يقول السائل: لي دينٌ على شريكي في العمل، ويماطلني في أدائه؛ فهل يحقّ لي استيفاء ديني منه عن طريق أخذ بعض حصته مِن الشركة الحاصلة بيننا أو أن ذلك لا يحقّ لي؟
لا يجوز لك فعل ذلك؛ فإن تأخير شريكِكَ الدَّيْن الذي لكَ عليه مع عدم إنكاره لحقِّكَ الذي تَأخَّر في سداده ليس مبرِّرًا للأخذ مِن حصته من مال الشَّرَكة، وأَمَّا إذا أنكر شريككَ الدَّيْن الذي لك عليه فيَحِقُّ لكَ رَفْع الأمر للقضاء للحصول على حقك الذي تَدَّعيه عليه.
المحتويات
نهى الله تعالى عن أكل أموال النَّاس بالباطل؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، ويُؤكِّد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» رواه الشيخان عن أبي بَكرةَ رضي الله عنه.
ولذا كان الأصل في الحقوق التي للغير هو الأداء وعدم المَطْل أو الإنكار لها؛ قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]؛ ففي الآية أمرٌ بالمسارعة إلى أسباب المغفرة ودخول الجنة؛ يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في "تفسيره" (4/ 89، ط. الدار التونسية): [والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلق بالذات] اهـ.
ومن أعظم أسباب دخول الجنة ونيل رضا الله تعالى: أداء الحقوق مطلقًا، سواء كانت لله أو للناس أو حتى حق النَّفْس.
الأصل في استيفاء الحقوق التي على الغير أَنْ يتم بأحد أمرين: التراضي أو التقاضي، فيكون برضا مَن عليه الحقّ واختياره، فإذا رَفَضَ مَن عليه أداء الحق أو مَاطل فيه أو أنكره؛ فالأصل في صاحب الحق أن يَلْجَأ لرَفْع دعوى أمام القضاء لفَصْل هذا التنازع.
وعلى هذا يجري التفصيل في صورة السؤال؛ فتأخير المدين أداء الدَّيْن قد يكون مع عدم إنكاره لحق الدائن في هذا الدَّيْن، أو مع إنكاره للدَّيْن؛ ففي الصورة الأولى: وهي عدم إنكار المدين لحق الدائن في الدَّيْن الذي تَأخَّر في سداده؛ سواء صَحِب ذلك تَعثُّر المدين في السَّدَاد أم لا؛ فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أنَّه لا يجوز للدائن الأخذ من ممتلكات المدين لاستيفاء الحق الذي له عليه.
قال العلامة الخرشي في "شرحه على المختصر" (7/ 235، ط. دار الفكر): [(ص) وإن قَدَر على شيئه فله أخذه إن يكن غير عقوبة، وأمن فتنة ورذيلة (ش) هذه المسألة تُعْرَف بمسألة الظَّفَر، والمعنى: أَنَّ الإنسان إذا كان له حقٌّ عند غيره، وقَدَر على أخذه أو أخذ ما يساوي قدره من مال ذلك الغير؛ فإنه يجوز له أخذ ذلك منه، وسواء كان ذلك من جنس شيئه أو من غير جنسه على المشهور، وسواء عَلِم غريمه أو لم يعلم، ولا يلزمه الرَّفْع إلى الحاكم. وجواز الأخذ مشروط بشرطين: الأول: ألَّا يكون حقه عقوبة، وإلَّا فلا بد من رفعه إلى الحاكم، وكذلك الحدود لا يتولاها إلا الحاكم. والثاني: أن يأمن الفتنة بسبب أخذ حقه؛ كقتال أو إراقة دم، وأن يأمن من الرذيلة؛ أي: أن ينسب إليها كالغصب ونحوه، فإن لم يأمن ذلك فلا يجوز له أخذه] اهـ.
فقول المصنِّف: [أن يأمن الفتنةَ بسبب أخذ حقه] واضحُ الدلالة على أنَّ العامل لا يجوز له الأخذ من الشركة؛ لأنَّ الفتنةَ واقعةٌ لا محالة في حالته.
وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (10/ 287، ط. المكتبة التجارية): [(وإن استحق) شخص (عينًا) عند آخر بملك وكذا بنحو إجارة أو وقف أو وصية بمنفعة -كما بحثه جمع- أو ولاية؛ كأن غُصِبَت عين لموليه وقدر على أخذها (فله أخذها) مستقلًا به (إن لم يخف فتنة) عليه أو على غيره كما هو ظاهر، سواء أكانت يده عادية أم لا؛ كأن اشترى مغصوبًا لا يَعْلمه. نعم من ائتمنه المالك كوديع يمتنع عليه أخذ ما تحت يده من غير علمه؛ لأنَّ فيه إرعابًا له بظن ضياعها، ومنه يؤخذ حرمة كل ما فيه إرعاب للغير.. (وإلَّا) بأن خاف فتنة، أي: مفسدة تفضي إلى مُحَرَّم؛ كأخذ ماله لو اطلع عليه، بأن غلب ذلك على ظنه وكذا إن استويا -كما بحثه جمع- (وجب الرَّفع) ما دام مريدًا للأخذ (إلى قاض) أو نحوه لتمكنه من الخلاص به (أو دينًا) حالًّا (على غير ممتنعٍ من الأداء طالبَهُ) ليؤدي ما عليه، (ولا يحلّ أخذ شيء له)؛ لأنَّ له الدفع من أي ماله شاء، فإن أخذ شيئًا لزمه رده، وضمنه إن تلف ما لم يوجد شرط التَّقَاصِّ، (أو على مُنْكِرٍ) أو مَنْ لا يُقْبَلُ إقراره على ما بحثه البلقيني وردّ بقول مُجَلّي: من له مال على صغير لا يأخذ جنسه من ماله اتفاقًا. اهـ، ويجاب بحمل هذا إنْ صحَّ على ما إذا كان له بَيِّنَةٌ يسهل بها خلاص حقه (ولا بَيِّنَة) له عليه أو له بَيِّنَة وامتنعوا أو طلبوا منه ما لا يلزمه، أو كان قاضي محلّه جائرًا لا يحكم إلا برشوة فيما يظهر في الأخيرتين (أخذ جنس حقّه من ماله) ظَفَرًا لعجزه عن حقه إلا بذلك، فإن كان مثليًّا أو مُتقوَّمًا أخذ مماثله من جنسه لا من غيره. (وكذا غير جنسه) أي: غير جنس حقه ولو أمة (إن فقده) أي: جنس حقه (على المذهب) للضرورة] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (10/ 287، ط. مكتبة القاهرة): [ومَن كان له على أحد حقّ فمنعه منه، وقدر له على مال، لم يأخذ منه مقدار حقه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه قال: «أَدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانك» رواه الترمذي. وجملته: أنَّه إذا كان لرجل على غيره حقّ، وهو مُقِرّ به باذل له، لم يكن له أن يأخذَ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم، فإن أخذ من ماله شيئًا بغير إذنه لزمه رده إليه، وإن كان قدر حقه؛ لأنَّه لا يجوز أن يملك عليه عينًا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة، وإن كانت من جنس حقه؛ لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين، وإن أتلفها أو تلفت فصارت دينًا في ذمته، وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاضا في قياس المذهب] اهـ.
وظاهر قول الحنفية أَنَّ لصاحب الحق أن يأخذَ جنس حقه من المدين مُقِرًّا كان أو مُنْكِرًا؛ شريطة أن لا يمكن تحصيل الحق بواسطة القضاء؛ وعلى ذلك فيجوز -على ما هو الظاهر مِن قول الحنفية- أخذ العامل من مال الشركة مِقْدار دينه بشرط أن يكون هذا المال من جنس حقه، وأن يكون بنفس صفته.
يقول العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (7/ 192، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وإن كان دينًا: ففي "مداينات القِنية": رَبُّ الدَّين إذا ظفر من جنس حقه من مال المديون على صفته فله أخذه بغير رضاه، ولا يأخذ خلاف جنسه كالدراهم والدنانير.. وظاهر قول أصحابنا: أَنَّ له الأخذ من جنسه مُقِرًّا كان أو مُنْكِرًا، له بينة أو لا، ولم أَرَ حكم ما إذا لم يتوصل إليه إلَّا بكسر الباب ونَقْب الجدار، وينبغي أَنَّ له ذلك حيث لا يمكنه الأخذ بالحاكم] اهـ.
وأما في الصورة الثانية: وهي حالة ما إذا أَنْكَر المدين الحق الذي يَدَّعيه الدائن؛ فيرى الشافعية والحنابلة أنَّ أُوْلَى دَرَجات أخذ الحق في هذه الحالة هو الرَّفْع للقاضي؛ أي: الاختصام إليه؛ قال الشيخ الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (6/ 401، ط. دار الكتب العلمية) بعد الكلام على أَنَّ مَنْ استحق عينًا فله أخذها إن لم يخف فتنة: [(وإلَّا) بأن خاف فتنة أو ضررًا (وَجَب الرفع إلى قاض) أو نحوه ممَّن له إلزام الحقوق كمحتسب وأمير، لا سيما إن علم أَنَّ الحقَّ لا يتخلَّص إلا عنده] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (10/ 287) بعد الكلام على صورة ما إذا كان صاحبُ الحق مُقِرًّا به باذلًا له: [وإن كان مانعًا له بغير حق، وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان، لم يجز له الأخذ أيضًا بغيره؛ لأنه قدر على استيفاء حقه بمَن يقوم مقامه، فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله] اهـ.
ومذهب المالكية موافقٌ مآلًا لما عليه الشافعية والحنابلة؛ لأنهم –أي: المالكية- اشترطوا في أخذ الحقّ ممَّن هو عليه أن يأمن الآخذ الفتنة بسبب أخذ حقه، وأَنْ يَأمَن النسبة إلى الرذيلة؛ ولا شك أَنَّ في أخذ العامل مِن مال الشركة ما يُقابِل الحق الثابت له ليس فيه أمنًا للفتنة ولا أَمْنًا من النسبة للرذيلة؛ لأنَّ الشركة في هذه الحالة ستدَّعِي عليه بالسرقة من مالها؛ وكفى بذلك تُهْمَة. وخالف في ذلك الحنفية فقالوا بجواز الأخذ مِنْ مال مَنْ عليه الحق في هذه الحالة؛ ونَصُّ ابن نجيم السابق يشير لذلك.
والذي نختاره للفتوى هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، ووافقهم عليه مآلًا المالكية، وهو أنَّه لا يجوز أخذ الحق في هذه الحالة ما دام أنَّه قادر على التقاضي.
على ما سبق وفي حالة السؤال: فتأخير شريكِكَ الدَّيْن الذي لكَ عليه مع عدم إنكاره لحقِّكَ الذي تَأخَّر في سداده ليس مبرِّرًا للأخذ مِن حصته من مال الشَّرَكة، وأَمَّا إذا أنكر شريككَ الدَّيْن الذي لك عليه فيَحِقُّ لكَ رَفْع الأمر للقضاء للحصول على حقك الذي تَدَّعيه عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.