ما حكم الزكاة في المأكولات البحرية؟ وهل ما يتم صيده من البحر تجب فيه الزكاة؟ وهل باعتبار كونه من الأقوات له مدخل في وجوب الزكاة فيه مثل الزروع والثمار؟
لا تجب الزكاة في الأسماك وسائر المأكولات البحرية، ولا يصح قياسها على ما تجب فيه الزكاة من الزروع والحبوب وإن كانت تلك المطعومات البحرية ممَّا يتغذي عليه بدن الإنسان.
المحتويات
الزكاة شرعًا: اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشروط معينة. انظر: "مغني المحتاج" (2/ 62، ط. دار الكتب العلمية).
وهي ركن من أركان الإسلام، وقد روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُنيَ الإِسْلَامُ على خَمسٍ: شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحّجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ».
الزكاة قد وجبت في خمسة أنواع: الأول: النَّعَم، والثاني: المُعَشَّرات، وهي الأقوات مما يجبُ فيه العشر أو نصفه، والثالث: النقد، والرابع: التجارة، والخامس: الفطرة.
أمَّا الأسماك وغيرها من صيد البحر فقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم وجوب الزكاة فيها؛ يقول الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 212، ط. دار المعرفة): [وليس في السمك واللؤلؤ والعنبر يستخرج من البحر شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال أبو يوسف: في العنبر الخمس، وكذلك في اللؤلؤ عنده. ذكره في "الجامع الصغير"، أما السمك فهو من الصيود، وليس في صيد البر شيء على من أخذه، فكذلك في صيد البحر] اهـ.
وجاء في "مختصر خليل وشرحه" للعلامة الخرشي (2/ 212، ط. دار الفكر): [(ص) وما لَفَظَهُ البحر كعنبر فلواجده بلا تخميس. (ش) يعني أنَّ كلّ ما لَفَظَهُ البحر ممَّا لم يتقدم عليه ملك لأحد كالعنبر واللؤلؤ وما أشبه ذلك، فإنه يكون لواجده ولا يخمَّس، فلو رآه جماعة، فبادر إليه أحدهم، فإنه يكون له؛ كالصيد يملكه المبادر] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم" (2/ 41، ط. دار المعرفة): [ولا زكاة في شيء يلقيه البحر من حليته، ولا يؤخذ من صيده] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 56، ط. مكتبة القاهرة): [وأما السمك فلا شيء فيه بحال في قول أهل العلم كافة] اهـ.
وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص: 39، ط. دار الكتب العلمية): [ولا أعلم بينهم خلافًا في أنَّه لا شيء في السمك المتصيَّد] اهـ.
وقد استدل الجمهور على عدم وجوب الزكاة في صيد البحر بأنَّ الأصلَ أن لا زكاة إلا فيما ثبت الشرع فيه، ولم يثبت في هذا شيء. انظر: "المجموع للنووي" (5/ 490، ط. المنيرية).
قال الشيخ أبو عبيد القاسم بن سلام في "الأموال" (ص: 434-435، ط. دار الفكر): [قد كان ما يخرج من البحر على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تأتنا عنه فيه سنة علمناها، ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصحّ، فنراه ممَّا عفا عنه، كما عفا عن صدقة الخيل والرقيق] اهـ.
وكذلك قياسًا على صيد البر الذي لا زكاة فيه على من حازه وتملكه؛ لأنَّه من المباحات التي تُمْلَك بالحيازة ووضع اليد عليها، فهو ملك لمن سبق إليه، ولا يوجد معنى جامع صحيح بين صيد البحر وبين غيره من الأشياء التي تجب فيها الزكاة حتى يقاس عليها. انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 56).
لم يُحْفَظ في هذا إلا شيء يُرْوَى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرى أن ما أخرج البحر بمنزلة ما أخرج البر من المعادن، وكان رأيه في المعادن الزكاة، وأنه كتب إلى عامله في عمان أن "لا يأخذ من السمك شيئًا حتى يبلغ مائتي درهم"، وروي عن أحمد نحو هذا كذلك. انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 56)، لكن هذا رأي مهجور مرجوح.
قال الشيخ أبو عبيد في "الأموال" (ص: 434) -بعد أن حكى مذهب عمر بن عبد العزيز-: [وليس الناس في السمك على هذا، ولا نعلم أحدًا يعمل به، وإنما اختلف الناس في العنبر واللؤلؤ، فالأكثر من العلماء على أن لا شيء فيهما، كما يروى عن ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم، وهو رأي سفيان، ومالك جميعًا] اهـ.
وأمَّا القوت: فهو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام؛ بحيث يمكنه الاعتماد عليه في عملية التغذي على الدوام، بخلاف ما يكون قوامًا للأجسام لا على الدوام. انظر: "مختار الصحاح" (262، ط. المكتبة العصرية)، و"النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب" لابن بطال الركبي (1/ 149، ط. المكتبة التجارية بمكة المكرمة).
والسمك قد يُعَدُّ قوتًا في بعض البيئات كما عند سكان الجزر؛ يقول الإمام الماوردي في "الحاوي" (15/ 442-443، ط. دار الكتب العلمية): [الأقوات ما قامت بها الأبدان وأمكن الاقتصار عليها، وهو مُعْتَبَرٌ بالعرف، والعرف فيه ضربان: عرف شرع، وعرف استعمال. فأما عرف الشرع: فهو منطلق على ما وجبت فيه زكاة العين، وجاز إخراجه في زكاة الفطر.. سواء دخل في عرف قوته أو خرج عنه.. وأما عرف الاستعمال: فما خالف عرف الشرع، فضربان: عرف اختيار، وعرف اضطرار.
فأما عرف الاختيار: فكالبوادي يقتاتون ألوان الحبوب، وسكان جزائر البحار يقتاتون لحوم الصيد، وسكان تلك الجبال يقتاتون لحوم الصيد.. وأما عرف الاضطرار: فكأهل الفلوات يقتاتون الحشيش في زمان الجدب، ويقتاتون الألبان في غيرها في زمان الخصب] اهـ.
الاقتيات ليس علة جامعة صالحة للقياس على الزروع والثمار؛ لأنَّ العلة في زكاة الزروع والثمار علة مركبة من القوت والادخار، وليست علة بسيطة، كما صرح بذلك المالكيَّة والشافعيَّة؛ فتؤخذ من الحنطة والشعير وغيرهما من الزروع والحبوب التي يتحقق فيها معنى القوت والادخار.
قال العلامة ابن رشد في "المقدمات الممهدات" من كتب المالكية (1/ 277، ط. دار الغرب الإسلامي): [وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» دليل على أنَّ الزكاة لا تجب في الفواكه ولا في الخضر، وإنما تجب فيما يُوسَق ويُدَّخَر قوتًا من الأقوات: الحبوب والطعام، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، إلا ابن حبيب؛ فإنه أوجب الزكاة في الفواكه] اهـ.
وقال العلامة المواق المالكي في "التاج والإكليل" (3/ 120، ط. دار الكتب العلمية): [تجب الزكاة في التين اليابس؛ لأنَّه مقتات عند الحاجة، ويدخر دائمًا] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 288، ط. دار الكتب العلمية): [وتجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ممَّا يقتات ويدخر وينبته الآدميون] اهـ.
قال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 469-470) -شارحًا كلام الشيرازي-: [اتفق الأصحاب على أنه يشترط لوجوب الزكاة في الزرع شرطان: أحدهما: أن يكون قوتًا، والثاني: من جنس ما ينبته الآدميون.. قال الرافعي: وإنما يحتاج إلى ذكر القيدين مَن أطلق القيد الأول، فأمَّا مَن قيّد؛ فقال: أن يكون قوتًا في حال الاختيار، فلا يحتاج إلى الثاني؛ إذ ليس فيما يستنبت ممَّا يقتات اختيار، فهذان الشرطان متفق عليهما، ولم يشترط الخراسانيون غيرهما، وشرط العراقيون شرطين آخرين، وهما: أن يُدَّخر ويُيَبَّس.. قال الرافعي: ولا حاجة إلى الأخيرين؛ لأنهما ملازمان لكل مقتات مستنبت.. وأما قولهم يقتات في حال الاختيار، فهو شرط بالاتفاق كما سبق، فما يقتات في حال الضرورة لا زكاة فيه] اهـ.
والتعليل بالعلة المركبة جائز، وانتفاء جزء من أجزاء العلة المركبة تنتفي معه العلية؛ فالعلة المركبة لا تتحقق ماهيتها إلا باجتماع أجزائها، ولا يثبت فيها الحكم إلا بثبوت ماهيتها؛ فإذا لم تجتمع أجزائها تخلَّف الحكم؛ كالقتل العمد العدوان.
قال الإمام القرافي في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 409، ط. شركة الطباعة الفنية المتحدة): [حجة الجواز: أنَّ المصلحة قد لا تحصل إلا بالتركيب؛ فإنَّ الوصف الواحد قد يقصر، كما تقول إنَّ وصف الزنا لا يستقل بمناسبة وجوب الحدّ إلا بشرط أن يكون الواطئ عالمًا بأنها أجنبية، فلو جهل ذلك لم يناسب وجوب الحد، وكذلك القتل وحده لا يناسب وجوب القصاص حتى يضاف إليه العمد العدوان] اهـ.
وقال الإمام ابن السبكي في "الإبهاج" (6/ 2552، ط. دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي): [ما يدلّ على عليّة الوصف من الدوران والسبر والتقسيم والمناسبة مع الاقتران لا تختص بمفرد، بل دلالته عليه وعلى المركب على حدٍّ سواء، فعُمِلَ به في المركب كما عُمِلَ به في المفرد] اهـ.
بناء على ما سبق: فإنَّ الأسماكَ وسائر المأكولات البحرية ممَّا لا تجب فيه الزكاة، ولا يصحّ قياسها على ما تجب فيه الزكاة من الزروع والحبوب وإن كانت تلك البحريات ممَّا يمكن أن يقوم به بدن الإنسان.
والله سبحانه وتعالى أعلم.