنها بانفراده فمغالطة مدفوعة ‏بما أجمله أنه إنما يقول له: باطلة إن ‏كنت أخذت في ذلك الأمر الذي ‏حكمت، إما ببطلانها من أجله ‏بمذهبي، وإما إن كنت قلدت فيه ‏غيري فلا أحكم ببطلانها حينئذٍ في ‏حقك إذا كنت متمسكًا بقول مجتهد، ‏وكذلك يقول له الآخر في الأمر ‏الآخر؛ فبطل قولهم في إطلاق منع ‏التلفيق أن كلًّا من المجتهدين حاكم ‏ببطلان صلاته مثلًا، بل يقيد الحكم من ‏كل مجتهد منهما ببطلانها بما إذا كان ‏متمسكًا فيها بمذهبه، فيما يرى ذلك ‏المجتهد بطلانها بسبب فعله أو تركه ‏لا أن قلد غيره فيه فافهم، فبه تندفع ‏تلك المغالطة التي حكم فيها من حكم ‏بمنع التلفيق بسببه، فإن قلت: لا، بل ‏المجتهد يطلق القول ببطلانها على ‏رأيه، فنقول لا يضر هذا الإبطال بمَن ‏قلد مجتهدًا غيره في ذلك الأمر الذي ‏أبطلها بسببه، فسلمت له صلاته ‏بتقليده في كل أمر من أمورها مجتهدًا ‏يرى صحة ذلك الأمر، فصار حكم ‏المجتهد المبطل لها معروفًا عنه ‏بتقليده مَن يرى الصحة بذلك الأمر، ‏وبذلك ينصرف عنه حكم كل من ‏المجتهدين ببطلانها] اهـ.

وقال -‏أيضا في (ص: 97-104)-: [إذا قلد المكلف أبا حنيفة رضي الله عنه في أن المس غير ‏ناقض، وقلد الشافعي رضي الله ‏عنه في الاكتفاء بمسح بعض قليل ‏من الرأس لا يبلغ الربعَ أو ثلاثة ‏قراريط، وصلى جازت صلاته، وأن ‏ما قيل من عدم جوازها بناءً على أن ‏أبا حنيفة يرى عدم صحتها؛ لعدم مسح ‏القدر المفروض عنده، والشافعي يرى ‏عدم صحتها؛ لوجود المس فهي غير ‏جائزة عندهما، فهو مغالطة، وإطلاق ‏في محل التقييد، بل الحكم ببطلانها ‏عند كل منهما مقيد بما إذا كان آخذًا ‏في ذلك الأمر الذي حكم من حكم ‏ببطلانها بسببه بمذهب المبطل كما ‏تقدم بيانه قريبا.. وكذلك مسألة النكاح، فإنَّه لا يصح ‏بعبارة النساء عند الشافعي، ويصح ‏عنده الحكم على الغائب، وعندنا ‏الحكم بالعكس في المسألتين، فإذا حكم ‏بصحته بعد وقوعه بعبارة النساء ‏وبصحة الحكم على الغائب فقد لفق، ‏وقد حكموا بصحة هذا الحكم الملفق ‏من مذهبين] اهـ.‏

ونقل العلامة الطرسوسي عن "منية ‏المفتي" جواز الواقعة المركبة من ‏مذهبين وقال: [وقد نص فيها على ‏الجواز، وصورة ما ذكره قال: لو ‏قضى القاضي بشهادة الفساق على ‏غائب، أو شهادة رجل وامرأتين في ‏النكاح على غائب، فإنه ينفذ، وإن كان ‏مَن يجَوِّز القضاء على الغائب، يقول: ‏ليس للفاسق شهادة ولا للنساء في باب ‏النكاح شهادة، هذه عبارة "المنية"، فقد جعل الحكم وإن ‏كان مركبًا من مذهبين جائزاً] اهـ. -نقلًا عن "حاشية منحة الخالق على البحر الرائق" للعلامة ابن عابدين (5/ 203، ط. الحلبي)، و" العقد الفريد في بيان ‏الراجح من الخلاف في التقليد" (ل: 18، مخطوط بمكتبة جامعة الملك سعود).

‏وذهب فريق آخر إلى عدم جواز ‏التقليد في صورة التلفيق المذكورة، ‏وأيده العلامة قاسم في ديباجة "تصحيح ‏القدوري" حيث قال ما نصه: توضأ ‏ومسح بعض الرأس، ثم صلى بنجاسة ‏الكلب، قال في كتاب "توقيف الحكام على ‏غوامض الأحكام": بطلت بالإجماع] اهـ، ‏وانتصر له العلامة الشرنبلالي في ‏رسالته المسماة بـ "العقد الفريد في بيان ‏الراجح من الخلاف في التقليد" (ل: 17، مخطوط بمكتبة جامعة الملك سعود).

وأقول: ‏إن القائل بصحة التقليد مع التلفيق ‏يقول بصحة الصلاة الملفقة من ‏مذهبين، والقائل بعدم جواز التقليد مع ‏التلفيق يقول ببطلانها حيث بطلت في ‏المذهبين؛ فالأول يدعي صحة الصلاة ‏الملفقة مثلًا، والثاني يدعي بطلانها، ‏وكل يطالب بالدليل فليس أحدهما ‏مثبتًا والآخر نافيًا.

وعلى ذلك نقول ‏بما لا شبهة فيه: إن العلماء قد أجمعوا ‏على صحة تقليد العامي للمجتهد الذي ‏توفرت فيه شروط الاجتهاد، ولم ‏يقيدوا ذلك بعدم التلفيق؛ فالأصل ‏بمقتضى هذا الإطلاق هو الصحة، ‏وإطلاقهم حجة بلا شبهة، فمن ادعى ‏البطلان وأن ذلك مقيد بعدم التلفيق ‏فعليه البرهان، وأيضًا قول من قال: إن ‏من خالف كلًّا من المجتهدين اللذين ‏قلدهما في شيء واحد يستلزم وجود ‏حقيقة لا يقول بها كل من المجتهدين؛ ‏وذلك لأن كل واحد من المجتهدين لا ‏يجد في صورة التلفيق جميع ما ‏شرطه في صحتها، بل يجد بعضها ‏دون بعض. غير مسلّم؛ لأنا ‏نقول إذا خالف المقلد مذهب أحد ‏المجتهدين في جميع ما شرطه، ‏ووافق مذهب مجتهد آخر حكمنا ‏بصحة صلاته، وممَّا لا شك فيه أن ‏المخالفة في بعض الشروط في ‏صورة التلفيق أهون من المخالفة في ‏الجميع فلزم الحكم بالصحة في ‏الأهون بالطريقة الأولى؛ ينظر: "العقد الفريد" (ل: 10-13). ولذلك قال ‏السيد بادشاه بعد ذكر ما تقدم في المخطوطة السابقة (ل: 15-16، ): [ومن ‏يدعي وجود فارق أو دليل على ‏بطلان صورة التلفيق فعليه البرهان، ‏فإن قيل: لا نسلم كون المخالفة في ‏البعض أهون من المخالفة في الكل؛ ‏لأن المخالف في الكل متبع مجتهدًا ‏واحدًا في جميع ما يتوقف عليه صحة ‏العمل، وها هنا لم يتبع واحدًا، قلت: ‏هذا إنما يتمّ إذا كان معك دليل من ‏نص أو إجماع أو قياس قويّ يدل ‏على أن العمل إذا كان له شروط ‏يجب على المقلد اتباع مجتهد واحد ‏في جميع ما يتوقف عليه ذلك، فأت ‏به إن كنت من الصادقين] اهـ.

وأمَّا ‏ما قاله الشرنبلالي ردًا على السيد ‏بادشاه (ل: 15): من أن السيد رحمه الله: [يدعي ‏التلفيق وغيره بنفيه والثاني لا يحتاج ‏إلى دليل؛ لأنه يهدم دليل المدعي حتى ‏يقيم البرهان الجلي ولا بد من وجوده؛ ‏فالمطلوب إثبات دليل بجواز التلفيق ‏ولم نجده في كلام السيد] اهـ. فغير مسلم؛ ‏لما قدمناه من الإجماع على صحة ‏تقليد العامي للمجتهد مطلقًا، ولأن ‏مسألة التقليد مع التلفيق مبنية على ‏مسألة الاجتهاد بإحداث قول ثالث بعد ‏انحصار الخلاف في مسألة في ‏قولين، ففي كل موضع جاز الاجتهاد ‏وإحداث قول ثالث جاز التقليد مع ‏التلفيق.

والصحيح: جواز الاجتهاد ‏وإحداث قول ثالث مفصل بين القولين ‏بأن يأخذ بقول أحد المجتهدين في ‏حادثة، وبقول الآخر في حادثة أخرى ‏إذا لم يخرق إحداث هذا القول الثالث ‏إجماع مَن قبله، وممَّا لا شك فيه أنَّ من قلد الشافعي في مسح بعض ‏الرأس، وقلد مالكًا في عدم نقض ‏الوضوء باللمس بلا شهوة غاية ما ‏لزم من هذا التلفيق أن هذين ‏المجتهدين لا يقولان بصحة هذه ‏الصلاة مثلًا، أما مالك فيقول بعدم ‏صحة هذه الصلاة؛ لعدم مسح جميع ‏الرأس، وأما الشافعي فيقول بعدم ‏صحة هذه الصلاة؛ لوجود المس، ‏ولكن لا يلزم من عدم قولهما بذلك ‏بفرض تسليمه عدم القول بصحتها ‏من مجتهد آخر لجواز أن يوجد ‏مجتهد توفرت فيه شروط الاجتهاد ‏يقول بعدم نقض المس، وبالاكتفاء ‏بمسح البعض كأبي حنيفة مثلًا، فلا ‏تلفيق بين مذهبين وإنما قلد المقلد ‏مجتهدًا آخر يقول بصحة هذه الصلاة ‏المركبة من مذهبي مالك والشافعي؛ ‏فدعوى بطلان التلفيق مطلقًا بالإجماع ‏غير مسلمة، وإنما يبطل التلفيق إذا ‏كان العمل الملفق باطلًا بإجماع ‏المذاهب وهذا غير موجود في ‏الصور التي يجوز فيها التلفيق.

وأما ‏عدم قول اثنين من المجتهدين ‏بصحتها، فلا يقتضي الإجماع على ‏بطلانها حتى يقال: إنَّ التلفيق مطلقًا ‏باطل بالإجماع على أنك قد علمت أنَّ ‏القول بأن كلًّا من المجتهدين يقول ‏ببطلانها غير مسلّم؛ فإنَّ مالكًا مثلًا ‏يقول: إنما أقول ببطلان الصلاة إذا ‏مسح بعض الرأس فقط إذا لم يقلد ‏الشافعي أو أبا حنيفة، وأما إذا قلد ‏واحدًا منهما في ذلك؛ فإني أقول ‏بصحتها بناءً على قولي بصحة ‏التقليد، وكذلك الشافعي أيضًا يقول: إنما أقول بعدم صحة الصلاة مع ‏اللمس إذا لم يقلد غيري فيها، وأما إذا ‏قلد غيري فيها فإني لا أقول ببطلانها ‏على مذهب ذلك الغير. ينظر: "العقد الفريد" (ل: 13-14).

وبالجملة كما ‏يجوز أن يوجد مجتهد يرى باجتهاده ‏الاكتفاء بمسح البعض ولو قليلًا، ‏ويرى عدم نقض الوضوء باللمس ‏يجوز أيضًا للمقلد أن يقلد الشافعي في مسح بعض الرأس ولو قليلًا، ولا ‏يقلده فيما عدا ذلك من الشروط، ويقلد ‏مالكًا في عدم نقض الوضوء باللمس ‏بلا شهوة فقط، ولا يقلده فيما عدا ذلك ‏كما قدمناه مفصلًا عن السيد عبد ‏العظيم المكي.

وقال الإمام اللكنوي في "فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" في مبحث ‏الإجماع -(2/ 286، ط. دار الكتب العلمية) -: [(إذا) ‏اختلف (ولم يتجاوز أهل العصر عن ‏قولين في مسألة لم يجز إحداث) قول ‏(ثالث عند الأكثر، وجاز) الإحداث (عند ‏طائفة مطلقًا، ومختار الآمدي ‏والرازي أن رفع) الثالث (ما اتفقا عليه ‏فممنوع) إحداثه؛ نحو (مقاسمة الجد) ‏الصحيح (للأخ) كما عن أمير المؤمنين ‏علي وزيد بن ثابت، (وحجبه)؛ أي: حجب ‏الجد الأخ عن الميراث؛ كما عن خليفة ‏رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ‏وأصحابه وسلم أبي بكر الصديق ‏وأمير المؤمنين عمر وابن الزبير ‏وابن عباس رضي الله عنهم، فقد اتفق الكل على أنَّ ‏للجدّ ميراثًا، وإنما اختلفوا في القدر؛ (‏فالحرمان وسلب الميراث عن الجد ‏رأسًا (خلاف الإجماع)، فلم يجز إحداثه، ‏وإلا -أي: وإن لم يرفع ما اتفقا عليه ‏في المسألة- فلا يمنع من الإحداث ‏الثالث؛ (كالتفصيل في الفسخ بالعيوب) ‏البرص والجذام والجنون في أيهما ‏كان، والجب والعنة في الزوج، ‏والرتق والقرن في الزوجة، (فقيل: لا) ‏توجب الفسخ أصلًا، (وقيل: نعم) توجب ‏الفسخ في الكل، فالتفصيل لم يقل به ‏أحد، ولكن لا يرفع شيئًا ممَّا اتفقوا ‏عليه، بل في البعض بقول البعض، ‏وفي الآخر بقول الآخر، فيجوز ‏إحداثه، وفي "التيسير" عن بعض ‏الشروح أن الأقوال الثلاثة مشهورة ‏من الصحابة] اهـ. مع حذف وزيادة ‏للإيضاح به.

وقال أيضًا في (2/ 438) في مسألة لا ‏يرجع المقلد عما عمل به: ‏‏[(ويتخرج منه)؛ أي: ممَّا ذُكِر أنه لا ‏يجب الاستمرار على مذهب (جواز ‏اتباعه رخص المذاهب، ولا يمنع منه ‏مانع شرعي؛ إذ للإنسان أن يسلك ‏الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل) بأن ‏لم يظهر من الشرع المنع، (وبأن لم ‏يكن عمل) فيه )بآخر)، هذا مبني على ‏منع الانتقال عما عمل به ولو مرة. ‏وهو خلاف المختار كما قدمه، (وكان ‏‏عليه) وعلى آله وأصحابه الصلاة ‏والسلام يحب ما خف عليهم)، وما‏ل ابن عبد البر أنه لا يجوز للعامي ‏تتبع الرخص، فأجيب عنه بمنع هذا ‏بالإجماع؛ (إذ في تفسيق متتبع الرخص ‏عن الإمام) أحمد (روايتان)، ولعل رواية ‏التفسيق إنما هي فيما إذا قصد التلهي ‏فقط لا غير، (وما أورد) أنه يلزم على ‏تقدير جواز الأخذ بكل مذهب احتمال ‏الوقوع في خلاف المجمع عليه؛ إذ (‏ربما يكون المجموع) الذي عمل به ‏(ممَّا لم يقل به أحد فيكون باطلًا)، كمَن ‏تزوج بلا صداق اتباعًا؛ لقول الإمامين ‏أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله ‏تعالى، (وبلا شهود) اتباعًا لقول الإمام ‏مالك، (وبلا ولي) على قول إمامنا أبي ‏حنيفة فهذا باطل اتفاقًا، أما عندنا ‏فلانتفاء الشهود، وأما عند غيرنا ‏فلانتفاء الولي، (فأقول: مندفع لعدم ‏اتحاد المسألة)، وقد مر أن الإجماع ‏على نفي القول الثالث إنما يكون إذا ‏اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا فتدبر، ‏(ولأنه لو ثم لزم استفتاء مفت بعينه) ‏وإلا احتمل الوقوع فيما ذُكِر] اهـ بتصرف.

ومن هذا يُعلَم أنَّ مسألة التلفيق مبنية ‏على مسألة إحداث قول ثالث إذا ‏انحصر خلاف المجتهدين في عصر ‏في قولين، ففي كل موضع يمتنع فيه ‏إحداث القول الثالث بأن يكون القول ‏الثالث مخالفًا للإجماع يمتنع فيه ‏التلفيق أيضًا إذا خالفت الصورة ‏الملفقة إجماعًا، وأما إذا وافق بعضها ‏قول مجتهد، وخالفه بعض آخر وافق ‏فيه مجتهد آخر -كالصورة ‏المذكورة- فالتلفيق غير ممتنع.

ومن ‏ذلك يُعلَم أنَّ دعوى الإجماع على منع ‏التلفيق مطلقًا دعوى لم يقم عليها ‏دليل، بل قام الدليل على بطلانها، ‏وأنَّ ما قاله العلامة الأمير من أن "‏المعتمد أنه لا يشترط عدم التلفيق، ‏وحينئذٍ يجوز مسح بعض الرأس على ‏مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على ‏مذهب المالكية، وكذا الصورة ‏المتقدمة ونحوها، وهو سعة، ودين ‏الله يسر". قول صحيح، وهو ‏الذي تقتضيه النصوص الشرعية ‏أصولًا وفروعًا، كما أنه يعلم أنه لو ‏اغتسل غسلًا واجبًا وتوضأ وضوءًا ‏واجبًا من ماء قليل يستعمل في رفع ‏حدث مقلدًا لمذهب مالك، وترك الدلك ‏مقلدًا لمذهب الشافعي يكون غسله ‏ووضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المذكورتين في ‏السؤال ومثل غيرهما من الصور ‏التي لا يضر فيها التلفيق بين مذهبين ‏أو مذاهب متعددة متى لم يكن هذا ‏التلفيق خارقًا للإجماع، وأما إذا كان ‏التلفيق خارقًا للإجماع بأن كانت ‏الحقيقة المركبة يقول ببطلانها جميع ‏المجتهدين، ولا يمكن لمجتهد آخر ‏على فرض وجوده أن يقول بها؛ ‏كحرمان الجد من الميراث بالكلية ‏فالتلفيق باطل بالإجماع، كما أنَّ إحداث ‏قول بحرمان الجد بالكلية باطل ‏بالإجماع.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة