ما حكم استثمار أموال الشركة (بعض السلع) دون علم أصحابها؟ حيث إني أعمل في إدارة المشتريات بها، وأقوم بشراء بعض المستلزمات التي تحتاجها الشركة، لكن لا تصرف كاملة للإدارات، فأستثمر فيما تبقى، وأبيعه بربح وأعيده مرة أخرى للشركة.
لا يجوز التربح من بيع السلع والمستلزمات المملوكة للشركة دون إذن أصحابها، فالموظف وكيل عن الشركة، ولا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود ما تسمح به اللوائح والقوانين والتعليمات الإدارية وتكليفات العمل بالشركة، وإذا استفاد ماديًّا من استثمار أموال الشركة أو المستلزمات التي يشتريها للشركة وجب عليه رد ما استفاده من أرباح إلى الشركة بأي طريقة كانت، ولا يُشترط أن يُعْلِمَ صاحبَ الشركة بهذا المال الزائد الذي يرده.
المحتويات
مِن المقرر شرعًا أنَّ العمل أمانة، وأنَّ الإنسان مأمورٌ بأن يؤدي الأمانة التي ائتُمن عليها، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58].
وعن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه الشيخان، فإذا لم يؤد هذه الأمانة كان خائنًا، وقد نهى الإسلام عن خيانة الأمانة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
فالموظف في عمله راعٍ، ومسئولٌ عنه أمام الله تعالى، فيجب عليه أن يؤديه بإخلاصٍ وأمانةٍ، فقد جاء مدح الذين يحفظون أماناتهم وعهودهم في سياق وصف المؤمنين في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: 8].
الموظف في الشركة التي هو عاملٌ فيها بأجرٍ، وتم الاتفاق معه على شراء المستلزمات التي تحتاجها الشركة مؤتمنٌ على هذا العمل الذي كُلّف به وفُوِّض إليه، ولذلك فيحرم عليه أن يتصرف في شيء من هذا المال إلا فيما أذن له فيه صاحب العمل على وفق ما تنظمه لوائح هذا العمل، وإلا كان خائنًا للأمانة، وهذا أمرٌ محرمٌ شرعًا، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء: 107]، وقال جلَّ شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
قال الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان في تأويل القرآن" (9/ 190، ط. مؤسسة الرسالة): [إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه] اهـ.
ووجه حرمة تصرف الموظف في هذا المال ووصفه أنه خائنٌ للأمانة: أنه وكيل عن صاحب العمل في تنفيذ مهامَّ محددة، ومن كانت هذه صفته حرم أن يتصرف إلا في حدودِ ما أَذِنَ له الموكِّلُ الذي هو مُعبِّرٌ عن إرادته ومنفذٌ لها، والفقهاء متفقون على أنَّ الوكيل لا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود ما أمره به موكله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أخرجه الإمام أبو داود في "سننه" وغيره.
قال الإمام شهاب الدين ابن رسلان الرملي في "شرح سنن أبي داود" (14/ 655، ط. دار الفلاح): [أي: ثابتون عليها وواقفون عليها لا يرجعون عنها، وهذا اللائق بهم] اهـ.
وعلى ذلك فلا يجوز للوكيل بعملٍ معيَّنٍ التصرُّفُ إلا في حدودِ ما أَذِنَ له الموكِّلُ فيه؛ لأنَّه مؤتمنٌ، وهو سفيرٌ ومعبِّرٌ عن إرادة موكِّله، وتصرُّفه فيما أخذه مِن مالٍ لا يكون بولاية نفسه، وإنما هو بولايةٍ مستفادةٍ مِن مُوَكِّله، ومِن ثَمَّ فلا يتصرف الوكيلُ فيما تحت يده مِن مال الوكالة لمصلحته الخاصة دون مصلحة موكِّله.
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي الحنفي في "المبسوط" (14/ 61، ط. دار المعرفة): [والدنانير المقبوضة أمانةٌ في يدهِ للموكِّل، فلا يتصرَّف فيها بغير أمرٍ] اهـ.
وقال الإمام ابن رُشْدٍ المالكي في "البيان والتحصيل" (8/ 189، ط. دار الغرب الإسلامي): [ليس للوكيل أن يتعدَّى في وَكالتِه مَا سُمِّي له ويتجاوز ذلك إلى مَا لَمْ يُسمَّ لَه] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكرِيَّا الأنصَارِي الشافعي في "فتح الوهاب" (1/ 260، ط. دار الفكر): [لو (أمرَه ببيعٍ لمعيَّنٍ) مِن الناس (أو بِهِ) أَيْ: بِمُعَيَّنٍ مِن الأموال... (تَعيَّن) ذلك وإن لَمْ يتعلَّق به غَرضٌ؛ عمَلًا بالإِذن] اهـ.
وقال الإمام بَهَاءُ الدِّين المَقْدِسِي الحنبلي في "العدة شرح العمدة" (ص: 280، ط. دار الحديث): [(وليس للوكيل أن يفعل إلا ما تناوله الإِذنُ لفظًا أو عرفًا) لأنَّ الإنسانَ ممنوعٌ مِن التَّصرف في حقِّ غيره، وإنما أُبِيحَ لوكيلِه التَّصرف فيه بإذنِه، فيجب اختصاص تصرُّفِه فيما تناوَلَهُ إذنُه] اهـ.
وهذا ما جرى عليه القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948م وفقًا لآخر تعديل صادر في ١٣ أكتوبر عام ٢٠٢١م؛ حيث جاء في الفقرة الأولى من المادة رقم (703) أنَّ: [الوكيل ملزم بتنفيذ الوكالة دون أن يجاوز حدودها المرسومة] اهـ.
وجاء أيضًا في الفقرة الأولى من المادة رقم (706) أنَّه: [ليس للوكيل أن يستعمل مال الموكل لصالح نفسه] اهـ.
حيث إن هذا الموظف لا يجوز له أن يتصرف فيما يشتريه للشركة من مستلزمات إلا في حدود ما أُذن له فيه، فإنه إذا كان قد تصرَّف فعلًا واستفاد ماديًّا من هذا، فإنه يكون كمن تصرف في الوديعة واستفاد من تصرفه فيها، بجامع أن كليهما من الأمانات التي يكون تصرفه فيها محصورًا محدودًا، وقد اختلف الفقهاء في الربح الحاصل من الاتجار (أو المضاربة) في المال المودع، هل يصير حقًّا خالصًا لصاحب المال الأصلي أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّ الربح الناتج عن أصل مال الوديعة ليس لأحدهما بل يتصدق به؛ لأنَّه ربح ناتجٌ عن سبب خبيث، وهو التصرف في مال الغير بغير إذنه، وهو قول الإمام أبي حنيفة، والإمام محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وأحد قولي الإمام أحمد، وقوله ذلك على سبيل الورع، وأمَّا في حالة التقاضي فالربح للمالك كما قال القاضي أبو يعلى الحنبلي، وهو قول الشعبي، والنخعي، والحكم، وحماد.
قال العلامة داماد أفندي في "مجمع الأنهر" (2/ 342، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ولو تصرف فيها) أي الوديعة (فربح يتصدق به) أي بالربح عند الطرفين] اهـ. عند الطرفين أي: الإمام أبي حنيفة، والإمام محمد بن الحسن الشيباني.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة في "المغني" (5/ 39، ط. مكتبة القاهرة) في تعدي المضارب: [ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه، فربح فيه... عن أحمد، أنهما يتصدقان بالربح. وبه قال الشعبي، والنخعي، والحكم، وحماد. قال القاضي: قول أحمد: يتصدقان بالربح. على سبيل الورع، وهو لرب المال في القضاء، وهذا قول الأوزاعي] اهـ، ومعلوم أن دائرة تصرف المضارب في مال المضاربة أوسع بكثير من دائرة المودَع عنده، فإذا حُكم على تصرفه بهذا فالمودَع عنده من باب أولى.
القول الثاني: أنَّ الربح الناتج عن أصل مال الوديعة يكون للمودَع؛ لأنَّه ثمرة عمله وجهده، ووجه استحقاقه له أنَّه ضامنٌ لأصل مال الأمانة، واشترط بعضهم رد مال الأمانة حتى يطيب له الربح، وهو قول القاضي أبي يوسف من الحنفية، وهو ما ذهب إليه المالكية إن كان المودَع نقدًا عينيًّا.
قال العلامة داماد أفندي الحنفي في "مجمع الأنهر" (2/ 342): [(ولو تصرف فيها) أي الوديعة (فربح... عند أبي يوسف يطيب له) الربح إذا أدى الضمان] اهـ.
وقال الإمام الدردير في "الشرح الصغير" (3/ 685، ط. دار المعارف): [المودَع -بالفتح- إذا اتَّجر في الوديعة فالربح له] اهـ.
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" (ص: 120، ط. دار الفكر): [ومن اتجر بوديعة فذلك مكروه والربح له إن كانت عينًا] اهـ.
القول الثالث: أنَّ الربح الناتج عن أصل مال الوديعة يكون لصاحبه -المودِع-؛ لأنَّ الربح تابع لأصل المال، وأصل المال أنَّه ملكٌ لصاحب الشركة فيكون حقًّا له؛ لأنَّه نماء ملكه، وهو مذهب الحنابلة، وقد نص المالكية عليه إذا كانت الوديعة غير نقدية، أي: كانت عرضًا.
قال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 322، ط. عالم الكتب): [ولو اتَّجر وديعٌ بوديعةٍ فالربح لمالكها نصًّا] اهـ.
وقال الإمام النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" (2/ 172، ط. دار الفكر): [وأشار إلى حكم غير العين بقوله: (وإن باع) المودَع -بالفتح- (الوديعة) بغير إذن مالكها (وهي عرض) أي غير عين (فربها مخير) عند عدم فواتها (في) إجازة البيع وأخذ (الثمن) الذي بيعت به وعند فواتها يجب له الأكثر من الثمن. (أو القيمة يوم التعدي) لأنه فضولي، فالحاصل أنه عند قيامها له الإجازة وأخذ الثمن وله رد البيع وأخذ سلعته، وأما عند فواتها فيقضى له بأخذ الأكثر من الثمن أو قيمتها يوم التعدي، ومثله كل متعد بالبيع على سلعة غيره ولو غاصبًا، وهكذا حكم بيع الوديعة من غير اتجار في ثمنها، وأما لو باعها على وجه التجارة ففي بيعها تفصيل محصله: إن باعها بعرض والعرض بعرض وهلم جرّا -فلا ربح له وله الأجر، وإن باعها بدراهم فالربح الكائن في ثمنها لربها] اهـ.
المختار للفتوى هو القول الثالث من أنَّ الربح الناتج عن أصل مال الوديعة يكون لصاحبه -المودِع-؛ وذلك لأنه أوفق لمصلحة جهات العمل، ولما فيه من قطع طريق يجعل الموظف المخالف للقوانين واللوائح والخائن للأمانة مستفيدًا مما لا يحق له الاستفادة منه.
وعليه فيجب على الموظف رد المال الذي استفاده من بيع ما بقي تحت يده من ممتلكات الشركة والمستلزمات المذكورة؛ كما هو الحال فيمن اتجر في مال الوديعة على المختار من مذاهب العلماء.
ولا يُشترط أن يُعْلِمَ الموظفُ صاحبَ الشركة بهذا المال الزائد الذي يردُّه كما قرره الفقهاء.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "الزواجر" (2/ 367، ط. دار الفكر): [ما يتعلق به حق آدمي فالتوبة منه يشترط فيها جميع ما مر، ويزيد هذا بأنه لا بد من إسقاط حق الآدمي، فإن كان مالًا ردّه إن بقي، وإلا فبدله لمالكه أو نائبه أو لوارثه بعد موته ما لم يبرئه منه، ولا يلزمه إعلامه به، فإن لم يكن وارث أو انقطع خبره دفعه إلى الإمام ليجعله في بيت المال، أو إلى الحاكم المأذون له التصرف في مال المصالح، فإن تعذر قال العبادي والغزالي: تصدق عنه بنية العزم] اهـ.
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز التربح من بيع السلع والمستلزمات المملوكة للشركة دون إذن أصحابها، فالموظف وكيل عن الشركة، ولا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود ما تسمح به اللوائح والقوانين والتعليمات الإدارية وتكليفات العمل بالشركة، وإذا استفاد ماديًّا من استثمار أموال الشركة أو المستلزمات التي يشتريها للشركة وجب عليه رد ما استفاده من أرباح إلى الشركة بأي طريقة كانت، ولا يُشترط أن يُعْلِمَ صاحبَ الشركة بهذا المال الزائد الذي يرده.
والله سبحانه وتعالى أعلم.