سائل يقول: انتشرت بين العامة والخاصة أبيات كثيرة من قصيدة "البردة" للإمام البوصيري التي مدح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فما السر وراء هذا الانتشار الواسع؟
السر وراء انتشار قصيدة "البرده": ما قد ذهب إليه معظم الباحثين من أنها من أفضل قصائد المديح النبوي؛ حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي لها مكانة خاصة في نفوس العامة والخاصة، ولذا كان اهتمام المسلمون بها سلفًا وخلفًا منذ أن نَظَمَها صاحبُها رضي الله عنه، ولم يحظ نص شعري بمثل ما حظيت به من الاهتمام؛ فتنافس الخطاطون في كتابتها؛ حتى كُتِبَت على جدران المسجد النبوي الشريف، واعتاد الناس قراءتها في المحافل والمواسم الشريفة؛ كمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتبارى المنشدون في الابتهال بها، ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم، وسارت بها الركبان، وعلمَت الناس حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ركن الإيمان وأساس الإسلام.
قصيدة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" للإمام البوصيري رضي الله عنه والمعروفة باسم البردة تُعَدُّ من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام الذي جادت به قرائح الشعراء على مرِّ العصور.
ولعل من أهم أسباب انتشارها ومكانتها في نفوس الناس ما قد ذهب معظم الباحثين إليه من أنها أفضل قصيدة في المديح النبوي إذا استثنينا "لامِيَّةَ كعب بن زهير": "البردة" الأم؛ حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة.
فقد ذكر الإمامُ البوصيريُّ في هذه القصيدة سيرةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مولده إلى وفاته، وتكلَّم على معجزاته، وخصائصه.
وذكر المؤرخ الصفدي في "الوافي بالوفيات" (3/ 93-94، ط. دار إحياء التراث): [أنه يروي "البردة" ضمن شعر البوصيري عن الشيخ أبي حيان النحوي عنه، وذكر عن الإمام البوصيري أنه قال: كنتُ قد نظمتُ قصائدَ في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم اتفق أن أصابني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتُها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت، ودعوت، وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقَى علي بردة فانتبهت، ووجدت فِيَّ نهضةً، فخرجتُ مِن بيتي ولم أكن أعلَمْتُ بذلك أحدًا، فلَقِيَنِي بعضُ الفقراء فقال: أريد أن تُعطِيَنِي القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أيُّها؟ فقال: التي أنشأتَها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعنا البارحة وهي تُنشَدُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورأيتُه صلى الله عليه وآله وسلم يتمايل، وأعجَبَتْه، وألقى على من أنشدها بُردةً، فأعطيتُه إياها، وذكر الفقير ذلك فشاع المنام] اهـ.
وقال شيخ الشافعية في زمنه العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في: "شرح الهمزية" (1/ 69، ط. دار المنهاج) مبينًا مكانة البردة وبعضًا من أسباب انتشارها: [وإنَّ أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن شمائله من الوزن الفائق المنيع، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره، وخصائصه، ومعجزاته، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته، ما صاغه صوغ التبر الأحمر، ونظمه نظم الدر والجوهر، الشيخ الإمام العارف الهمام الكامل المفنن المحقق، والبليغ الأديب المدقق، إمام الشعراء، وأشهر العلماء، وبليغ الفصحاء، وأفصح البلغاء الحكماء، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد،.. ثم اشتهر بالبوصيري،.. وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر، ولو لم تكن إلا قصيدته المشهورة بـ"البردة".. التي ازدادت شهرتُها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد لكفاه شرفًا وتقدمًا] اهـ.
وقد اهتم المسلمون بالبردة سلفًا وخلفًا منذ أن نَظَمَها صاحبُها رضي الله عنه، ولم يحظ نص شعري بمثل ما حظيت به من الاهتمام، فتنافس الخطاطون في كتابتها في أمشقهم وعلى جدران المساجد؛ حتى كُتِبَت على جدران المسجد النبوي الشريف، واعتاد الناس قراءتها في المحافل، والمواسم الشريفة؛ كمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتبارى المنشدون في الابتهال بها، ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم، وسارت بها الركبان، وعلمَت الناس حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه ركن الإيمان وأساس الإسلام.
قال العلامة حاجي خليفة في "كشف الظنون"(2/ 1331، ط. مكتبة المثنى): [وهذه القصيدة الزهراء، والمديحة الغرَّاء بركاتها كثيرة، ولا يزال الناس يتبركون بها في أقطار الأرض] اهـ.
وهذه القصيدة المباركة قد نهج على منوالها الناس عبر القرون، وعارضها الشعراء، وشطَّروها، وخمسوها، وسبَّعوها؛ حتى ذكر الحافظ السخاوي في "الضوء اللامع" (10/ 337، ط. دار الجيل-بيروت) في ترجمة جمال الدين الكرماني الشافعي أنه جمع من تخاميس البردة ما ينيف على ستين، ومع ذلك كله فلم تأت قصيدة في مثل جمالها وقبولها التام في الأمة الإسلامية، حتى قال أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته "نهج البردة":
المادحون وأرباب الهوى تَبَعٌ *** لصاحب "البردة" الفيحاء ذي القدمِ
مَدِيحُه فيكَ حبٌّ خالصٌ وهوًى *** وصادقُ الحبِّ يُمْلِي صادقَ الكَلِمِ
الله يشهد أني لا أعارضُه *** مَن ذا يُعارض صَوْبَ العارضِ العَرِمِ
واهتم بها الشُّرَّاحُ والمصنفون؛ فشرحها كبار علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم الفقهية حتى فاقت شروحُها المائةَ، وممَّن شرحها: الإمام أبو شامة المقدسي الشافعي المقرئ [ت: 665هـ] صاحب كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، والإمام العلامة جمال الدين بن هشام النحوي [ت: 761هـ]، والعلامة شمس الدين بن الصائغ الحنفي [ت: 776هـ]، وسماه "الرقم على البردة"، والعلامة السعد التفتازاني [ت: 791هـ]، والإمام بدر الدين الزركشي الشافعي [ت: 794هـ]، والعلامة المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون [ت: 808هـ]، والعلامة المحقق شيخ الشافعية الجلال المحلي [ت: 864هـ]، والشيخ خالد الأزهري [ت: 905هـ]، وسماه "الزبدة في شرح قصيدة البردة"، والحافظ شهاب الدين القسطلاني [ت: 923هـ] شارح البخاري، وسماه "مشارق الأنوار المضية في شرح الكواكب الدرية"، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي [ت: 926هـ]، وسماه "الزبدة الرائقة في شرح البردة الفائقة"، والعلامة محيي الدين شيخ زاده الحنفي [ت: 951هـ] صاحب الحاشية المشهورة على تفسير البيضاوي، والعلامة الإمام شيخ الشافعية في زمنه ابن حجر الهيتمي [ت: 973هـ]، وسماه "العمدة في شرح البردة"، والعلامة علي القاري الحنفي [ت: 1014هـ] ووصفها بالقصيدة المباركة الميمونة المرضية الشريفة، والشيخ القاضي بحر بن الهاروني المالكي، وشيخ الإسلام إبراهيم الباجوري شيخ الأزهر [ت: 1277هـ]، وغيرهم كثير. ومما ذُكر يُعلم الجواب عن السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.