ما حكم المصافحة بين المصلين بعد التسليم من الصلاة؟ وهل هي بدعة؛ لأنها لم ترد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا صحابته الكرام، أو لأنها تشغل المصلي عن أذكار ختام الصلاة؟
المصافحة بين المصلين بعد التسليم من الصلاة من السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الأكرمين، وعليها عمل المسلمين ونصوص الفقهاء سلفًا وخلفًا، جيلًا بعد جيل، وهي داخلة في عموم مشروعية المصافحة والسلام بين الناس في كل لقاء أو استقبال، وليست مما يُشغل المصلي عن أذكار ختام الصلاة، بل هي تطبيق عملي لما ينبغي أن تشتمل عليه نية المصلي حال تسليمه من الصلاة بالسلام على مَن هو جَارُهُ فيها من طلب الأجر والثواب على فعل هذا الأمر المندوب.
المحتويات
تواردت النصوص من السنة النبوية الشريفة على عموم مشروعية المصافحة بين الناس عند كل لقاء، وأنها من السنن الحسنة التي يغفر الله تعالى بها الذنوب، فعن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» أخرجه أحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "السنن"، وابن أبي شيبة في "المصنف".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ، تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، وابن شاهين في "الترغيب".
وأما عن حكمها بين المصلِّين بعد التسليم من الصلاة:
فإنَّ وُرُودَ الأمر بعموم مشروعية المصافحة بين الناس عند كل لقاء دون تقييدها بوقت دون وقت، يقتضي كونها سُنَّةً مشروعةً بين المصلِّين عقب الصلوات الخمس وعند كل صلاة، وهذا ما فهمه المسلمون وجرى عليه عملهم جيلًا بعد جيل، وتتابعوا عليه في كثير من الأعصار والأمصار من غير إنكار، وتواردت على سُنِّيَّتِهِ أقوال الفقهاء من المذاهب الفقهية المتبوعة.
فأما كونها مما جرى عليه عمل المسلمين:
فقال العلامة ابن الحاج في "المدخل" (2/ 288، ط. دار التراث): [قال الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان: رحمه الله إنه أدرك بمدينة فاس والعلماء العاملون بعلمهم بها متوافرون أنهم كانوا إذا فرغوا من صلاة العيد صافح بعضهم بعضًا] اهـ.
وقال العلامة الكوراني [ت: 893هـ] في "رفع الرَّيْب والالتباس" (ص: 49، ط. دار الصالح) [فإنَّ فعل ذلك ذائعٌ شائعٌ يفعله جَمٌّ غفيرٌ ممن يُقتَدَى بهم وغيرهم، لا سيما في الحرمين الشريفين زادهما الله شرفًا وتعظيمًا، وقُطْرِ اليمن] اهـ.
وهي مستنبطةٌ أيضًا من سؤال الناس للمفتين عن حكمها، وأنها مـمَّا قد شاع وذاع وداوم عليه مَن يُقتَدى بهم من أهل الفضل والصلاح؛ كما في "إجابة السائلين بفتوى المتأخرين" للعلامة الحانوتي [ت: 1010هـ] (ق: 6أ، مخطوط جامعة الملك سعود)؛ حيث ورد السؤال بما نصه: [ما قولكم فيمن يصافح بعد أداء الصلوات الخمس.. يفعلونها معتَقَدُو الناس -أي: ممن يُقتدَى بهم-؛ من القضاة، والمدرسين، والخطباء، والأئمة، والمشايخ، ويُصِرُّون على فعلها؟] اهـ.
وأما توارد نصوص الفقهاء على سنيتها:
فقال العلامة الطحطاوي الحنفي في حاشيته على "مراقي الفلاح" (ص: 530، ط. دار الكتب العلمية): [وكذا تُطلب المصافحة؛ فهي سنة عقب الصلاة كلها، وعند كل لُقِيٍّ] اهـ.
وقال العلامة الحانوتي في "إجابة السائلين بفتوى المتأخرين" (ق: 6أ)، ونقله عنه العلامة الشرنبلالي الحنفي [ت: 1069هـ] في "سعادة أهل الإسلام بالمصافحة عقب الصلاة والسلام" (ص: 54، ط. دار الصالح): [نصت العلماء رضي الله عنهم على أن المصافحة.. مسنونة، من غير أن يقيِّدوها بوقت دون وقت؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ وَحَرَّكَ يَدَهُ؛ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ الْوَرَقُ الْيَابِسُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ؛ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِأَسْبَقِهِمَا، وَوَاحِدَةٌ لِصَاحِبِهِ»، وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ.. الحديث»، فالحديث الأول يقتضي مشروعية المصافحة مطلَقًا؛ أعمّ من أن تكون عقب الصلوات الخمس والجمعة والعيدين أو غير ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَخُصَّها بوقت دون وقت، فإذا فُعِلَت في أيِّ وقت كان؛ كانت من مقتضيات هذه الأدلة، وداخلة تحت عموماتها، ولا يُشتَرَط فعلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصافحة ولا أمرُه عليه الصلاة والسلام بالمصافحة؛ لأنَّ من المقتضيات ما أفاده الدليل، وإلا لَمَا كان يمكن العمل بعمومات الأدلة، مع أنَّ الدليل العام عند الحنفية حيث لم يقع فيه تخصيص هو من الأدلة الموجِبة لحكمه قطعًا كالدليل الخاص؛ حتى قالوا: إن الدليل العام يعارض الخاص لقُوَّتِه، والدليل هنا عامٌّ؛ لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ..» إلى آخر الحديث عامٌّ؛ لأن صيغة (مَن) مِن صيغ العموم، وكذا صيغة (ما)، ويكفي هذا دليلًا على سُنِّيّة المصافحة] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (3/ 488، ط. دار الفكر): [والمختار أنْ يقال: إن صافحَ مَنْ كان معه قبل الصلاة: فمباحةٌ كما ذكرنا، وإن صافح من لم يكن معه قبل الصلاة عند اللقاء: فسنة بالإجماع؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك] اهـ، ونقله الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري في "النفح الشذي شرح جامع الترمذي" (4/ 564، ط. دار الصميعي) مُقِرًّا له.
قال العلامة الفقيه داماد أفندي في "مجمع الأنهر" (1/ 256، ط. دار الكتب العلمية): [وكذا المصافحة؛ بل هي سنة عقيب الصلاة كلها، وعند الملاقاة كما قال بعض الفضلاء] اهـ.
بل إنَّ من التأكيدِ على سنيتها واستحبابها في كل وقت وعقب كل صلاة: أنَّ بعض الفقهاء قد استوحش مما اعتاد عليه الناس في زمانه من الاقتصار عليها عقب صلاتي الصبح والعصر دون غيرهما من الصلوات، وعَدَّه من التفريط في القيام بهذه السنة وإن كان لا بأس به؛ لكونها سنة على كل حال.
قال الإمام النووي في "الأذكار" (ص: 266، ط. دار الفكر): [واعلم أنَّ هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن لا بأس به؛ فإن أصل المصافحة سُنَّة، وكونُهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرَّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يُخْرِجُ ذلك البعضَ عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها] اهـ.
وقال العلامة أحمد المنقور في "الفواكه العديدة في المسائل المفيدة" (1/ 127، ط. شركة الطباعة العربية): [قال محي الدين: مصافحة مَنْ كان معه قبل الصلاة، فمباحة كما ذكر، وإلا فمستحبة؛ لأن المصافحة عند اللقاء سنة بالإجماع، وكونها خَصَّها ببعض الأحوال وفرَّط في أكثرها؛ لا يخرج ذلك البعض عن كونه مشروعًا فيه] اهـ.
والادِّعاء بأن هذا الفعلَ بدعةٌ لكونه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم؛ مردودٌ عليه من وجهين:
- الأول: أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصافحةُ أصحابه له بعد الصلاة وعدمُ نهيهم عن ذلك:
فعن أَبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ"، قال أبو جحيفة: "فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنَ الْمِسْكِ" أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه رضي الله عنه أنَّه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاةَ الصبح، قال: فقام الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم، قال: فأخذتُ بيده فمسحتُ بها وجهي، فإذا هي أبردُ من الثلج، وأطيبُ ريحًا من المسك" أخرجه أحمد، والدارمي في "مسنديهما"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"، وابن خزيمة في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، وأصله عند أبي داود والترمذي في "السنن"، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان أيضًا.
قال الإمام المحب الطبري في "غاية الإحكام في أحاديث الأحكام" (2/ 224، ط. دار الكتب العلمية): [وهذه الأحاديثُ كلُّها دالٌّ على شرعية التبرك بمسّ كفِّ من تُرجَى بركتُه؛ مصافحةً، أو مسحًا على عضو، أو غمسًا في ماء، كما تضمنته الأحاديث، فيُسْتَأْنَسُ به فيما تطابق الناس عليه من المصافحة بعد الصلوات في الجماعات، لا سيَّما في الصبح والعصر، ولا نكير في ذلك إذا اقترن به قصدٌ صالحٌ؛ من تبركٍ أو تودُّدٍ أو نحو ذلك] اهـ.
- والثاني: أنَّ السلام والتحية بين الناس مأمورٌ بهما عند كل لُقْيَا، إلى حد الأمر بمعاودة السلام بينهم كلما شغلهم شاغل أو حالَ بينهم حائلٌ من جدارٍ أو غيره، وهو المرويُّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام؛ قال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسلم عليه فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ»، ثم قال: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» حتى فعل ذلك ثلاث مرات. متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: "إذا لقيَ أحدُكُم أخاه فليُسلم عليهِ، فإن حالت بينهما شجرةٌ أو جِدَارٌ أو جَجَرٌ، ثم لَقِيَهُ، فليُسَلِّم عليه" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو داود في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانُوا يَكُونُونَ مُجْتَمِعِينَ، فَتَسْتَقْبِلُهُمُ الشَّجَرَةُ، فَتَنْطَلِقُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِهَا وَطَائِفَةٌ عَنْ شِمَالِهَا، فَإِذَا الْتَقَوْا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، وابن السُّني في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
قال الإمام النووي في "الأذكار": (ص: 249، ط. دار الفكر): [إذا سَلَّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب: يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانيًا وثالثًا وأكثر؛ اتفق عليه صحابنا] اهـ.
ومن تمام السلام والتحية الأخذ باليد والمصافحة:
فعَنِ ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الأَخْذُ بِاليَدِ» أخرجه الترمذي في "سننه"، والبيهقي في "شعب الإيمان".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَتَمَامُ تَحِيَّتِكُمْ بَيْنَكُمُ الْمُصَافَحَة» أخرجه الترمذي في "السنن"، والشجري في "الأمالي".
والمسلم وهو في صلاته في حال غيابٍ وانقطاعٍ عمن حوله، فإذا سلَّم منها كان حالُهُ مع من يجاوره حالَ لقاء؛ فيُسَنُّ له أن يبدأه بالسلام، ولذا نص الفقهاء على أن يشمل المصلي بنيته في التسليم مِن الصلاة مَن يجاوره مِن المصلين، وأن سلامَهُ عليهم ومصافحتَهُ لهم بعد الخروج من الصلاة تطبيقٌ لما اشتمَلَت عليه نِيَّتُهُ في تسلميه منها.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "المبسوط" (1/ 10، ط. إدارة القرآن والعلوم الإسلامية): [قلت: وكيف يسلِّم الرجل إذا فرغ من صلاته؟ قال: يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، وعن يساره مثل ذلك، وينوي بالتسليم الأول مَن كان عن يمينه مِن الحَفَظَةِ والرجال والنساء في التسليمة الأولى، وعن يساره مثل ذلك] اهـ.
وقال العلامة فخر الدين الزيلعي في "تبيين الحقائق" (1/ 126، ط. المكتبة الأميرية): [وأما النية: فينوي بكل تسليمةٍ مَن في تلك الجهة من الرجال والنساء والحفظة الحاضرين الذين لهم شركة في صلاته؛ لأن الأعمال بالنيات، وهو لَمَّا اشتغل بمناجاة ربه صار بمنزلة الغائب عنهم، فيسلم عليهم عند التحلّل؛ لأنه صار حاضرًا] اهـ.
ونقل العلامة الشرنبلالي الحنفي في مخطوطته "سعادة أهل الإسلام في حكم المصافحة بعد السلام" (ق: 3، المكتبة الأزهرية): [وحالة السلام من الصلاة حالة لقي بحسبه؛ لأن المصلي لما أحرم صار غائبًا عن الناس مقبلًا على الله تعالى بعبادته، فلما أدَّى حقَّه قيل أرجع إلى مصالحك ومآربك، وسلِّم على إخوانك لعجزك واحتياجك وقدومك من غيبتك؛ ولذلك ينوي القوم بسلامه كما ينوي الحفظة، وإذا سلَّم يُندَب له المصافحةُ أو تُسَنُّ كالسلام، فلا مانع من المصافحة لِسُنِّيَّتِهَا في كل حال، كما أجاب به شيخ الإسلام شيخ مشايخنا شمس الدين محمد بن سراج الدين الحانوتي الحنفي رحمه الله] اهـ.
كما أنَّ الأمرَ بالمصافحة متسع؛ فيشمل حال الاستقبال بعد الغيبة حقيقةً أو حكمًا، مما يجعل استقبال المسلم لأخيه بعد الصلاة أصلًا في استحباب المصافحة بينهما:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدَيْنِ مُتَحَابَّيْنِ فِي اللهِ، يَسْتَقْبِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُصَافِحُهُ وَيُصَلِّيَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى تُغْفَرَ ذُنُوبُهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْهُمَا وَمَا تَأَخَّرَ» أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المسند"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والشجري في "ترتيب الأمالي".
قال العلامة ابن الحسن الكوراني في "رفع الريب والالتباس عن دليل المصافحة بعد الصلاة للناس" (ص: 66، ط. دار الصالح): [إنما ذكر فيه الاستقبال، وهو صادقٌ باستقبالٍ بعد الغيبة الحكمية، كما أنه صادقٌ باستقبالٍ بعد الغيبة الحسية؛ لأن المصلين كلهم مستقبلين إلى القبلة، لا بعضهم إلى بعض غالبًا، فإذا فرغوا من الصلاة واستقبل البعض إلى البعض جاء وقت المصافحة، فجاز أن يكون هذا قرينة على عموم الالتقاء للحكمي والحسي] اهـ.
وأما الادِّعاء بأنَّ في المصافحة شغلًا للمصلي عن أذكار ختام الصلاة:
فيُرَدُّ على ذلك: بأن كلا الأمرين مندوبٌ إليه ولا تعارض بينهما البتة، وإن استلزم ذلك ترتيبًا فالبدءُ بالمصافحة أَوْلَى؛ لما سبق بيانه من أن نية المصلي في تسليمه من الصلاة تشمل مَن بجانبه مِن المصلين، وأن المصافحةَ تطبيقٌ لما اشتملت عليه نيته هذه، وهي مقيدة بأول اللقاء؛ فكان البدء بها هو المقدم على أذكار ختام الصلاة؛ لأن أذكار الختام في وقتها سَعَة، حتى لو قالها بعد خروجه من المسجد، أو بعد فاصل لا يُعَدُّ طويلًا عرفًا: فقد أصاب السنة.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 328، ط. دار المعرفة): [الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ؛ فإن كان يسيرًا بحيث لا يُعَدُّ مُعرِضًا، أو كان ناسيًا أو متشاغلًا بما وَرَدَ أيضًا بعد الصلاة كآية الكرسي؛ فلا يضر] اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (2/ 105، ط. المكتبة التجارية بمصر): [وانصرافه لا ينافي ندب الذكر له عقبها؛ لأنه يأتي به في محلّه الذي ينصرف إليه، على أنه يؤخذ من قوله: (بعدها) أنه لا يفوت بفعل الراتبة] اهـ.
قال العلامة ابن القاسم العبادي في "حاشيته عليه" (2/ 105): [وقد يقال: وقوعُهُ بعد توابعها وإن طالت لا يخرجه عن كونه بعدها، فليتأمل] اهـ.
وقال العلامة القليوبي في "حاشيته على منهاج الطالبين" (1/ 198، ط. دار الفكر): [(والذكر بعدها) أي: عقبها؛ فيفوت بطول الفصل عرفًا] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 365، ط. دار الكتب العلمية): [يُسَنُّ ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة المكتوبة كما ورد في الأخبار على ما ستقف عليه مُفَصَّلًا. قال ابن نصر الله في الشرح: والظاهر أن مرادهما أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه فالظاهر أنه مُصِيبٌ للسنة أيضًا؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شُغِل عن ذلك ثم تذكَّره فذكَرَهُ فالظاهر حصول أجره الخاص له أيضًا إذا كان قريبًا لعذر] اهـ.
وقد كان من فعله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُقْبِل على أصحابه رضوان الله عليهم بعد صلاته مباشرة، وقبل ما كان يقوله من الدعاء صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه" أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"، وابن أبي حاتم في "العلل"، وأبو موسى الأصبهاني في "اللطائف من دقائق المعاني".
قال العلامة المناوي في "فيض القدير" (1/ 395، ط. المكتبة التجارية): [فقد ورد أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه، فيُحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل بوجهه على أصحابه؛ فلا تدافع] اهـ.
وقد جاء في الحديث فضل الدعاء وأن المصافحةَ سببٌ للاستجابة والقبول: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بَيَدِ صَاحِبِهِ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا وَلَا يَرُدَّ أَيْدِيَهُمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا» أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى في "مسانيدهم"، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة".
ونص الفقهاء على استحباب اقتران المصافحة بالدعاء:
قال الإمام النووي في الأذكار" (ص: 266): [ويُستحبّ مع المصافحةِ: البشاشةُ بالوجه، والدعاءُ بالمغفرة وغيرها] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 18، ط. دار الكتب العلمية): [وتُنْدَبُ المصافحةُ مع بشاشةِ الوجهِ والدعاءِ بالمغفرةِ وغيرِها للتلاقي] اهـ.
وهذا هو الحاصلُ في عرف الناس وعاداتهم؛ حيث يَجْمَعُونَ بين المصافحة والدعاء عقب الصلاة –بقول: "حرمًا" و"جمعًا"، أو "تقبل الله" و"مِنَّا ومنكم"-، وهما أصلان جاءَ الشرع بهما وحثَّ عليهما؛ لإشاعة الألفة والمودة بين المسلمين، علاوةً على استحباب اقترانهما كما سبق.
وبناءً على ذلك: فالمصافحة بين المصلين بعد التسليم من الصلاة هو من السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الأكرمين، وعليها عمل المسلمين ونصوص الفقهاء سلفًا وخلفًا، جيلًا بعد جيل، وهي داخلة في عموم مشروعية المصافحة والسلام بين الناس في كل لقاء أو استقبال، كما أنها تطبيق عملي لما ينبغي أن تشتمل عليه نية المصلي حال تسليمه من الصلاة بالسلام على مَن هو جَارُهُ فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.