في ظل ما تقوم به المؤسسات المعنية بالوكالة عن الحجاج في ذبح هدايا التمتع والقران وتوزيعها على مستحقيها؛ فمتى يكون ذبح هذه الهدايا؟ علمًا بأنه يزداد في بعض الأحيان عدد الهدايا بكميات يتعذر معها استيفاء الذبح في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة، رغم استمرار الذبح المتتابع للهدايا دون انقطاع؛ فهل يكون الذبح حينئذٍ واقعًا في وقته أداءً، أو يكون قضاءً؟
يُستحب ذبح هدايا التمتع والقران في أيام النحر؛ خروجًا من خلاف الفقهاء، ولا مانع شرعًا من الأخذ بأن وقت الذبح يبدأ من حين إحرام الحاج بالنسك وأنه لا حدَّ لآخره، ومع ذلك: إذا شَرعت المؤسساتُ المعنيةُ الموكَّلةُ عن الحجاج في ذبح الهدايا؛ فإن استمرار الذبح المتتابع دون انقطاعٍ ولو بعد انتهاء أيام النحر: هو أمرٌ جائزٌ شرعًا ولا حرج فيه، والذبح المستمر بعد أيام النحر في هذه الحالة يقع أداءً لا قضاءً.
المحتويات
الحج مِن شعائر الله تعالى المعظَّمَة، وهو عبادة مشتملة على أنواع مِن المناسك والقربات، متنوعة في مقاديرها وصفاتها وطرق أدائها، ومِن هذه المناسك والقربات: إراقة دم الهدي لمَن جمع بينه وبين العمرة متمتعًا أو قارنًا؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ" متفق عليه.
وعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: "صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ" أخرجه مسلم في "الصحيح".
محل التفرقة بين التمتع والقران: هو وقت الإحرام بالحج فيهما؛ فالقران هو: أن يجمع بين الحج والعمرة في نية الإحرام بهما، أو أن يُحْرِم بالعمرة ثم يُدْخِل عليها الحج قبل الطواف، والتمتع هو: أن يُهِلَّ بعمرة مفردة مِن الميقات في أشهر الحج، فإذا فرغ منها أحرم بالحج مِن عامه؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (3/ 260، ط. مكتبة القاهرة).
قد أجمع الفقهاء على أنَّ مَن أَهَلَّ بعمرةٍ وحجٍّ في أشهر الحج مِن غير أهل مكة مِن عامِهِ؛ فإنَّ عليه الهدي إنْ وجده، وإلا فالصيام.
قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 70، ط. دار الآثار): [وأجمعوا على أنَّ مَن أَهَلَّ بعمرةٍ في أشهر الحج مِن أهل الآفاق، وقدِم مكة ففَرَغَ منها، فأقام بِها، فَحَجَّ مِن عامِهِ: أنه متمتِّعٌ، وعليه الْهَديُ إذا وجد، وإلا فالصيام] اهـ.
قد اختلف الفقهاء في وقت ذبح هدي التمتع والقران: فذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والحنابلة في المعتمد، إلى أن وقت ذبح الهَدْي يكون في أيام النحر؛ وهي ثلاثة: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر مِن شهر ذي الحجة.
قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام" (1/ 262، ط. دار إحياء الكتب العربية) عن هدي التمتع والقران: [(قوله: ويذبح الأخيرين يوم النحر) أراد باليوم: زمان النحر؛ وهو الأيام الثلاثة. (قوله: أي يتعين يوم النحر لذبحهما) أي: فلا يجزئه لو ذبح قبل أيام النحر بالإجماع، وإن أَخَّرَه: أجزأه، إلا أنه تاركٌ للواجب عند أبي حنيفة، وللسنة عندهما؛ فيلزمه دم عنده، لا عندهما؛ كما في "الفتح"] اهـ. والمقصود بالإجماع هنا: إجماع فقهاء الحنفية.
وقال جمال الدين ابن الحاجب المالكي في "جامع الأمهات" (ص: 217، ط. اليمامة): [ولا يجزئ نحر هديٍ إلا نهارًا بعد الفجر في أيام النحر بمنًى ولو قَبْل الإمام وقَبْل الشمس] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه لمختصر سيدي خليل" (2/ 380، ط. دار الفكر): [أيام منًى؛ وهي: يوم النحر واليومان بعده] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 384): [ووقت نحر الأضحية والهدي: ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده؛ نص عليه أحمد وقال: هو عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم] اهـ.
وذهب الحنابلة في قول: إلى أنه يختص بيوم النحر؛ وهو: اليوم العاشر، إضافةً إلى أيام التشريق الثلاثة؛ وهي: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر مِن شهر ذي الحجة، وهو ما نَصَّ عليه الإمام أبو الفرج الشيرازي [ت: 486هـ]، وجزم به الإمام ابن رزين [ت: 556هـ]، واختاره الإمام ابن عبدوس [ت: 559هـ]، والشيخ ابن تيمية.
قال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (4/ 86) في بيانِ آخرِ وقتِ ذبح الهدي: [قال في "الإيضاح": آخرُهُ آخر يوم من أيام التشريق، واختار ابن عبدوس في "تذكرته": أنَّ آخرَه آخرُ اليوم الثالث من أيام التشريق، واختاره الشيخ تقي الدين؛ قاله في "الاختيارات"، وجزم به ابن رزين في "نهايته"، والظاهر: أنه مراد صاحب "الإيضاح"؛ فإن كلامه محتمل.. (فإن فات الوقت: ذبح الواجبَ قضاءً، وسقط التطوع)] اهـ.
وذهب الشافعية: إلى أنَّ كلًّا مِن دم التمتع والقران لا يتقيد بوقتٍ كسائر دماء الجبرانات؛ فيجوز ذبحه متى شاء، ولا حَدَّ لآخرِ وقتِ إراقته، لكنهم قسموا الوقت إلى ثلاثة أجزاء: وقت جواز، ووقت وجوب، ووقت استحباب.
فأما وقت الجواز؛ كما في ظاهر المذهب وهو المعتمد: فبعد فراغ المتمتع من العمرة، وتحلله منها، وقبل أن يُحْرِم بالحج؛ لأنه حقٌّ ماليٌّ تَعَلَّق بسببين: الفراغ من العمرة، والشروع في الحج؛ فجاز تقديمه على أحدهما؛ كالزكاة.
وأما وقت الوجوب: فعند إحرامه بالحج؛ لأنه حينئذٍ يصير متمتعًا بالعمرة إلى الحج الذي جعله الله غايةً للوجوب في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: 196]، وما جُعِلَ غايةً للحكم، فإنَّ الحكم يتعلق بأوله؛ كما لو أُجِّلَ إلى رمضان.
وأما وقت الاستحباب: فهو يوم النحر؛ لأنه وقت جميع الضحايا والهدايا، وكذا للاتباع، وخروجًا من خلاف الأئمة الذين أوجبوا الذبح فيه.
قال نجم الدين ابن الرفعة في "كفاية النبيه" (7/ 104، ط. دار الكتب العلمية): [إن ذبح المتمتع بعد الفراغ من العمرة -أي: وقبل الإحرام بالحج- والقارن بعد الإحرام بالحج -أي: في صورة إدخال الحج على العمرة-: جاز على ظاهر المذهب؛ أي: المنصوص في "الإملاء"] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 290، ط. دار الكتب العلمية): [(ووقت وجوب الدم) عليه (إحرامه بالحج)؛ لأنه حينئذٍ يصير متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وقد يُفهم أنه لا يجوز تقديمه عليه، وليس مرادًا، بل الأصح جواز ذبحه إذا فرغ من العمرة، وقيل: يجوز إذا أحرم بها، ولا يتأقت ذبحه بوقت؛ كسائر دماء الجبرانات، (و) لكن (الأفضل ذبحه يوم النحر)؛ للاتباع، وخروجًا من خلاف الأئمة الثلاثة، فإنهم قالوا: لا يجوز في غيره] اهـ.
وقال أيضًا: (2/ 313): [المتمتع إذا فرغ مِن عمرته؛ فإنه يجوز له أن يذبح قبل الإحرام بالحج، وهذا هو المعتمد] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "الغرر البهية" (2/ 378، ط. المطبعة الميمنية): [(وتلزم) شاةٌ؛ كما سيأتي (من حج ذا تمتع) أي: متمتعًا بشروطٍ تقدمت؛ لآية: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ﴾ أي: بسببها، ولأنه تَرَفُّهٌ بترك أحد الميقاتين (إذ يحرم بحجه) أي تلزمه شاة وقت إحرامه بالحج؛ لأنه حينئذٍ يصير متمتعًا بالعمرة إلى الحج، ولا حد لآخر إراقة الدم كسائر دماء الجبرانات، لكن الأفضل إراقته يوم النحر] اهـ.
وقال في "أسنى المطالب" (1/ 465، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فصل: دم التمتع كدم الأضحية) في صفته، والاكتفاء بسبع بدنة أو بقرة، (ويجب) دمه (بالإحرام بالحج)؛ لأنه حينئذٍ يصير متمتعًا بالعمرة إلى الحج الذي جعله الله غاية للوجوب في آية: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾، وما جُعِلَ غايةً لحكمٍ يتعلق الحكم بأوله؛ كما لو أُجِّلَ إلى رمضان، (وإذا أراقه بعد) الفراغ من (العمرة قبل الإحرام بالحج جاز)؛ لأنه حقٌ مالي تعلق بسببين فراغ العمرة، والشروع في الحج فجاز تقديمه على أحدهما؛ كالزكاة (لا قبل الفراغ من العمرة) لنقص السبب؛ كالنصاب في تعجيل الزكاة، ولا تتأقت إراقته بوقت كسائر دماء الجبرانات، (و) لكن (الأفضل) إراقته (يوم النحر)؛ للاتباع، وخروجًا مِن خلاف مَن أوجبها فيه، ولولا هذان لكان القياس أن لا يجوز تأخيرها عن وقت الوجوب والإمكان كالزكاة] اهـ.
بل ذهب الشافعية في مقابل الصحيح: إلى أنه يجوز الذبح قبل الفراغ من العمرة؛ لأنه بالشروع في العمرة قد وُجِدَ بعض أسباب وجوبه، فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة.
قال الإمام أبو الحسين العمراني في "البيان" (4/ 92، ط. دار المنهاج) نقلًا عن صاحب "الإبانة": [إذا قلنا: يجوز أن يذبح بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج؛ فهل يجوز له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له؛ لأنه قد وُجِدَ بعض أسباب وجوبه، وهو الشروع في العمرة؛ فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنَّ أحد سببي الوجوب بكماله -وهو العمرة- لم يوجد؛ فصار كما لو ذبح قبل الإحرام بالعمرة] اهـ.
الخلاف السابق بين الفقهاء في وقت الذبح إنما هو في وقت الشروع فيه ومباشرة الذابح لفعل الذبح؛ لا في وقت تمامه أو الانتهاء منه؛ بحيث يصح القول بأنه لا خلاف عندهم أنه إن باشر فعل الذبح في الوقت المشروع له، ثم جاوزه إلى ما بعده من الأوقات: أجزأه ذلك؛ حيث إن إدراك جزء الوقت يجزئ كإدراك كله.
ولما كان ذبح الهدي من الأعمال التي تستغرق وقتًا وجهدًا وقد يحتاج الهادي إلى من يعنيه فيها، أو من يقوم له بها أصالة، إضافة إلى ما قد يعترض عملية نقل الحيوان المهدى وإخضاعه للذبح وتجهيز ما يذبح به من أدوات وآلات من مشاق وصعوبات؛ وسَّع الشرع الشريف وقت القيام بها حتى جعله يستوعب عددًا من الأيام تبدأ من فجر اليوم الأول لأيام النحر، وتنتهي بآخر أيام التشريق؛ تيسيرًا على المكلف في القيام بما أمر به من عبادة، ورفعًا لما قد يصاحبها من حرج أو مشقة، حتى يتمكن المكلف من القيام بما كلف به في وقته إذا ما لحقه عذر اضطره للتأخير إلى آخر الوقت، وكي لا يضطر للانتقال من حال الإجزاء إلى حال القضاء، أو أن يتكلف ما هو فوق وُسعه بفوات العبادة عليه.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 21، ط. دار ابن عفان): [أما الحاجيات؛ فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعةُ ورفعُ الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دَخَلَ على المكلَّفين على الجملة الحرجُ والمشقةُ، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة، وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات] اهـ.
تأكيدًا لما تغياه المشرع في أصل تشريعه، مِن التوسعة في وقت العبادات، حتى يتيسر على المكلف أن يقوم بها على الوجه الأتم؛ تواردت النصوص على أنَّ مَن أدرك جزءًا من الوقت فقد أدركه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» متفق عليه.
قال العلامة وليُّ الدين أبو زرعة في "الغيث الهامع شرح جمع الجوامع" (ص: 52، ط. دار الكتب العلمية): [«مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».. وغايته: جَعْلُ حُكمه كَحُكْمِ الْمُدرِك على طريق الفضل والامتنان والتوسيع] اهـ.
وينبني على ذلك: أنه إذا طرأ من الأحوال العارضة ما لا يسع فيه وقت التكليف الإتيان بالمكلف به؛ فإن مباشرته في جزء من الوقت تجزئ عما خرج عنه، وفي خصوص ذبح الهدي؛ فإنه لما اعتاد الناس أن ينيبوا في الهدي عنهم مَن يُحسِن القيام به، وبلغت مع ذلك الأنعام المُهْدَى بها من الكثرة ما يصعب معه أن يستوعبها الوقت المخصص لها؛ فإن البدء في الذبح في ذلك الوقت مع النية والقصد يجزئ عما خرج عنه، ما دام فعل الذبح مستمرًّا متتابعًا بما لا يُتَعَمَّد معه التأخير عن وقته أو الاستهانة به؛ وذلك لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "التَّابِعَ تَابِعٌ"، وأنه "يُغْتَفَرُ فِي التَّابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَتْبُوعِ"؛ إذ إنَّ ما اتَّصَل أوَّلُهُ بآخره بحيث لا يَفصل بينهما فاصلٌ يأخذ الآخرُ حُكمَ الأول، فلا يفترقان، ويصير حُكمُ الفعل واحدًا، ويقع كلُّه أداءً لا قضاءً؛ كما في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نجيم (ص: 102، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح مختصر خليل" للعلامة الخرشي (1/ 118، ط. دار الفكر).
قال العلامة ابن أمير حاج الحنفي في "التقرير والتحبير" (2/ 132، ط. دار الكتب العلمية): [(مسألة: الأداء: فعل الواجب في وقته المقيد به شرعًا) ثم أوضح الوقت المقيد به شرعًا باتباعه؛ بقوله: (العمر وغيره) أي: غير العمر؛ ليشمل الواجب المطلق والمؤقت (وهو) أي: فعل الواجب في وقته (تساهل) بالنسبة إلى المؤقت، فإنه لا يشترط؛ لكونه أداء وجود جميعه في الوقت، بل ما أشار إليه بقوله: (بل) الشرط (ابتداؤه) أي: الفعل (في غير العمر؛ كالتحريمة للحنفية) في غير صلاة الفجر؛ فإنَّ بإدراكها في الوقت يكون مدركًا للصلاة أداءً وإن كان ما سواها مفعولًا خارجه على ما هو المشهور عندهم، وهو مطلقًا وجهٌ للشافعية تبعًا لما في الوقت (وركعة للشافعية) فإنَّ بإدراكها في الوقت يكون مدركًا للصلاة أداءً وإن كان ما سواها مفعولًا خارجه على ما هو أصح الأوجه عندهم كما ذكره النووي وغيره؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» متفق عليه] اهـ.
وقد خرج الفقهاء مسائل عديدة في العبادات على قاعدة: "التَّابِعُ تَابِعٌ"، ومنها: ما نصوا عليه مِن أنه إذا أدرك المسبوقُ الإمامَ في ركعةٍ من الجمعة فقد أدرك الجمعة؛ لإدراكه جزءًا مِن وقتها مع الإمام، وزادوا على ذلك: أنه إذا أدرك المسبوقُ تابعًا للإمام في الجمعة فقد أدركها أيضًا؛ لارتباط صلاته بصلاة المسبوق المرتبطة بصلاة الإمام؛ فيتحصل من ذلك: أنَّ "تَابِعَ التَّابِعِ تَابِعٌ"، وهذا كله بشرط الاتصال والتتابع.
قال شهاب الدين ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/ 254، ط. المكتبة الإسلامية): [جواز الاقتداء بمسبوقٍ أدرك ركعةً مع الإمام إذا قام ليأتي بها بعد سلام الإمام، وتحصل له الجمعة، وعبارته: قال -أي: الجمال بن كبن-: حتى لو اقتدى بإمام المسبوقين الذي منهم شخصٌ ليس منهم وصلَّى معهم ركعةً وسلَّموا: فله أن يتمها جمعة؛ لأنه وإن استفتح الجمعة فهو تابع للإمام، والإمام مستديم لها لا مستفتح؛ نقله صاحب "البيان" عن الشيخ أبي حامد وأقره، وكذلك الريمي في "شرحه للتنبيه" انتهت. فأفهم تعليلهم المذكور إدراك الجمعة في صورتنا.. وإنما الذي فيه إنشاء ربط صلاته بصلاة ذلك المسبوق التابع للإمام المدرك للجمعة، وهذا الربط يُصَيِّرُهُ تابعًا للإمام ومُنَزَّلًا منزلة مَن أدرك مع الإمام ركعةً؛ لأن "تَابِعَ التَّابِعِ تَابِعٌ"، وحينئذٍ اتضح إدراكه للجمعة] اهـ.
بناءً على ذلك: فإنَّ وقتَ ذبحِ كلٍّ مِن هدي التمتع والقران هو أيام العاشر والحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة؛ كما هو مذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والمالكية، والحنابلة في المعتمد، وزاد بعضُ فقهاء الحنابلة على هذه الأيام: يومَ الثالث عشر من ذي الحجة، ويكون الذبحُ بعد ذلك قضاءً، وأما الشافعية: فلا حدَّ عندهم لنهاية وقت الذبح، والمعتمد عندهم: أنه يبدأ مِن بعد فراغ الحاج مِن عمرته وقبل أن يحرم بالحج، وفي مقابل الصحيح: يجوز الذبح قبل الفراغ من العمرة.
وهذا الخلاف في الميقات الزماني لذبح هدايا التمتع والقران إنما هو للشروع فيه؛ بحيث يكون الاستمرارُ في الذبح بعد الشروع فيه إلى ما لا نهاية ولو بعد أيام التشريق واقعًا أداءً لا قضاءً؛ كما سبق بيانه.
وفي واقعة السؤال: يُستحب ذبح هدايا التمتع والقران في أيام النحر؛ خروجًا من الخلاف، ولا مانع شرعًا من الأخذ بأن وقت الذبح يبدأ من حين إحرام الحاج بالنسك وأنه لا حدَّ لآخره، ومع ذلك: إذا شَرعت المؤسساتُ المعنيةُ الموكَّلةُ عن الحجاج في ذبح الهدايا؛ فإن استمرار الذبح المتتابع دون انقطاعٍ ولو بعد انتهاء أيام النحر: هو أمرٌ جائزٌ شرعًا ولا حرج فيه، والذبح المستمر بعد أيام النحر في هذه الحالة يقع أداءً لا قضاءً.
والله سبحانه وتعالى أعلم.