ما حكم صيام المريض النفسي؟
الأمراض النفسية تتفاوت فيما بينها في درجة المرض من جهة تأثيره على إدراك المصاب وقدرته على التحكم في ذاته وقواه العقلية، فإن لم يؤثر على إدراكه وسلامة قواه العقلية، فهو مكلفٌ بالصوم لتحقق الأهلية وأسباب التكليف وشروط صحته، غير أن الحكم في ذلك منوطٌ بالقدرة والاستطاعة، بحيث إذا أدى المرض به إلى تأخير بُرْئِه، أو أدَّى إلى زيادة مشقة لا تُحتَمَل عادةً، أو نحو ذلك مما يستلزم الإفطار بعد الرجوع إلى الطبيب المختص واستشارته؛ فيُرَخَّصُ له حينئذٍ بالفطر، ويلزمه القضاء بعد البُرْءِ والتمَكُّنِ من الصيام إن كان مِمَّن يُرجى برؤه من مرضه هذا، وإلا لزمته فدية عن كُلِّ يومٍ من الأيام التي أفطرها من رمضان.
أما إذا أَثَّر على إدراكه بحيث غَلب على عقله وعَطَّل قواه ولو كانت نوبات غير مزمنة؛ فلا يلزمه الصيام في تلك الحالة، ومع ذلك لو برئ من مرضه أثناء شهر رمضان تعلق به التكليف حينئذ ولزمه الخطاب، فيجب عليه الصيام، وهذا كله مع مراعاة أنَّ الطبيب النفسي المختص هو المرجع في تقرير تأثير المرض النفسي على الإدراك والقوى العقلية للمريض من عدمه.
المحتويات
الصيامُ أَحَدُ أركان الإسلام الخمس التي وضع الشرع الشريف لانعقاده أركانًا وشروطًا، والتي منها: العقل، وهو من تمام أهلية الإنسان التي عليها مدارُ تكليفِه وخِطابه من الأوامر والنواهي، وذلك لكونه آلةَ الفهم ووسيلةَ الإدراك، كما أفاده العلَّامة زين الدين ابن قُطْلُوبُغَا في "خلاصة الأفكار" (ص: 179، ط. دار ابن حزم).
ومِن عوارض الأهلية: فَقْدُ العقل أو نقصانُه، فالعقل مِن أعظم نِعَم الله تعالى على الإنسان، وهو مناط التكليف، وَهَبَهُ الله سبحانه وتعالى للإنسان ليميزَ الخبيث مِن الطيب والنافع من الضارِّ، وقد يولد الإنسانُ مجردًا مِن العقل، وقد يولد باضطرابٍ عقليٍّ، وقد يولد ومعه عقله لكنْ يعترضه ما يوقف العقلَ عن سيره في أول أطوار حياته، أو بعد ذلك بقليلٍ أو كثيرٍ مِن الزمن، وقد يُولد سليمَ العقل ويساير عقلُه جسدَه في النمو حتى يبلغَ رشيدًا، ثم يعتريه مرضٌ يُذهب عقلَه كُلَّهُ أو بعضَه، أو يذهب به في بعض الأزمنة دون بعضٍ، أو لا يؤثر على عقله.
ولَمَّا كانت الأمراض النفسية تتفاوت في درجة المرض، ومراتب الإدراك والقدرة على التحكم في الذات، بل قد يُحدث الاضطراب النفسي في بعض الحالات اختلالًا سريريًّا جسيمًا في إدراك الفرد أو ضبطه لمشاعره أو سلوكه، وعادة ما يرتبط بالكُرَب أو بقصور في مجالات مهمة من الأداء، بمعنى: أن المرض النفسي يمكن أن يتحول إلى مرضٍ عقليٍّ في حالات الإدمان غير المعالج، وحالات المرض النفسي غير المعالجة، والتي تؤدي إلى ظهور اضطرابات ذُهانية شديدة كالخرف المتدهور، ونوبة الفصام الحاد، ونوبات الهوس الشديدة والحادة، سواء كانت هذه النوبات مزمنة أو غير مزمنة، والتي تؤثر على قوى المصاب بها العقلية والسلوكية، ويُشار إلى الاضطرابات النفسية أيضًا بحالات الصحة النفسية، وهذا المصطلح الأخير أوسعُ نطاقًا؛ لأنه يشمل الاضطرابات النفسية والإعاقات النفسية والاجتماعية؛ كما أفادته منظمة الصحة العالمية في تقرير "الذهان والفصام" المنشور بتاريخ 24/ 10/ 2021م، و"الاضطرابات النفسية" المنشور بتاريخ 8 يونيو 2022م.
تكليف "المريض النفسي" بالعبادات -ومنها الصيام كما هي مسألتنا- لا يخلو من أحد حالين:
الأول: ألَّا يؤثر مرضُه على إدراكه وتمييزه لا بالعدم ولا بالنقصان؛ كالمريض بنوبة من الاكتئاب أو الوسواس أو اضطراب الخوف، وفي هذه الحالة يجب عليه الصوم، غيرَ أنَّ الحكم بالوجوب منوطٌ بالقدرة والاستطاعة؛ لما تقرر في قواعد الشرع من أن: "المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"، و"الضَّرَرَ يُزَالُ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لجلال الدين السيوطي (ص: 76، 83، ط. دار الكتب العلمية)، فإذا أخبره الطبيب المختص أن صيامَه يؤدي إلى تأخير بُرْئِه بسبب إخلال بمواعيد الدواء، أو أدَّى إلى زيادة مشقة لا تُحتَمَل عادةً أو نحو ذلك مما يستلزم الإفطار؛ فيُرَخَّصُ له حينئذٍ بالفطر، ويلزمه القضاء بعد البُرْءِ والتمَكُّنِ من الصيام إن كان مِمَّن يُرجى برؤه من مرضه هذا، وإلا لزمته فدية عن كُلِّ يومٍ من الأيام التي فطرها من رمضان.
وذلك لما تقرر عند فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن رخصةَ الفطر تتحقَّقُ في المرض الذي يزداد بالصوم شِدّةً أو مُدَّةً بإخبار الطبيب المختص، أو لا يستطيع المريض معه الصوم، أو يستطيعه بمشقَّة شديدة، وربما كان الإفطارُ في بعض الحالات واجبًا إذا كان الضررُ بالغًا وكان احتمالُ حصوله غالبًا؛ وعلى مَنْ أفطر أن يقضي ما أفطره عند القدرة. ينظر: "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم الحنفي (ص: 71، ط. دار الكتب العلمية)، و"القوانين الفقهية" للعلامة ابن جزي المالكي (ص 82، ط. دار القلم)، و"المجموع" للإمام النووي الشافعي (6/ 258، ط. دار الفكر)، و"الفروع" للعلامة ابن مفلح الحنبلي (4/ 437، ط. مؤسسة الرسالة).
والثاني: أن يؤثر المرضُ على إدراك المريض وتمييزه بالعدم أو النقصان؛ فيغلب فيها المرضُ على عقلِ المُصاب، حيث يضطرب إدراكُ مصابِه ويختلُّ فِعْلُهُ؛ كالمريض بالأمراض الذهانية كالخرف المتدهور، ونوبة الفصام الحاد، ونوبات الهوس الشديدة والحادة، فمثل هذه الأنواع بتأثيرها على العقل حُكْم المصاب بها حُكم من زال عقله بجنون وما يندرج في معناه، ولو كانت هذه النوبات غير مزمنة؛ بحيث يكون مكلفًا حين إفاقته، وغير مكلف حين تغلب تلك النوبات وقت حدوثها.
قال الإمام العمراني في "البيان" (2/ 12، ط. دار المنهاج): [قال الشافعي: "وأقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا، فيعزُب عنه الشيءُ وإن قلَّ، ثم يثوب إليه عقله"] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 314، ط. دار الكتب العلمية): [فوَرَدَ النصُّ في المجنون، وقيس عليه كلُّ مَن زال عقلُه بسبب يُعْذَرُ فيه، وسواء قلَّ زمن ذلك أو طال] اهـ.
كما قرر العلَّامة ابن عابدين إناطة حكم المجنون بغلبة الخلل في الأقول والأفعال الخارجة عن عادة الإنسان وإن كان يعلمها ويريدها، فقال في "حاشيته على الدر المختار" (3/ 244، ط. دار الفكر): [ولا ينافيه تعريف الدَّهْشِ بذهاب العقل، فإن الجنونَ فنون، ولذا فسره في "البحر" باختلال العقل وأدخل فيه العته والبرسام والإغماء والدَّهْش. ويؤيده ما قلنا قول بعضهم: العاقل مَن يستقيم كلامُه وأفعالُه إلا نادرًا، والمجنون ضده. وأيضًا فإن بعضَ المجانين يعرف ما يقول ويريده ويذكر ما يشهد الجاهل به بأنه عاقل ثم يظهر منه في مجلسه ما ينافيه، فإذا كان المجنون حقيقة قد يعرف ما يقول ويقصده فغيره بالأولى، فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه: إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، وكذا يقال فيمن اختلَّ عقلُه لكِبَرٍ أو لمرضٍ أو لمصيبةٍ فاجأته: فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال لا تعتبر أقواله وإن كان يعلمها ويريدها؛ لأن هذه المعرفة والإرادة غيرُ معتبرةٍ لعدم حصولها عن إدراكٍ صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل] اهـ.
قد تواردت نصوص العلماء على أن مريضَ العقل لا يلزمه العبادة في الحال التي يزول فيها عقله؛ فلا يجب عليه الصوم تخريجًا على اتفاق الفقهاء على أن الجنونَ مسقطٌ للصوم.
قال العلَّامة ابن أمير حاج في "التقرير والتحبير" (2/ 176، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا تجب العبادات عليه) -أي: المعتوه- كما لا يجب على الصبي العاقل أيضًا؛ كما هو اختيار عامة المتأخرين] اهـ.
وقال العلَّامة ابن عابدين في "رد المحتار" (3/ 243): [وصرَّحَ الأصوليون بأن حكمَه -أي المعتوه- كالصبي، إلا أنَّ الدَّبوسي قال: تجب عليه العبادات احتياطًا، وردَّهُ صدرُ الإسلام بأن العتهَ نوعُ جنونٍ فيمنع وجوب أداء الحقوق] اهـ.
وقال العلامة أبو النجا العشماوي في "متن العشماوية" (ص: 17، ط. شركة الشمرلي): [ومن شروط صحة الصوم: العقل، فمَن لا عقل له، كالمجنون والمغمى عليه، لا يصح منه الصوم في تلك الحالة] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 254، ط. دار الفكر): [المجنون لا يلزمه الصوم في الحال بالإجماع؛ للحديث وللإجماع] اهـ.
وقال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (1/ 393، ط. دار إحياء التراث العربي) نقلًا عن صاحب "المستوعب": [قال في الصوم: لا يجب على المجنون، ولا على الأبله للذين لا يفيقان. وقال في "الرعاية": يقضي الأبله، مع قوله في الصوم: الأبله كالمجنون. ذكره عنه في "الفروع"] اهـ.
بناء على ذلك: فإنَّ الأمراض النفسية تتفاوت فيما بينها في درجة المرض من جهة تأثيره على إدراك المصاب وقدرته على التحكم في ذاته وقواه العقلية، فإن لم يؤثر على إدراكه وسلامة قواه العقلية، فهو مكلفٌ بالصوم لتحقق الأهلية وأسباب التكليف وشروط صحته، غير أن الحكم في ذلك منوطٌ بالقدرة والاستطاعة، بحيث إذا أدى المرض به إلى تأخير بُرْئِه، أو أدَّى إلى زيادة مشقة لا تُحتَمَل عادةً، أو نحو ذلك مما يستلزم الإفطار بعد الرجوع إلى الطبيب المختص واستشارته؛ فيُرَخَّصُ له حينئذٍ بالفطر، ويلزمه القضاء بعد البُرْءِ والتمَكُّنِ من الصيام إن كان مِمَّن يُرجى برؤه من مرضه هذا، وإلا لزمته فدية عن كُلِّ يومٍ من الأيام التي أفطرها من رمضان.
أما إذا أَثَّر على إدراكه بحيث غَلب على عقله وعَطَّل قواه ولو كانت نوبات غير مزمنة؛ فلا يلزمه الصيام في تلك الحالة، ومع ذلك لو برئ من مرضه أثناء شهر رمضان تعلق به التكليف حينئذ ولزمه الخطاب، فيجب عليه الصيام، وهذا كله مع مراعاة أنَّ الطبيب النفسي المختص هو المرجع في تقرير تأثير المرض النفسي على الإدراك والقوى العقلية للمريض من عدمه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.