ما حكم قراءة قصيدة "البردة"؟ حيث إن بعض الناس يدَّعي أنها بدعة، وأنها تتضمن أمورًا شركية تُخِلُّ بالعقيدة الإسلامية.
مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُنَّةٌ نبوية شريفة ينبغي على المسلمين إحياؤها في هذا العصر، وهي مِن أعظم القربات التي يُتَوَسَّلُ بها إلى رب البَرِيّات، وقصيدةُ البردة الشريفة هي من أفضل ما مُدِح به رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفها بالقصيدة الشركية أو بأن فيها شركًا أو كفرًا هو طعن على السواد الأعظم من علماء الأمة واتهام لهم بالشرك والكفر، ودعوة لهدم التراث الإسلامي وحضارته، وناهيك بذلك خروجًا عن سبيل المؤمنين ومحادَّةً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللهُ» رواه ابن ماجه.
وهذه القصيدة الشريفة هي من أكثر ما يُثَبِّتُ حب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في القلوب، واعتيادُكَ لقراءتها باب عظيم من أبواب فتح الله تعالى عليك؛ فلا تلتفت إلى مَن يَصُدُّكَ عن قراءتها، والله تعالى خَصيمُ مَن يتهم أولياءه وعباده الصالحين وعلماء الأمة المتقين سلفًا وخلفًا بالوقوع في الشرك والبدعة
المحتويات
مَدْحُ الأُمَّةِ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دليلٌ على مَحَبَّتها له، وهذه المحبَّة تُعَدُّ أصلًا من أصول الإيمان؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال أيضًا: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ومحبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَظهَر محبة الله سبحانه، فمَن أحبَّ مَلِكًا أحب رسولَه، ولله المثل الأعلى، ورسولُ الله حبيبُ رب العالمين، وهو الذي جاء لنا بالخير كله، وتحمَّل المتاعب من أجل إسلامنا ودخولنا الجنة؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وقد وصفه ربنا في مواضع كثيرة من القرآن بصفات تدل على فضله، منها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
عرَّف العلماء المديح النبوي بأنه: هو الشِّعْرُ الذي ينصَبُّ على مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعداد صفاته الخِلْقِيَّة والخُلُقِيَّة، وإظهار الشوق لرؤيته، ولزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته صلى الله عليه وآله وسلم، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية، ونظم سيرته، والإشادة بغزواته وصفاته الْمُثلى، والصلاة عليه تقديرًا وتعظيمًا، فهو شعرٌ صادقٌ بعيدٌ عن التزلُّف والتَّكَسُّب، ويُرجى به التقرب إلى الله عز وجل، ومهما وصفه الواصفون فلن يُوَفُّوه حقَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشيخ الباجوري رحمه الله في مقدمة "شرحه للبردة" (ص: 5- 6، ط. مكتبة الآداب-القاهرة): [إن كمالاتِه صلى الله عليه وآله وسلم لا تُحْصَى، وشمائله لا تُسْتَقصى، فالمادحون لجنابه العلي، والواصفون لكماله الجلي، مُقصِّرون عمَّا هنالك، قاصرون عن أداء ذلك، كيف وقد وصفه الله في كتبه بما يبهر العقول، ولا يُسْتَطاع إليه الوصول، فلو بالغ الأوَّلون والآخرون في إحصاء مناقبه، لعجزوا عن ضبط ما حباه مولاه من مواهبه] اهـ.
وقد أحسن مَن قال:
أَرى كلَّ مَدحٍ في النَبِيِّ مُقَصِّرا ... وَلَو صِيغَ فيه كُلُّ عِقدٍ مُجَوْهَرا
وَهل يَقدُرُ المُدَّاحُ قَدرَ محمَّـدٍ ... وَإِن بالَغ المُثـنِي عَلَيهِ وَأَكثَـرا
إِذا اللهُ أَثـنى بالذي هو أَهلُهُ ... على مَن يَراهُ لِلمَحـامِدِ مَظهَرا
وَخَصَّصهُ في رِفْعَةِ الذِّكْرِ مُثنِيًا ... عَلَيهِ فَما مِقدارُ ما تَمْدَحُ الوَرى
فما يُظَنُّ غُلُوًّا في حقِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم هو على الحقيقة تقصير، ولا يبلغ البليغ إلا قليلًا من كثير.
ولم يبدأ مدحُه صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتشار الإسلام وظهوره، بل إنه قد مُدِح أيضًا في الجاهلية، فقد مَدَحه عمه أبو طالب فقال:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
ومَدَحَه أيضًا بعضُ شعراء الكفار، مثل الأعشى؛ حيث يقول في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم:
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ ... أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
لَهُ صَدَقـاتٌ ما تَغِبُّ وَنائِلٌ ... وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا
والمديح النبوي مشروع بعموم أدلة القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8-9]، والتعزير هو التعظيم.
ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم من مظاهر تعظيمه وحبه.
وبمشروعية مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت السنة النبوية نَصًّا وإقرارًا:
فروى الإمام أحمد في "مسنده" عَنِ الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ مَدَحْتُ اللهَ بِمِدْحَةٍ وَمَدَحْتُكَ بِأُخْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «هَاتِ وَابْدَأْ بِمِدْحَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وروى الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" عن خُرَيْم بن أَوسِ بن حارِثةَ بنِ لامٍ قال: كُنَّا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له العباس بن عبد المطلب رحمه الله: يا رسول الله، إني أريد أن أمدحك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «هَاتِ، لا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ» فأنشأ العباس رضي الله عنه يقول شعرًا، منه قوله:
وَأَنتَ لَمَّا وُلِدتَ أَشرَقَتِ الْـ ... أَرْضُ وَضـاءَت بِنورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذلك الضِّيَاءِ وَفِي الـ ... نُّـورِ وَسُبْلَ الرَّشَـادِ نَخْتَرِقُ
فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة المديح عليه، ودعا لعمه رضي الله عنه؛ فهذا دليل على مشروعية مدحه صلى الله عليه وآله وسلم.
وممَّن مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة: حسّانُ بن ثابت، وكعبُ بن مالك، وكعبُ بن زُهَيْر، وعبدُ الله بن رَوَاحَةَ رضي الله عنهم، وقد أقرَّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وأحب ذلك ودعا لِمَادحه، وكسا كعبَ بنَ زهيرِ بنِ أبي سُلمى بُرْدَتَه الشريفةَ مكافأةً له على مدحه، ولم ينهه عن ذلك ولا عن إنشاده في المسجد.
فالمدائح النبوية سنة نبوية كريمة درج عليها المسلمون سلفًا وخلفًا، وليس صحيحًا ما يُروَّج له مِن أن المديح النبوي فنٌّ مستحدثٌ لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع الإمام البوصيري رحمه الله تعالى، والقول بأنه بدعة قول مبتَدَع لم يعرفه المسلمون إلا في هذا العصر، بل المديح النبوي سنة هَجَرَها كثيرٌ من أهل هذا الزمان، والساعي في إحيائها داخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ»، وفي نسخة: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي، وَمَنْ أَحْيَانِي كانَ مَعِي في الجَنَّةِ» أخرجه الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" وغيره: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»، فالإطراء هو المدح بالباطل.
قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" في مادة (طري): [وقال الأزهري: أطراه مَدَحَه بما ليس فيه، وقال الهروي وابن الأثير: الإطراء مجاوزةُ الحد في المدح والكذب فيه، وبه فُسِّرَ الحديث: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ»؛ لأنهم مدحوه بما ليس فيه فقالوا: ثالث ثلاثة، وإنه ابن الله، وشبه ذلك من شركهم وكفرهم] اهـ بتصرف.
وعلى ذلك: فقوله: «كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المدح بالباطل فقط، بأن يُمْدح بما هو من خصائص الله؛ كأن يُرْفع إلى مقام الألوهية، أو يُعطَى بعضَ صفات الله، ولم ينههم عن المدح مطلقًا؛ كما قالت امرأةٌ في زمنه: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بالذي كُنْتِ تَقُولِينَ» رواه البخاري وغيره، فنهاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا القول؛ لأن علم الغيب من خصائص الله تعالى وصفاته، فلا يعلم أحدٌ شيئًا من الغيب استقلالًا، ولا يعلم منه إلا ما علَّمه الله، كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26-27]. ولم ينهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذات المدح، بل أمرها أن تقول ما يشتمل على المدح الجائز.
قال العلامة ابن بَطَّال المالكي في "شرح البخاري" (7/ 263، ط. مكتبة الرشد): [وفيه جواز مدح الرجل في وجهه بما فيه، وإنما المكروه مِن ذلك مدحُه بِما ليس فيه] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 203، ط. دار المعرفة): [قوله: فقال: «دَعِي هَذِهِ» أي: اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهي عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة: «لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلَّا الله» فأشار إلى علة المنع. قوله: «وَقُولِي بالذي كُنْتِ تَقُولِينَ» فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية ممَّا ليس فيه مبالغة تُفضي إلى الغلو] اهـ.
قصيدة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" للإمام البوصيري رضي الله عنه والمعروفة باسم البردة تُعَدُّ من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام الذي جادت به قرائح الشعراء على مرِّ العصور.
وقد ذهب معظم الباحثين إلى أنها أفضل قصيدة في المديح النبوي إذا استثنينا "لامِيَّةَ كعب بن زهير": "البردة" الأم، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة.
وقد ذكر الإمامُ البوصيريُّ في هذه القصيدة سيرةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مولده إلى وفاته، وتكلَّم على معجزاته وخصائصه.
وذكر المؤرخ الصفدي في "الوافي بالوفيات" (3/ 93-94، ط. دار إحياء التراث): [أنه يروي "البردة" ضمن شعر البوصيري عن الشيخ أبي حيان النحوي عنه، وذكر عن الإمام البوصيري أنه قال: كنتُ قد نظمتُ قصائدَ في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اتفق أن أصابني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتُها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقَى علي بردة فانتبهت، ووجدت فِيَّ نهضةً، فخرجتُ مِن بيتي ولم أكن أعلَمْتُ بذلك أحدًا، فلَقِيَنِي بعضُ الفقراء فقال: أريد أن تُعطِيَنِي القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أيُّها؟ فقال: التي أنشأتَها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعنا البارحة وهي تُنشَدُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأيتُه صلى الله عليه وآله وسلم يتمايل وأعجَبَتْه وألقى على من أنشدها بُردةً، فأعطيتُه إياها، وذكر الفقير ذلك فشاع المنام] اهـ.
قال شيخ الشافعية في زمنه العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في: "شرح الهمزية" (1/ 69، ط. دار المنهاج): [وإنَّ أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن شمائله من الوزن الفائق المنيع، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته، ما صاغه صوغ التبر الأحمر، ونظمه نظم الدر والجوهر، الشيخ الإمام العارف الهمام الكامل المفنن المحقق، والبليغ الأديب المدقق، إمام الشعراء، وأشهر العلماء، وبليغ الفصحاء، وأفصح البلغاء الحكماء، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد،.. ثم اشتهر بالبوصيري،.. وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر، ولو لم تكن إلا قصيدته المشهورة بـ"البردة".. التي ازدادت شهرتُها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد، لكفاه شرفًا وتقدمًا] اهـ.
وقد اهتم المسلمون بالبردة سلفًا وخلفًا منذ أن نَظَمَها صاحبُها رضي الله عنه، ولم يحظ نص شعري بمثل ما حظيت به من الاهتمام؛ فتنافس الخطاطون في كتابتها في أمشقهم وعلى جدران المساجد؛ حتى كُتِبَت على جدران المسجد النبوي الشريف، واعتاد الناس قراءتها في المحافل والمواسم الشريفة؛ كمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتبارى المنشدون في الابتهال بها، ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم، وسارت بها الركبان، وعلمَت الناس حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ركن الإيمان وأساس الإسلام.
قال العلامة حاجي خليفة في "كشف الظنون"(2/ 1331، ط. مكتبة المثنى): [وهذه القصيدة الزهراء والمديحة الغرَّاء بركاتها كثيرة ولا يزال الناس يتبركون بها في أقطار الأرض] اهـ.
وهذه القصيدة المباركة قد نهج على منوالها الناس عبر القرون، وعارضها الشعراء، وشطَّروها، وخمسوها، وسبَّعوها، حتى ذكر الحافظ السخاوي في "الضوء اللامع" (10/ 337، ط. دار الجيل-بيروت) في ترجمة جمال الدين الكرماني الشافعي أنه جمع من تخاميس البردة ما ينيف على ستين، ومع ذلك كله فلم تأت قصيدة في مثل جمالها وقبولها التام في الأمة الإسلامية، حتى قال أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته "نهج البردة":
المادحون وأرباب الهوى تَبَعٌ *** لصاحب "البردة" الفيحاء ذي القدمِ
مَدِيحُه فيكَ حبٌّ خالصٌ وهوًى *** وصادقُ الحبِّ يُمْلِي صادقَ الكَلِمِ
الله يشهد أني لا أعارضُه *** مَن ذا يُعارض صَوْبَ العارضِ العَرِمِ
واهتم بها الشُّرَّاحُ والمصنفون؛ فشرحها كبار علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم الفقهية، حتى فاقت شروحُها المائةَ، وممَّن شرحها: الإمام أبو شامة المقدسي الشافعي المقرئ [ت: 665هـ] صاحب كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، والإمام العلامة جمال الدين بن هشام النحوي [ت: 761هـ]، والعلامة شمس الدين بن الصائغ الحنفي [ت: 776هـ]، وسماه "الرقم على البردة"، والعلامة السعد التفتازاني [ت: 791هـ]، والإمام بدر الدين الزركشي الشافعي [ت: 794هـ]، والعلامة المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون [ت: 808هـ]، والعلامة المحقق شيخ الشافعية الجلال المحلي [ت: 864هـ]، والشيخ خالد الأزهري [ت: 905هـ]، وسماه "الزبدة في شرح قصيدة البردة"، والحافظ شهاب الدين القسطلاني [ت: 923هـ] شارح البخاري، وسماه "مشارق الأنوار المضية في شرح الكواكب الدرية"، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي [ت: 926هـ]، وسماه "الزبدة الرائقة في شرح البردة الفائقة"، والعلامة محيي الدين شيخ زاده الحنفي [ت: 951هـ] صاحب الحاشية المشهورة على تفسير البيضاوي، والعلامة الإمام شيخ الشافعية في زمنه ابن حجر الهيتمي [ت: 973هـ]، وسماه "العمدة في شرح البردة"، والعلامة علي القاري الحنفي [ت: 1014هـ] ووصفها بالقصيدة المباركة الميمونة المرضية الشريفة، والشيخ القاضي بحر بن الهاروني المالكي، وشيخ الإسلام إبراهيم الباجوري شيخ الأزهر [ت: 1277هـ]، وغيرهم كثير.
هذه القصيدة رواها الأئمة وأثبتوها في كتبهم، وسمعوها مع سماعهم للكتب الشرعية المختلفة، واجتهدوا في حفظِها اجتهادَهم في حفظ متون العلوم.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "شرح الهمزية" (1/ 105): [وأما مَن رَوَى هذه القصيدةَ و"الهمزية" من العلماء الأعلام، ومصابيح الظلام، فخلقٌ لا يُحْصَوْنَ، منهم ما ذكره ابن مرزوق شارح "البردة" بمجلدين كبيرين] اهـ.
ثم ذكر عن ابن مرزوق من العلماء الذين رووا البردة عن ناظمها مباشرة: العلامة قاضي القضاة عز الدين بن جماعة الكناني المصري الشافعي، والإمام المفسر أبو حَيَّان محمد بن يوسف الأندلسي الغرناطي صاحب تفسير "البحر المحيط"، والإمام المحدث محمد بن جابر الوادي آشي. ثم قال ابن حجر الهيتمي: وقد حَصَّلْتُ روايةَ هذه القصيدة وغيرها من شعر الناظم من طرق متعددة، منها بل أعلاها: أرويها عن شيخنا شيخ الإسلام وخاتمة الحفاظ أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي، عن العز بن الفرات، عن العز بن البدر بن جماعة عن ناظمها. وعن حافظ العصر ابن حجر العسقلاني، عن الإمام المجتهد السراج البُلْقِيني، والسراج بن المُلقن، والحافظ زين الدين العراقي، عن العز بن جماعة عن ناظمها، وأرويها أيضًا عن مشايخنا، عن الحافظ السيوطي، عن جماعة، منهم: الشُّمُنِّي الحنفي، بعضهم قراءة، وبعضهم إجازة، عن عبد الله بن علي الحنبلي كذلك، عن العز بن جماعة، عن الناظم.
وقال الشيخ العلامة العارف داود بن سليمان الخالدي الشافعي [ت: 1299هـ] في كتابه القيّم "نَحْتُ الحديد الباطل وبَرْدُه، بأدلة الحق الذابَّةِ عن صاحب البُرْدَة" (ص: 20، ط. دار جوامع الكلم): [وقد اشتمل هذان الإسنادان على جملة من أساطين العلماء الأعلام المقتدى بهم في أمور الدين. وأما غير هؤلاء فممَّا لا يُحصَى كثرةً؛ لأنها من زمان مؤلفها إلى هذا الآن، مَن رواها أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ لا يدخلون تحت الحصر من أكابر العلماء وغيرهم] اهـ.
الطعن على هذه القصيدة المباركة أو وصفها بأنها من القصائد الشركية أو أنها تحتوي على شرك أو غلو في النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقام الألوهية هو في الحقيقة اتهام لعلماء الأمة وصالحيها بالترويج للشرك وحفظه وروايته ومدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم به، بل فيه مخالفة لإجماع علماء المسلمين عبر القرون، فإن أحدًا من العلماء لم يصفها بذلك منذ ألَّفها ناظمُها في القرن السابع الهجري إلى هذه العصور المتأخرة، بل وصفوها بكل وصف سَنِيٍّ شريف، وأنها الجوهرة اليتيمة في عقد المدائح النبوية التي ألفها المسلمون عبر القرون، ففي هذا الاتهام جمع بين سوء الفهم للشرع وسوء الأدب مع السلف وعلماء الأمة وانتهاج لمنهج الخوارج في تكفير نقلة الشرع وحملة الدين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه؛ يَنْفُون عَنْه تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْنَ، وَتَأْوِيلَ الجاهِلِيْنَ» رواه البيهقي.
وقد صنف العلماء المحققون في رد هذه الاتهامات الظالمة التي يحلو لبعضهم توجيهها لقصائد المديح النبوي عامةً وقصيدة البردة خاصةً، وممَّن صنف في ذلك فأجاد وأفاد: العلامة الشيخ داود بن سليمان الخالدي الشافعي في كتابه السابق ذكرُه.
ونقول في رد هذه الشُّبَه إجمالًا: إن الأصل في الألفاظ التي تجري على ألسنة المُوَحِّدِين أن تُحمَل على المعاني التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا ينبغي أن نبادر برمي المسلم بالكفر والفسق والضلال والابتداع؛ فإن إسلامه قرينة قويَّة توجب علينا ألا نحمل ألفاظه على معناها الظاهر إن احتملت كُفْرًا أو فِسْقًا، وتلك قاعدة عامة يجب تطبيقُها في كل ما يصدر عن المسلم من العبارات، فكيف إذا كان لهذه العبارات معانٍ شرعية صحيحة، وكانت مع ذلك صادرةً عن العلماء والصالحين من أهل الله تعالى.
قال حجة الإسلام الغزالي الشافعي: [ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المصلين المُقرّين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد] اهـ. نقلًا عن "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (12/ 300).
وقال الشيخ ملا علي القاري الحنفي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/ 1510، ط. دار الفكر): [عبارة آحاد الناس إذا احتملت تسعة وتسعين وجهًا من الحمل على الكفر ووجهًا واحدًا على خلافه، لا يحل أن يحكم بارتداده، فضلًا عما ورد على لسان مَن هو أفضل] اهـ.
الأبيات التي اتُّهِمَت بالغلو أبيات صحيحة لا مَطْعَنَ فيها، وإنما أُتِيَ هؤلاء الذين وصفوها بالشرك مِن جَهلهم بمعاني الألفاظ ومجازات اللغة، فهي تهم باطلة قامت على أساس الجهل وإساءة الظن بالمتكلم. فمن الأبيات التي اتُّهِمَت بالغلو، وهي من ذلك بَرَاءٌ، قولُ صاحب البردة:
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ والثَّقَلَيْـ ... ـنِ والفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ
والمعنى المقصود من هذا البيت هو بيان مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيد أهل الدنيا والآخرة، وسيد الإنس والجن، وسيد العرب والعجم، وهذا أمر مجمَع عليه بين المسلمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» متفق عليه. ومنها قوله:
يا أكْرَمَ الرُّسْلِ ما لِي مَنْ أَلُوذُ بهِ ... سِواكَ عندَ حُلُولِ الحادِثِ العَمِمِ
والمقصود بالحادث العَمِمِ هنا هو يوم القيامة، حين يتجه الناس إلى الأنبياء لطلب الشفاعة، كما ورد في حديث الشفاعة المتفق على صحته: فيأتون آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيعتذرون وكلهم يُحيل على غيره، حتى يأتوا عيسى عليه السلام فيقول: ائتوا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم عَبْدًا قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأَرفَع رأسِي، فأحْمَدُه بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيه، ثم أَشْفَعُ، فَيحدُّ لِي حَدًّا، فأُدْخِلُهُم الجَنَّةَ، ثم أعُودُ إليه، فإذا رأيتُ ربي مثله ثم أَشْفَعُ، فَيحدُّ لِي حَدًّا، فأُدْخِلُهُم الجَنَّةَ، ثم أعُودُ الرابعةَ فأقول: ما بَقِيَ في النار إلا مَن حَبَسَه القرآنُ ووَجَبَ عليه الخُلُودُ» متفق عليه.
ومنها قولُه:
فإنَّ مِن جُودِكَ الدنيا وضَرَّتَها ... ومِن عُلومِكَ عِلْمَ اللوحِ والقَلَمِ
حيث اعتُرِضَ على هذا البيت بأنه جعل الدنيا والآخرة مِن جُود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجَعَل اللَّوْحَ والقَلَمَ بعضَ عُلُومِه صلى الله عليه وآله وسلم فماذا بقي لله عز وجل من الجود والعلم وهذا الاعتراض ناشئ عن الجهل بالله تعالى؛ فإن جُودَ الله تعالى لا ينحصر؛ لأنه لا نهاية لكرمه وجوده سبحانه ولا حد لهما، ولا يُنكَر كونُ الدنيا والآخرة مِن جوده صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه الدَّال على الخير فيهما، لا على أنه خالق الجود، فإن هذا لا يقول به مسلم، وإنما على أن الله أجراه على يديه، فهو مُقَسِّمُه والله مُعْطِيه، كما جاء في "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث معاوية رضي الله عنه: «إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي»، وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أُعْطِيكُمْ ولا أمنَعُكُمْ؛ إنَّما أنا قاسِمٌ أضَعُ حيثُ أُمِرْتُ» فصح على هذا المعنى أنهما من جُوده عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الرسالة" (ص: 16-17، ط. مكتبة الحلبي-مصر): [فلم تُمسِ بنا نعمةٌ ظَهَرَتْ ولا بَطَنَتْ نِلْنَا بها حظًّا في دِينٍ ودُنيا أو دُفِعَ بها عنَّا مكروهٌ فيهما وفي واحد منهما، إلا ومحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم سبَبُها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائدُ عن الهلكة وموارد السوء في خلاف الرشد، المُنَبِّهُ للأسباب التي تُورِدُ الهَلَكَةَ، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد] اهـ.
قال شيخ الإسلام إبراهيم الباجوري الشافعي عند هذا البيت من "شرحه على البردة" (ص: 132): [وفي كلامِه تقديرُ مُضافٍ، أي: خَيْرَي الدنيا هدايتُه صلى الله عليه وآله وسلم للناس، ومن خير الآخرة شفاعتُه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم] اهـ.
كما أن علم الله تعالى أزلي أبدي، وهو صفة من صفات ذاته، لا حد له ولا نهاية، وتعالى أن يحيط به مخلوق: لوحًا كان أو قَلَمًا، فمن المحال إحاطةُ المخلوق بالخالق سبحانه أو بصفة من صفاته. كما أن علمه تعالى غير متوقف على وجود اللوح أو القلم، فقد علمهما قبل أن يوجِدَهما، والذي ورد في الحديث أن الله تعالى أمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، أي أن معلوماته مع كثرتها متناهية محصورة، فلو كانت "مِنْ" في كلام الناظم رحمه الله تعالى هنا للتبعيض وكان مرادُه أنَّ اللوحَ والقلمَ بعضُ علومه صلى الله عليه وآله وسلم التي علمها إياه الله تعالى، فليس في هذا مساواةٌ للمخلوق بالخالق أو وصفُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يختص به الله تعالى، ويمكن أن يستدلَّ لهذا القول بالأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة:
فمنها ما رواه البخاري في "صحيحه" معلَّقًا بصيغة الجزم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامًا فَخَبَّرَنَا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 291): [ودلَّ ذلك على أنه أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات منذ ابتدئت إلى أن تفنى إلى أن تبعث؛ فشمل ذلك الإخبار عن المبدأ والمعاش والمعاد] اهـ.
ومنها ما رواه الإمام البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ».
ومنها ما رواه الإمام البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: "لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره؛ علمه مَن علمه وجهله مَن جهله".
منها ما رواه الإمام أحمد بسند صحيح من حديث سمرة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: «إنِّي وَالله لَقَد رَأيتُ مُنذُ قُمْتُ أُصَلِّي مَا أنتُمْ لَاقُوهُ مِن أَمْرِ دُنيَاكُمْ وآخِرتِكُم».
ومنها حديث رؤيةِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّ العزة جل وعلا في المنام، والذي جاء فيه قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة والحاكم وصححه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وابن خزيمة والحاكم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ورواه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ: «فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، ولفظ الدارقطني في كتاب "الرؤية" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «فعلمتُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ورواه الدارقطني في "الرؤية" أيضًا والطبراني في "الدعاء" من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه "اختيار الأَوْلَى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" (ص: 40، ط. مكتبة دار الأقصى): [وفيه دلالةٌ على شرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله بتعليمه ما في السماوات والأرض، وتجلي ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك، كما أُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض. وقد ورد في غير حديث مرفوعًا وموقوفًا أنه أُعطِيَ علمَ كلِّ شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها] اهـ.
وفي شرح هذه البيت من البردة يقول الإمام العلامة الجلال المحلي في "شرحه على البردة" (مخطوط ق: 23، أ-ب): [ومِن علومِكَ علمَ اللوح والقلم، يُقال: إن الله تعالى أطلعه على ما كتب القلم في اللوح المحفوظ، وعلى علوم الأولين والآخرين، وهذا مِن جاهه عند الله تبارك وتعالى] اهـ.
ويقول شيخ الشافعية في زمنه العلامةُ ابن حجر الهيتمي في "العمدة في شرح البردة" (ص: 669، ط. دار الفقيه بالإمارات): [ووجه كون علم اللوح والقلم من بعض علومه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى أطلعه ليلة الإسراء على جميع ما في اللوح المحفوظ، وزاده علومًا أُخَر؛ كالأسرار المتعلقة بذاته سبحانه وتعالى وصفاته] اهـ.
ولو نازع منازِعٌ في ذلك فغاية ما هنالك نقلُ هذه المسألة من حيز القطعية إلى الظنية، فلا يكفر المخالف فيها، وليس للمنازع أن ينقل المسألة من حيز الخلاف في ثبوت هذا المعنى في الكتاب والسنة أو عدم ثبوته إلى كونه شركًا أو كفرًا أو غُلُوًّا، على أنه يمكن أن تكون مِنْ هنا للجنس؛ أي: وعلم اللوح والقلم مِن جنس علومك، أي: أنهما علوم لَدُنِّيَّةٌ لا كسبية، ومصدرهما واحدٌ وهو الحضرة الربانية، وحينئذٍ فلا ورود للاعتراض أصلًا.
ومنها قوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضَرُورَةُ مَن ... لولاه لم تُخْرَج الدنيا من العَدَم
وهذا المعنى قد ورد فيه جملة أحاديث، منها: ما رواه الحاكم في "المستدرك" والبيهقي في "دلائل النبوة" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي، فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ، وَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَىَ قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ، فَقَالَ اللهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأُحِبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ ادْعُنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وحسنه الإمام التقي السبكي في "شفاء السقام".
وروى الدَّيْلَمي في "الفردوس بمأثور الخطاب" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَتانِي جبريلُ فقال: قال الله: يا مُحَمَّدُ، لَولَاكَ مَا خَلَقْتُ الجَنَّةَ، وَلَولَاكَ مَا خَلَقْتُ النَّارَ».
ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه بلفظ: «ولقد خَلَقْتُ الدُّنيَا وأهْلَهَا لأعَرِّفَهُمْ كَرَامَتَكَ وَمَنْزِلَتِكَ عِنْدِي، وَلَوْلَاكَ يَا مُحَمَّدُ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا».
وروى الحاكم في "المستدرك" وأبو الشيخ في "طبقات الأصفهانيين" عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه: "أوحَى اللهُ إلَى عِيسَى عليه السلام: يَا عِيسَى، آمِنْ بِمُحَمَّدٍ، وأْمُرْ مَن أَدْرَكَهُ مِن أُمَّتِكَ أَن يُؤْمِنُوا بِهِ؛ فَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقتُ آدَمَ، وَلَولَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُ الجَنَّةَ وَلَا النَّارَ، وَلَقَدْ خَلَقتُ العَرشَ عَلَى المَاءِ فاضْطَربَ فَكَتَبْتُ عَلَيهِ: لَا إِلَهَ إلَّا الله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَسَكَنَ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهذه الأحاديث والآثار وإن كان فيها أو في بعضها ضعف إلا أن معناها صحيح، فمعنى القول بأنه لولا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما خلق اللهُ الخلقَ هو أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فتحقيق العبادة هي حكمة الخلق، والعبادة لا تتحقق إلا بالعابدين، فالعبادة عَرَضٌ قائم بالعابد نفسه، وأفضل العابدين هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو عنوان العبادة، وعنوان التوحيد، كما أن الآية تتكلم عن الجن والإنس ولا تتكلم عن الخلق أجمعين.
أما باقي ما في السماوات والأرض فهو مخلوق لخدمة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13]، وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو عنوان الإنسانية، بل هو الإنسان الكامل.
وقد نصَّ على صحة هذه المقولة كثير من العلماء؛ كالعلامة مُلا علي القاري، والعَجْلُوني وغيرهما من الأئمة، وممَّن ذكر أنها مقبولة إذا فُسِّرَتْ بهذه المعاني الصحيحة في الكتاب والسنة الشيخُ ابن تيمية الحنبلي رحمه الله؛ حيث يقول في "مجموع الفتاوى" (11/ 96-98، ط. مجمع الملك فهد): [وقد ظهر فضلُ نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم على الملائكة ليلةَ المعراج لَمَّا صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة. ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق وأكرمهم عليه؛ ومن هنا قال مَن قال: إن الله خلق من أجله العالَم، أو: إنه لولا هو لَمَا خَلق الله عرشًا ولا كرسيًّا ولا سماءً ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا.
ويمكن أن يفسر بوجه صحيح، فإذا كان الإنسانُ هو خاتمَ المخلوقات وآخرَها، وهو الجامع لِمَا فيها، وفاضلُه هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمدٌ إنسانُ هذا العين، وقُطبُ هذه الرَّحَى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما يُنكَر أن يُقال: إنه لأجله خُلِقَتْ جَميعُها، وإنه لولاه لَمَا خُلِقَتْ، فإذا فُسِّر هذا الكلامُ ونحوُه بما يدل عليه الكتابُ والسنةُ قُبِلَ ذلك] اهـ.
والقول بأن قصيدة البردة للإمام البوصيري فيها أمور شركية تخل بالعقيدة هو في حد ذاته خللٌ في العقيدة؛ لأن فيه سلوكًا لمنهج الخوارج الذي يقوم على أساس حمل الآيات التي نزلت في المشركين على المسلمين، وقد وضَّح ابن عمر رضي الله عنهما أن هذا هو مدخل ضلالتهم فقال: "إِنَّهُم انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ" علقه البخاري في "صحيحه" ووصله ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" بسند صحيح، كما أن فيه خللًا في المنهج وفقدانًا للمعايير الإسلامية الصحيحة؛ حيث خلط أصحابه بين دائرة الشرك ودائرة الوسيلة، فحبُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومدحُه والتوسلُ به مِن الوسائل الشرعية التي تَعَبَّدَ اللهُ تعالى بها عبادَه المسلمين بنص الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، فنَقْلُها إلى دائرة الشرك دليلٌ على افتقاد المعيار السليم الذي يُفرَقُ به بين الإيمان والكفر، وقد أنكر الله تعالى على أصحاب هذا المسلك الفاسد بقوله سبحانه: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35- 36].
وهذا المنهج الفاسد الكاسد هو الذي سُفِكَتْ به دماءُ المسلمين قديمًا وحديثًا، ويجب على المسلمين الحذر والتحذير منه.
مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُنَّةٌ نبوية شريفة ينبغي على المسلمين إحياؤها في هذا العصر، وهي مِن أعظم القربات التي يُتَوَسَّلُ بها إلى رب البَرِيّات، وقصيدةُ البردة الشريفة هي من أفضل ما مُدِح به رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفها بالقصيدة الشركية أو بأن فيها شركًا أو كفرًا هو طعن على السواد الأعظم من علماء الأمة واتهام لهم بالشرك والكفر، ودعوة لهدم التراث الإسلامي وحضارته، وناهيك بذلك خروجًا عن سبيل المؤمنين ومحادَّةً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللهُ» رواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وصدق مَن قال:
ومن يك ذا فم مُرٍّ مريض ... يجد مرًّا به الماءَ الزُّلالا
ويرحم الله الإمام البوصيري حين قال في بردته الشريفة:
قد تُنْكِر العينُ ضوءَ الشمسِ مِن رَمَدٍ ... ويُنْكِرُ الفَمُ طعمَ الماءِ مِن سَقَمِ
وهذه القصيدة الشريفة هي من أكثر ما يُثَبِّتُ حب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في القلوب، واعتيادُكَ لقراءتها باب عظيم من أبواب فتح الله تعالى عليك؛ فلا تلتفت إلى مَن يَصُدُّكَ عن قراءتها، والله تعالى خَصيمُ مَن يتهم أولياءه وعباده الصالحين وعلماء الأمة المتقين سلفًا وخلفًا بالوقوع في الشرك والبدعة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.