حكم انتحال الحقوق الفكرية والتعدي عليها دون إذن أصحابها

  • المفتى: فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد
  • تاريخ الصدور: 01 يوليه 2010
  • رقم الفتوى: 7380

السؤال

ما حكم انتحال الحقوق الفكرية والتعدي عليها دون إذن أصحابها؟ فنحن نمتلك كتبًا عن والدنا المتوفى، ونخشى من ضياع حق الملكية الفكرية.

انتحال الحقوق الفكرية أو التعدي عليها دون إذن أصحابها أمر محرم شرعًا؛ لأنه تضييعٌ لحقوق الناس وأكلٌ لأموالهم بالباطل.

المحتويات

 

حفظ المال في الشريعة الإسلامية

جاء الإسلام بحفظ المال، وجعل ذلك من المقاصد الكلية الخمسة التي قام الشرع الشريف عليها؛ وهي حفظ النفس والعِرض والعقل والمال والدِّين. وحقوق الملكية الفكرية والأدبية والفنية وبراءات الاختراع والأسماء والعلامات والتراخيص التجارية -التي اصطُلِح على تسميتها بالحقوق الذهنية- هي من الحقوق الثابتة لأصحابها شرعًا وعرفًا، سواء أقلنا إنَّها من قبيل الأموال كما هو مقتضى قول الجمهور في كون المنفعة مالًا متقومًا، أم قلنا إنَّها من قبيل المنافع التي تُعَدُّ أموالًا بورود العقد عليها مراعاةً للمصلحة العامة كما هو رأي المتقدمين من الحنفية.

ضابط المال عند الفقهاء

حاصل قول جمهور الفقهاء في ضابط "المال" أنه: ما له قيمة بين الناس بسبب إمكان الانتفاع به ولَزِم مُتلِفَه الضمانُ، ووافقهم على ذلك متأخرو الحنفية.

مفهوم المال في اللغة

المال في اللغة كما قال ابن منظور في "لسان العرب" (11/ 635): [كل ما ملَكتَه من جميع الأشياء] اهـ. وظاهر هذا أنه يشمل ما كان أعيانًا أو منافع أو حقوقًا.

مفهوم المال عند الفقهاء

قال العلامة ابن عابدين من الحنفية في حاشيته "رد المحتار" (4/ 501، دار الفكر): [المراد بالمال: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوُّم يثبت بها بإباحة الانتفاع به شرعًا] اهـ.

وقال القاضي عبد الوهّاب البغدادي المالكي في " الإشراف على نكت مسائل الخلاف" (2/ 947، ط. ابن حزم): [هو ما يُتَمَوَّل في العادة ويجوز أخذ العوض عنه] اهـ.

وقال القاضي ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (2/ 107، دار الكتب العلمية): [هو ما تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادةً وشرعًا للانتفاع به] اهـ.

ويذكر الإمام العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام" (1/ 183، ط. المكتبة الأزهرية): [أن المنافع هي المقصود الأظهر من جميع الأموال] اهـ.

وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 32، ط. دار ابن عفان): [ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه] اهـ.

وعرَّف الإمام الزَّركشي من الشَّافعيَّة في كتاب "المنثور في القواعد الفقهية" (3/ 222، ط. وزارة الأوقاف الكويتية) المال بأنَّه: [ما كان مُنْتَفَعًا به، أي مستعدًّا لأن يُنتَفَعَ به] اهـ.

وقال الجلال المحلي الشافعي في "شرحه على المنهاج للإمام النووي" (1/ 563، ط. دار المنهاج): [(الثَّانِي) مِن شُرُوطِ المَبِيعِ (النَّفعُ) فما لا نَفعَ فيه ليس بمالٍ، فلا يُقابَلُ به] اهـ.

وقال الإمام السيوطيُّ في "الأشباه والنظائر" (ص: 327، دار الكتب العلمية): [خاتمة في ضبط المال والمتموَّل: أما المال فقال الشافعي رضي الله عنه: لا يقع اسم (مال) إلا على ما له قيمة يباع بها، وتَلزَم مُتلِفَه وإن قَلَّت، وما لا يَطَّرِحُه النَّاسُ مثل الفَلس وما أشبه ذلك] اهـ.

وما نقله عن الإمام الشافعي موجود في "الأم" (5/ 63، دار المعرفة)، وعبارة المطبوع منه: [ولا يقع اسم (عِلق) إلا على شيء مما يُتَمَوَّل وإن قَلَّ، ولا يقع اسم (مال) ولا (عِلق) إلا على ما له قيمة يُتَبايَع بها ويكون إذا استهلكها مستهلِكٌ أدَّى قيمتَها وإن قَلَّت، وما لا يَطَّرِحه الناس مِن أموالهم مثل الفَلس وما يشبه ذلك] اهـ.

وقال شرف الدين المقدسي الحنبلي في "الإقناع" (2/ 59، دار المعرفة): [هو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 7، ط. عالم الكتب): [المال ما يباح نفعه مطلقًا، أي في كلِّ الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجةٍ] اهـ.

يقول الشيخ علي الخفيف في كتابه "الْمِلْكِيَّة" (1/ 13 -الهامش): [ومن الفقهاء مَن صرَّح بأن (المالية) ليست إلا صفةً للأشياء، بناءً على تَمَوُّل الناس، واتخاذهم إيَّاها مالًا ومحلًّا لتعاملهم، وذلك لا يكون إلا إذا دعتهم حاجتهم إلى ذلك، فمالت إليه طباعهم، وكان في الإمكان التسلط عليه، والاستئثار به، ومنعه من الناس، وليس يلزم لذلك أن يكون مادةً تُدَّخَر لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسورًا عند الحاجة إليها غير متعذر، وذلك متحقق في المنافع...، فإذا ما تحقق ذلك فيها عُدَّت من الأموال، بناءً على عُرف الناس وتعاملهم] اهـ.

إثبات مالية الإنتاج الفكري والعلامات التجارية

لَمَّا كان الإنتاج الفكري والعلامة التجارية مما يُقطَع بمنفعته بحيث يحصل به الاختصاص الحاجز، ويجري فيه التقويم والتداول عرفًا، ويُتَّخَذُ محلًّا للتعامل والمعاوضة بين الناس بسبب ظهور آلات الطباعة ووسائل النشر وتطور العصر، ويثبت فيه حق المطالبة القضائية في العُرف القانوني ولا معارض لذلك في الشرع فإن هذا يجعل لمثل هذه الحقوق حكم المالية في تملك أصحابها لها واختصاصهم بها اختصاصًا يحجز غيرهم عن الانتفاع بها بدون إذنهم.

حكم انتحال حق الغير ونسبته إلى نفسه أو غيره

كما جاء الشرع بتحرِّي الأمانة في إسناد الأقوال والجهود ونسبتها إلى أصحابها؛ فحرَّم انتحال الشخص قولًا أو جهدًا أو إنتاجًا لغيره على أنه هو الذي قاله، أو إسناده إلى غير مَن صدر منه تضييعًا لحق قائله، وجعل هذا مِن الكذب الذي يستحق عليه صاحبه العقاب، ومِن جهة أخرى فقد احترم الإسلام حق الأسبقية وجعل للسابق ما ليس للمسبوق؛ فعن أَسمَرَ بنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَقَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة".

تحذير الشرع من انتحال العلامات التجارية

كما أن الجهود المضنية والأموال التي يبذلها أصحاب هذه العلامات التجارية في سبيل الحصول عليها تجعل مِن انتحال غيرهم لها ظلمًا لأصحابها بأكل أموالهم وتضييع جهدهم بالباطل وإلحاق الضرر بهم، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (2/ 338، ط. دار الكتب المصرية) عند هذه الآية: [الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمارُ والخداعُ والغُصُوبُ وجحدُ الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حَرَّمَته الشريعةُ وإن طابت به نفسُ مالكه، كمَهر البَغِيِّ وحُلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير، وغير ذلك] اهـ.

وفي انتحال هذه العلامات بغير حق إيهامٌ بحصول المنتحِل على العلامة التجارية الأصلية وتشبُّعٌ بما لم يُعطَ زورًا وكذبًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» متفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، إضافةً إلى ما في ذلك مِن التدليس على الناس وغشهم وخداعهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

حكم التعدي على الحقوق الفكرية دون إذن أصحابها

هذه الحقوق ملك لأصحابها، يجري فيها ما يجري في الملك الذي هو حق خالص يختص به صاحبه: مِن جواز انتفاعه بها على أي وجه مِن الوجوه المشروعة، ومِن جواز معاوضتها بالمال إذا انتفى التدليس والغرر، ومِن تحريم الانتفاع بها بغير إذن أصحابها، ومِن حرمة الاعتداء عليها بإتلافها أو إتلاف منفعتها أو تزويرها أو انتحالها زورًا وكذبًا، وبذلك صدرت قرارات المجامع الفقهية الإسلامية؛ فجاء في القرار رقم 43 (5/ 5) لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، في مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأولى 1409هـ ما يأتي... ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونةٌ شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فإن انتحال الحقوق الفكرية أو التعدي عليها دون إذن أصحابها أمر محرم شرعا؛ لأنه تضييع لحقوق الناس وأكل لأموالهم بالباطل.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة