ما حكم صيام أيام التشريق للمتمتع؟ حيث إن هناك بعض الحجاج يحُجُّون متمتعين ولا يقدرون على شراء هدي التمتع، ويريدون أن يصوموا عِوَضًا عن الهدي ثلاثة أيام في الحج، فهل يجوز صيام هذه الأيام الثلاثة في أيام التشريق؛ الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة؟
ما يقوم به بعص الحجاج من صيام أيام التشريق -الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة- عن الأيام الثلاثة التي وجبت عليهم في الحج عِوَضًا عن هدي التمتع بسبب عدم القدرة على القيام به؛ هو صيام صحيح وجائز شرعًا، ولا حرج عليهم في ذلك، ولا يلزمهم إعادة الصوم.
المحتويات
نُسُك التمتع: هو أنْ يُحرم الحاج بالعمرة في أشهر الحج مِن ميقات بلده أو من غيره من المواقيت التي يمر بها أو ما يحاذيها، ثم يؤديها وَيَفْرُغَ منها، ثم يُنْشِئَ حجًّا مِن عامه دون أنْ يرجع إلى الميقات للإحرام بالحج، وإنما سمي بالتمتع؛ لتمتع صاحبه بإحلال محظورات الإحرام له في فترةِ ما بين تَحَلُّلِهِ من العمرة وإحرامه بالحج، وقيل: لتمتعه بسقوط العَوْدة في حقه إلى الميقات ليُحرِمَ منه بالحج، وقيل: لهذين السببين معًا. ينظر: "تبيين الحقائق" للإمام فخر الدين الزيلعي الحنفي (2/ 45، ط. الأميرية)، و"الفواكه الدواني" للعلامة النفراوي المالكي (1/ 371، ط. دار الفكر)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني الشافعي (2/ 287، ط. دار الكتب العلمية)، و"المغني" للإمام ابن قدامة الحنبلي (3/ 260، ط. مكتبة القاهرة).
إذا وُفِّقَ القادمُ مِن الآفاق -وهي: الأماكن الخارجة عن حدود المواقيت المكانية- وأتى بأعمال العمرة في أشهر الحج، ثم مكث في مكة حتى أدَّى مناسك الحج في نفس العام على النحو المذكور سابقًا: فإنه يصير بذلك متمتعًا بإجماع الفقهاء، ويجب عليه حينئذٍ أنْ يُهدي دمًا ما دام مستطيعًا؛ ويسمى "هدي التمتع"، وإلا فعليه الصيام عشرة أيام؛ كما في "الإجماع" للإمام ابن المنذر (ص: 68، ط. دار الآثار).
والأصل في ذلك أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة بعد رجوعه لأهله؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 196].
أيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي تلي يوم النحر؛ أي: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وهي أيام منى؛ كما في "تبيين الحقائق" للإمام فخر الدين الزيلعي الحنفي (2/ 34)، و"النوادر" للعلامة ابن أبي زيد القيرواني المالكي (4/ 313، ط. دار الغرب الإسلامي)، و"الحاوي الكبير" للإمام الماوردي الشافعي (4/ 194، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر الخرقي" للإمام الزركشي الحنبلي (2/ 635، ط. دار العبيكان).
وقد ذهب جمهور الفقهاء؛ من المالكية، والإمام الشافعي في القديم ورجحه الإمام النووي، والحنابلة في معتمد المذهب، إلى أنه يجوز للمتمتع الذي لم يجد الهدي أن يصوم الأيام الثلاثة التي وجبت عليه في الحج في أيام التشريق الثلاثة -الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة-، وهو المروي عن أبي بكر الصديق، وأم المؤمنين السيدة عائشة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعروة بن الزبير، وابن شهاب الزهري، وربيعة الرأي، والأوزاعي، وإسحاق رحمهم الله جميعًا، وهو المختار للفتوى.
فعن أم المؤمنين عائشة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم؛ قالَا: "لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ".
وعن عروة بن الزبير قال: "كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بِمِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا" أخرج هذه الآثارَ الإمامُ البخاري في "صحيحه".
قال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة" (1/ 466، ط. المكتبة التجارية): [ويجوز للمتمتع صوم أيام التشريق] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 346، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [لا يجوز صوم يوم الفطر، ولا يوم الأضحى لأحدٍ من الناس، وكذلك أيام التشريق، إلا أن المتمتع إذا لم يجد هديًا وجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج ولم يصمها قبل يوم النحر: رخَّصَ له مالك وأصحابه في صيام أيام التشريق.. وقد روي ذلك عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول ابن شهاب وعروة] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 378، ط. دار الفكر): [إن أخَّر الصيام إلى يوم النحر فإنه يصوم أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر وإن نُهِيَ عن صيامها في غير هذا] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (4/ 53): [فأما أيام منى الثلاثة، ففي جواز صومها للمتمتع قولان: قال في القديم يجوز للمتمتع صومها، وهو قول مالك وربيعة وعائشة وابن عمر، رضي الله عنهم] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 445، ط. دار الفكر): [فرع في مذاهب العلماء في صوم أيام التشريق.. قال ابن عمر وعائشة والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق في رواية عنه: يجوز للمتمتع صومها] اهـ.
وقال في "روضة الطالبين" (2/ 366، ط. المكتب الإسلامي): [أما أيام التشريق؛ فلا تقبل على الجديد، وقال في القديم: يجوز للمتمتع وللعادم للهدي صومُها عن الثلاثة الواجبة في الحج.. وهذا القديم هو الراجح دليلًا وإن كان مرجوحًا عند الأصحاب] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 352، ط. دار إحياء التراث العربي): [وذكر الترمذي عن أحمد جواز صومها عن دم المتعة خاصة، قال الزركشي: خص ابن أبي موسى الخلاف بدم المتعة، وكذا ظاهر كلام ابن عقيل: تخصيص الرواية بصوم المتعة، وهو ظاهر "العمدة" فإنه قال: ونهى عن صيام أيام التشريق، إلا أنه أرخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد هديًا، واختاره المجد في "شرحه"، قلت: وقدم المصنف في هذا الكتاب في باب الفدية: أنها تصام عن دم المتعة إذا عُدم، وجزم به في "الإفادات"، وصححه في "الفائق" في باب أقسام النسك، وقدمه في "الرعاية الكبرى" في آخر باب الإحرام؛ قال ابن مُنَجَّى في "شرحه" في باب الفدية: هذا المذهب، وقدمه الشارح هناك والناظم] اهـ.
وقال تقي الدين ابن النجار الحنبلي في "منتهى الإرادات" (2/ 39، ط. مؤسسة الرسالة): [ولا يصح صوم أيام التشريق إلا عن دم متعة أو قران] اهـ.
وقال أبو السعادات البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 495، ط. عالم الكتب): [(إلا عن دمِ متعةٍ أو قِرَانٍ) لمن عدمه؛ فيصح صومها عنه] اهـ.
والقول بصحة وجواز صوم أيام التشريق للمتمتع هو ما يتوافق مع قواعد الشرع الحنيف من أنَّ "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَلَّدَ مَنْ أَجْازَ"؛ كما في "حاشية العلامة الشرواني" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية الكبرى)، وأن تصرُّفات المكلفين بعد صدورها منهم محمولة على ما صحَّ من مذاهب المجتهدين وأقوالهم، ومتى وافق عمل العامي قول أحد المجتهدين ممن يقول بالصحة أو الحل كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه باتفاق العلماء؛ كما في "الفتاوى" للشيخ العلامة محمد بخيت المطيعي -مفتي الديار المصرية الأسبق- (1/ 225، ط. دار وهبة).
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما يقوم به بعص الحجاج من صيام أيام التشريق -الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة- عن الأيام الثلاثة التي وجبت عليهم في الحج عِوَضًا عن هدي التمتع بسبب عدم القدرة على القيام به؛ هو صيام صحيح وجائز شرعًا، ولا حرج عليهم في ذلك، ولا يلزمهم إعادة الصوم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.