سائل يقول: للعمرة حِكم ومقاصد؛ فنرجو منكم بيان أهم هذه الحِكم وتلك المقاصد.
شرع الله سبحانه وتعالى العمرة لمقاصد كثيرة وحِكمٍ جليلةٍ منها: إظهار العبودية لله تعالى والامتثال لأمره، وتعظيم البيت الحرام الذي هو من حرمات الله المطلوب تعظيمها، وإقامة ذكر الله تعالى، ومغفرة الذنوب ونفي الفقر، والتحلي بمكارم الأخلاق.
المحتويات
العمرة شعيرة من شعائر الإسلام، وعبادة من أفضل العبادات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه سبحانه وتعالى؛ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل العمرة وثوابها، وبيَّنَ أنَّ في متابعة العمرة إلى العمرة تكفيرًا للذنوب والسيئات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» متفقٌ عليه.
قال الإمام النووي في "شرحه على مسلم" (9/ 117-118، ط. دار الفكر): [هذا ظاهر في فضيلة العمرة، وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين] اهـ.
شرع الله سبحانه وتعالى هذه العبادة لِحكمٍ عظيمة ومقاصد شريفة، وأهم هذه الحكم والمقاصد:
- إظهار العبودية، والامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى؛ ففي إتمام العمرة وأدائها بإخلاصٍ كمال الانقياد والعبودية له تعالى؛ ولذا جاء الأمر الإلهي بإتمام العمرة لله تعالى؛ قال سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: امتثالًا لأمره، وتلبيةً لندائه، وإظهارًا لكمال العبودية له.
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 266، ط. دار المعرفة) في بيان مرامي إتمام أعمال الحج والعمرة لله تعالى: [فأما ترددات السعي، ورمي الجمار، وأمثال هذه الأعمال؛ فلا حظَّ للنفوس، ولا أنس فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها؛ فلا يكون في الإقدام عليها باعثٌ إلَّا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمرٌ واجبُ الاتباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محلِّ أنسه؛ فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلًا ما؛ فيكون ذلك الميل مُعينًا للأمر، وباعثًا معه على الفعل؛ فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد] اهـ.
- تحصيل الهداية والخير والثواب بقصد بيت الله الحرام والتبرك به؛ حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96].
قال الإمام الشوكاني في "فتح القدير" (1/ 415، ط. دار ابن كثير): [التقدير: لَلَّذِي استقر ببكة مباركًا، والبركة: كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده؛ أي: الثواب المتضاعف] اهـ.
- نيل رضوان الله تعالى بتعظيم بيته الحرام، باعتباره حرمة من الحرمات التي حثَّ القرآن على تعظيمها؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30].
قال الإمام فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (23/ 222، ط. دار إحياء التراث): [وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام] اهـ.
- إقامة ذكر الله تعالى، والإكثار منه؛ فالناظر في أعمال الحج والعمرة بصفة عامة يجد أنَّ الغرض والحكمة منها إنما هو ذكر الله تعالى؛ فقد أخرج الإمام أبو داود في "سننه" عَنْ أم المؤمنين السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ».
قال الإمام الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/ 192، ط. دار السلام): [والمراد أن هذه الأفعال ليست لنفسها بمراده؛ بل لأنه سبب لإقامة ذكر الله تعالى عندها] اهـ.
وقال في "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (3/ 347، ط. مكتبة الرشد): [المراد: أنَّ هذه الطاعات الفعلية إنما شُرِعت لأجل ذكر الله فتُقرن به، والمراد الذكر اللساني؛ لأن هذه الأفعال هي ذكر؛ لأنَّ كل طاعة ذكر لله وباقي الأذكار التي شرعت في هذه الأفعال، وقيل: معناه أن نذكر الله في تلك المواطن، ونذكر نعمته على آدم بالتوبة بسبب إتيانه البيت ودعاءه عنده، ونعمته على إسماعيل وأمه عند سعيها بانفجار ماء زمزم بعقب جبريل، ونعمته على إبراهيم حيث أرشده للمناسك ورمي الشيطان بالجمار] اهـ.
- مغفرة الذنوب ونفي الفقر؛ فقد تَقرر أن من الحِكم المنصوص عليها في العمرة مغفرة الذنوب ونفي الفقر والذنوب؛ كما ورد في السُّنَّة المطهرة؛ حيث أخرج الإمام أحمد في "المسند"، وابن ماجه في "السنن" من حديث عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
قال الإمام الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (1/ 482): [قوله: تابعوا بين الحج والعمرة (فَإِنَّهُمَا)؛ أي: كل واحد منهما ويحتمل أن الحكم لهما معًا، وهو قوله: (يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ) يذهبانهما] اهـ.
وقال الإمام المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (3/ 454، ط. دار الكتب العلمية): [قال الطيبي رحمه الله: أي: إذا اعتمرتم فحجوا، وإذا حججتم فاعتمروا؛ (فَإِنَّهُمَا)؛ أي: الحج والاعتمار (يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ)؛ أي: يزيلانه وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد والفقر الباطن بحصول غنى القلب (وَالذُّنُوبَ)؛ أي: يمحوانها] اهـ.
- التحلي بمكارم الأخلاق؛ فقد أمر الله سبحانه وتعالى الْـمُحرمَ بالبعد عن الأخلاق المذمومة من الفسوق والرفث والجدال؛ ابتغاءَ عفو الله ومغفرته؛ ولا شك في أن الخطاب الموجَّه لمن قصد البيت للحج يشمل أيضًا من قصده للعمرة؛ فقد تقرر شرعًا أن أعمال العمرة من بعض أعمال الحج؛ فقال تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197].
وقد أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
قال الإمام النووي في "الإيضاح" (ص: 35، ط. دار البشائر): [وفي كفه عن محظورات الإِحرام حمله على مكارم الأخلاق وبُعْدُه عن الترف واللهو والشهوات وتوجيهه إلى الأعمال الصالحة رجاء العفو والمغفرة] اهـ.
بناءً على ذلك: فقد شرع الله سبحانه وتعالى العمرة لمقاصد كثيرة وحِكمٍ جليلةٍ منها: إظهار العبودية لله تعالى والامتثال لأمره، وتعظيم البيت الحرام الذي هو من حرمات الله المطلوب تعظيمها، وإقامة ذكر الله تعالى، ومغفرة الذنوب ونفي الفقر، والتحلي بمكارم الأخلاق.
والله سبحانه وتعالى أعلم.