حكم استخدام التمويل في غير الغرض المنصوص عليه في العقد

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 09 أبريل 2023
  • رقم الفتوى: 7590

السؤال

ما حكم استخدام التمويل في غير الغرض المنصوص عليه في العقد؟ فقد حصل أحد الأشخاص على تمويل وتسهيلات ائتمانية من أحد البنوك لأغراض معينة تم تحديدها في العقود المبرمة بينه وبين البنك؛ فهل عليه وزر في ذلك شرعًا؟ وما حكم استخدامها في غير الأغراض والمجالات التي حددت في الموافقات الائتمانية؟

ليس هناك إثم شرعًا على الشخص المذكور في حصوله على هذا التمويل والتسهيلات الائتمانية من البنك المذكور، ويجب عليه أن يلتزم بالأغراض التي تم تحديدها في عقود التمويل والتسهيلات الائتمانية المبرَمة بينه وبين البنك وصدرت بها الموافقات الائتمانية، ولا يجوز استخدامها في غير تلك الأغراض والمجالات، وإلا كان آثمًا شرعًا، وواقعًا تحت طائلة العقوبة المنصوص عليها قانونًا.

المحتويات

 

مفهوم "التمويلات" و"التسهيلات الائتمانية" وبيان أنواعها

"التمويلات" و"التسهيلات الائتمانية": هي معاملات تتم بين البنوك أو المؤسسات المالية من جهة، والمؤسسات أو الشركات والأفراد المستثمرين من جهة أخرى، وهي من أعمال البنوك كما في المادة (1) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم (194) لسنة 2020م.

فالتمويل (Finance): عبارة عن عملية -يقوم بها البنك أو المؤسسة المالية- من تحديد احتياجات الأفراد، والمنظمات، والشركات من الموارد النقدية اللازمة للإنفاق، أو سداد الديون عنها، أو استكمال المعاملات الأخرى التي عجزت الشركة أو المستثمر من إكمالها بعد البدء فيها، وتحديد سبل جمع هذه الأموال وتوفيرها وتوجيه المُمَوَّل لكيفية استخدام هذا التمويل، مع الأخذ في الحسبان المخاطر المرتبطة بمشروعاتهم؛ كما أفاد ذلك: الموسوعة البريطانية (British Encyclopedia)، وموقع الأرشيف الرقمي العلمي "واي باك مشين" (Wayback Machine).

والتسهيلات الائتمانية (Credit Facilities) أو ما يعبر عنها أحيانًا بـ"خطوط التمويل": هي عبارة عن مجموع الصيغ التمويلية الميسرة التي تمنحها المؤسسات المالية للأفراد أو الشركات بهدف تمويل مشروعاتهم، أو تلبية حاجاتهم التمويلية، لا سيما العاجلة منها؛ بحيث يسمح لطالب التسهيل سحب الأموال على مدى فترة زمنية طويلة بدلًا من إعادة تقديم طلب للحصول على تمويل في كل مرة يحتاج فيها إلى المال، وتنقسم هذه التسهيلات إلى نوعين:

الأول: تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل: وهي تسهيلات لا تتجاوز مدتها في غالب الأحيان عامًا واحدًا، وتمنح لتلبية متطلبات رأس المال العامل.

والثاني: تسهيلات ائتمانية طويلة الأجل: وهي تسهيلات مدتها عامٌ واحدٌ على الأقل، وتمنح بهدف توسيع رأس المال، وتمويل الصفقات التي تتطلب موارد مالية معتبرة؛ كما أفاد ذلك: "مجلة هارفارد بزنس ريفيو" (Harvard Business Review)، وموقع "انڤستوبيديا" (Investopedia) المختص بشؤون الاستثمار والتمويل.

حكم استحداث عقود جديدة غير المُسمَّاة في الفقه ودليل ذلك

التمويلات والتسهيلات الائتمانية تشمل صورًا عديدة؛ يجري الحكم في كلٍّ منها بحسبها، وهي في مجموعها عقود تُحَقِّق مصالح أطرافها؛ سواء منها ما يصح اندراجه تحت العقود المسمَّاة في الفقه الموروث أو كان مستحدَثًا، والذي عليه الفتوى والعمل: أنه يجوز إحداثُ عقود جديدة من غير المسمّاة في الفقه الموروث ما دامت خاليةً من الموانع الشرعية والغرر والضرر، ومحققةً لمصالح أطرافها؛ لأن الأصل في العقود الصحة والجواز إلا ما أبطله الشرع الشريف ونص عليه واستثناه؛ كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السرخسي الحنفي (23/ 92، ط. دار المعرفة)، و"حاشية الإمام الدسوقي المالكي على الشرح الكبير" (2/ 317، ط. دار الفكر)، و"كفاية النبيه" للإمام ابن الرفعة الشافعي (9/ 311، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفروع وتصحيح الفروع" لشمس الدين ابن مفلح الحنبلي [ت: 763هـ] (7/ 145، ط. مؤسسة الرسالة).

بل إن العمل على استحداث عقود جديدة تواكب تطورات العصر ومقتضياته وتعمل على سد حاجة الأفراد والمجتمعات، وتلبية المتطلبات وفق المستجدات وتطور واقع المعاملات: هو ما يتوافق مع الأصول العامة ومقاصد الشرع الشريف؛ فإن "الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ"؛ كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (6/ 446، ط. دار ابن عفان)، فأينما وجدت المصلحة فَثَمَّ شرع الله تعالى.

والمتأمل في منظومة العقود المسمَّاة في الفقه الموروث وما وضعه الفقهاء لها من شروطٍ وضوابطَ؛ يجد أن أصول التشريع الإسلامي في جميع المذاهب الفقهية في باب المعاملات والعقود المالية، قائمة على تحقيق مصلحة أطرافها ودرء المفاسد عنهم؛ برفع الغبن، والغش، والغرر، والضرر، والجهالة، ومنع كل ما يفضي إلى إحداث نزاع أو خصومة بين المتعاقدين، وقائمة كذلك على مبدأ انتقال الأموال والمنافع وتلقيها بالطرق المشروعة التي لا تلحق الضرر بالأفراد ولا يترتب عليها فساد منظومة الاقتصاد بالمجتمعات، مع التأكيد على تحقيق مبدأ الرضا؛ بحيث لا تدور حركة المال ولا تنتقل الأملاك من يدٍ إلى يدٍ إلا برضًا تامٍّ بين أطرافها؛ وذلك لأنَّ العقودَ في الحقيقة إنما تثبت على رضا المتعاقدين؛ كما نبَّه عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].

ومنه يُعلم: أن أمور المعاملات غير مشروعة لذاتها، بل شُرعت باعتبارها وسائل لتحقيق مصالح العباد، مع مراعاة مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية هو مقصد حفظ المال، و"ما ثبت أن الأحكام شُرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية؛ فلا إشكال، وإن كان الظاهرُ موافقًا والمصلحةُ مخالفةً؛ فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودةً لأنفُسها، وإنما قُصد بها أمورٌ أُخَرُ هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل مِن ذلك على غير هذا الوضع؛ فليس على وضع المشروعات"؛ كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/ 120-121، ط. دار ابن عفان).

ومن ثم ينبغي النظر في تلك الضوابط والشروط في ضوء الغاية المرجوة منها دون الوقوف على ألفاظها ومبانيها؛ فإن العبرة في مثل هذه العقود المستحدثة بالمعاني والقصود، لا بظاهر الألفاظ وصياغة البنود؛ كما في "تحفة المحتاج" لشيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي (4/ 402، ط. دار إحياء التراث العربي)، كما ينبغي التفريق -عند النظر في هذه العقود- بين المقاصد والوسائل، وقد ثبت في القواعد أنه "يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 158، دار الكتب العلمية).

فإذا ما تبين أن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة يقتضي مخالفة تلك الشروط والضوابط إلى شروطٍ وضوابط أخرى؛ فإن الحكمة تقتضي العدول عن هذه الشروط إلى ما يحقق المصلحة الراجحة ويدرأ المفاسد؛ "فكل ما شرع لجلب مصلحةٍ، أو دفع مفسدة؛ فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك"؛ كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 50)، ولهذا جَوَّزَ الشرع الشريف بعض العقود والمعاملات على خلاف الأصل؛ كالشفعة -مثلًا-؛ فإنها وإن كان فيها تقييدٌ لإرادة المالك وقهرٍ له، إلا أنها شُرعت لدفع الضرر المتوقع عن الجار أو الشريك، فالأصل في البيع والشراء أنَّ لكلِّ أحدٍ أن يبيع لمن يشاء، وأنه لا يسأل في ذلك، لكن الشرع الشريف أثبت حقًّا لأحد الجارين أو الشريكين عند بيع الآخر نصيبه.

بل إن المتأمل بعين التدبر والتفقه في عقود المعاملات يجد أن الشرع الشريف نفسه لم يقف على صور المعاملات، وإنما كانت نظرته هي مراعاة مصالح العباد وتحقيق مقصد حفظ المال وعدم أكله بين الناس بالباطل، بغض النظر عن صورة العقد، ولهذا حرم بعض العقود والمعاملات؛ لأنها تخالف هذا المقصد؛ حيث تؤول إلى مفاسد، وتفضي إلى نزاعٍ وأكل أموال الناس بالباطل وإن كانت صورة العقد مكتملة الأركان والشروط، وكذا أحل بعضها وإن كانت مشابهةً في الصورة لما حرمت؛ لأنها تؤول إلى تحقيق مصالح العباد ودفع الحرج والمشقة عنهم، ومن هذا المبدأ حرم الشرع بيع الغرر؛ كالسمك في الماء، والطير في الهواء؛ لما فيه من جهالة العين المبيعة وعدم وجودها عند العقد؛ مما قد يؤول للنزاع وأكل أموال الناس بالباطل، ثم أباح بيع السلم على خلاف الأصل؛ لما فيه من مصلحة للعباد، وإن كانت العين المسلم فيها غير موجودة عند العقد، ولا يتيقن وجودُها عند أجَله.

قال الإمام أبو الحسن الرجراجي في "مناهج التحصيل" (6/ 94، ط. دار ابن حزم): [السَّلَم خَرَجَ على خلاف الأصل، وإنما جُوِّزَ لموضع الارتفاق] اهـ.

وقال العلامة أكمل الدين البابرتي الحنفي في "العناية" (7/ 86، ط. دار الفكر): [السَّلَم شُرع رخصةً لدفع حاجة المفاليس؛ إذ القياس عدم جواز بيع ما ليس عند الإنسان] اهـ.

إذا تقرر ذلك؛ فإن الأصل في العقود الصحة والجواز، إلا ما أبطله الشرع الشريف ونص عليه واستثناه، ولا فرق في ذلك بين كونها مسمَّاةً في الفقه الموروث أو غير مسمَّاةٍ؛ كما سبق بيانه.

مدى اشتراط البنك على المُمَوّل استخدام التمويل في أغراض معينة

قيام البنوك والمؤسسات المالية بتحديد أغراض ومجالات التمويل والتسهيلات الائتمانية في الموافقة الائتمانية: فإن هذا التحديد يُعَدُّ شرطًا من الشروط المتفق عليها في العقد المُبْرَم بين طرفيه.

ومن المقرر شرعًا أن الأصل في الشروط: الصحة واللزوم ما دامت بالتراضي بين المتعاقدين ولا تخالف مقتضى العقد، ولم تكن تُحِلُّ حرامًا أو تُحَرِّمُ حلَالًا، ومن ثَّم يجب الوفاء بشرط تحديد الغرض من التمويل أو التسهيل الائتماني بين البنك والعميل ما أمكن؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].

قال الإمام الزجاج: "المعنى: أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض"؛ كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي (6/ 33، ط. دار الكتب المصرية).

وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا» أخرجه الأئمة: الترمذي -وصححه- والدارقطني والبيهقي واللفظ له- في "سننهم"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.

قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (6/ 98، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 346، ط. مجمع الملك فهد): [الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه، وقد قيل: بل الأصل فيها عدم الصحة إلا ما دل الدليل على صحته؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، والأول هو الصحيح؛ فإن الكتاب والسنة قد دَلَّا على الوفاء بالعقود والعهود وذم الغدر] اهـ.

وقال شمس الدين ابن مفلح [ت: 763هـ] في "الفروع وتصحيح الفروع" (8/ 268، ط. مؤسسة الرسالة): [الأصل في الشروط: الوفاء] اهـ.

موقف القانون من استخدام التمويل في غير الغرض المنصوص عليه في العقد

وهذا ما عليه القانون المدني المصري الصادر برقم (١٣١) لسنة ١٩٤٨م؛ حيث نصت الفقرة الأولى من المادة رقم (147) منه على: [العقد شريعة المتعاقدين؛ فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون] اهـ.

ونصت المادة رقم (148) في فقرتيها الأولى والثانية من نفس القانون على: [(١) يجب تنفيذ العقد طبقًا لما اشتمل عليه، وبطريقةٍ تتفق مع ما يوجبه حسن النية.

(٢) ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكن يتناول أيضًا ما هو من مستلزماته؛ وفقًا للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام] اهـ.

وتأكيدًا على أهمية هذه الشروط والالتزام بها؛ فقد أوجب القانون على البنوك اتخاذ الإجراءات اللازمة للتأكد من التزام عملائها بالأغراض والمجالات التي تم تحديدها والاتفاق عليها في الموافقة الائتمانية، ومتابعة هذا الالتزام، وحَظَرَ في الوقت ذاته على العملاء الحاصلين على هذه التمويلات والتسهيلات الائتمانية أن يستخدموها في غير الأغراض والمجالات التي حددتها الموافقة الائتمانية؛ فجاء في المادة رقم (104) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي الصادر برقم (١٩٤) لسنة ٢٠٢٠م ما نصه: [على كل بنكٍ التأكدُ مِن أن التمويل والتسهيلات الائتمانية تستخدم في الأغراض والمجالات التي حددت في الموافقة الائتمانية، وعليه أن يتابع ذلك، ويحظر على العميل استخدام التمويل أو التسهيلات الائتمانية في غير الأغراض أو المجالات التي حددت في الموافقة الائتمانية] اهـ.

كما أوجب العقوبة على المخالف لهذه الأحكام؛ فنصت المادة رقم (226) من نفس القانون على: [يعاقَب بالحبس وبغرامةٍ لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز مليون جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين: كلُّ مَن خالف حكم الفقرة الثانية من المادة (١٠٤) من هذا القانون] اهـ.

استخدام التمويل في غير الغرض المنصوص عليه في العقد

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه لا وزر على الشخص المذكور شرعًا في حصوله على هذا التمويل والتسهيلات الائتمانية من البنك المذكور، ويجب عليه أن يلتزم بالأغراض التي تم تحديدها في عقود التمويل والتسهيلات الائتمانية المبرَمة بينه وبين البنك وصدرت بها الموافقات الائتمانية، ولا يجوز استخدامها في غير تلك الأغراض والمجالات، وإلا كان آثمًا شرعًا، وواقعًا تحت طائلة العقوبة المنصوص عليها قانونًا.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة