ما حكم من نذر على نفسه عبادة معينة؛ مثل: صلاة نفل يوميًّا، أو قراءة ورِد من ذِكر يوميًّا، أو قراءة جزء من القرآن الكريم يوميًّا، قاصدًا من ذلك رفع درجة هذه العبادة إلى درجة الوجوب، وهل للإنسان أن ينسلخَ عن نذره ويتحللَ منه؟
من نذر فعلَ عبادة من العبادات صارت هذه العبادة واجبةً عليه؛ ووجب عليه الوفاء بهذا النذر؛ فإذا لم يستطع الوفاء بالنذر بأن كان غير قادر وكان النذر بعبادة أو كان في الوفاء به مشقة فعليه في هذه الحالة كفارة يمين لكي يتحلل منه.
المحتويات
قبل الإجابة على ذلك نقول: إنَّ النَّذر شرعًا هو التزامُ المكلَّف بشيءٍ لم يكن عليه، وقد يكون منجزًا، وهذا هو موضوع السؤالين، وقد يكون معلَّقًا؛ نحو: إن شفى الله مريضي فَلِلَّهِ عليَّ نذر كذا ونحوه، وقد يكون بالمال لمن ينذرُ إخراج شيءٍ من ماله مطلقًا أو معلَّقًا، وهذا المُعَلَّق مُخْتَلَفٌ فيه؛ فهل هو واجب عند تحقق الشرط أم أنه غيرُ مُنْعَقِدٍ؟ لأنه في صورة المعارضة، وقد يكون بعبادة معينة، وهذا مُجْمَعٌ على صحته ووجوب الوفاء به متى كان المنذور به فعلًا مقدورًا، فإن كان غير مقدور ابتداءً فإنَّ النذر لا ينعقد به؛ وبالتالي فلا يجب الوفاء به؛ كمَنْ نذر أن يصوم الأمس، وقد يكون النذر بمعصية فيجب عدم الوفاء به.
وقد رُوِي في النذر بالطاعة والمعصية حديث عائشة رضي الله عنها، ونصه: عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه البخاري: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ».
والأمر في الحديث للوجوب، وهو دالٌّ على وجوب الوفاء بما نذر متى كان في طاعة، كما أنَّ النَّهي في الحديث صريحٌ في الدلالة على عدم الوفاء به بالنسبة للنذر بمعصية.
أمَّا عن حكم النذر فهو قربةٌ مشروعةٌ إذا كان بطاعة بسبب ما يلازِمُهُ من القُرَبِ؛ كالصوم والصلاة والصدقة.
وقد ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: 29].
أما السنة فقد رُوِي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» أخرجه الإمام الزيلعي في "نصب الراية"، وقوله أيضًا: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ».
وقد انعقد الإجماع على شرعيته، غيرَ أنَّه لا يصحّ إلا بقربة لله تعالى من جنسها واجبة؛ كالصلاة والصوم والحج والعتق.. إلخ.
هذا، ووجوبُ الوفاء به ثابتٌ بإيجاب الله تعالى؛ وذلك لأنَّ الأصل فيه أنَّ إيجابَ العبد مُعْتَبَرٌ بإيجاب الله تعالى؛ حيث لا ولاية للعبد على الإيجاب ابتداءً، وإنما صحَّح الفقهاء إيجاب العبد في مثل ما أوجبه الله تعالى؛ تحصيلًا للمصلحة المُعَلَّقة بالنذر، فإن كان النذر بما ليس من جنسه واجب فإنه لا يلزم الوفاء به؛ كالنذر بعيادة مريض، أو بتشييع جنازة، أو بدخول المسجد.
ونخلص مما سبق أنَّ قصد الناذر بعبادة معينة من جنسها واجب رفع درجة هذه العبادة من درجة التطوع أو الندب أو الاستحباب إلى درجة الوجوب مُعْتَبَرٌ، ولكن هذا الرفعُ بإيجاب الله تعالى، وليس بإيجابه هو متفردًا؛ حيث لا ولاية له في رفع هذه الدرجة، وأنَّ الولاية في ذلك للشارع؛ فهو الذي ينزل الحكم بوجوب الوفاء بالنذر من عدمه عندما يرى وجوب الوفاء به من عدمه.
هذا، وممَّا ينبغي أن يُعْلَمَ في هذا المقام أنَّ الشارع الحكيم يؤاخِذُ الناذر بما نذر قَصَدَ نذره أو لم يقصده ما دام النذرُ بعبادة فهو الذي يُنَزِّل حكم الوفاء به وجوبًا من عدمه، غير أنَّه إذا كان الناذرُ قاصدًا كان إيجابه مُعْتَبَرًا بإيجاب الشرع، وإن كان غيرَ قاصد كان وجوب الوفاء بإيجاب الشرع؛ ومن هنا نص الفقهاء على أن من نذر نذرًا مطلقًا فعليه الوفاء به، وقد ذكر ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (3/ 91، ط. طبعة عثمانية): [أنه يلزمه الوفاء به ولو لم يقصده، كما لو أراد أن يقول كلامًا فجرى على لسانه النذر؛ لأنَّ هزل النذر كالجد كالطلاق، وكما لو أراد أن يقول: لله عليّ صوم يوم فجرى على لسانه صوم شهر فإنه يلزمه الوفاء بما سمى] اهـ.
أما الإجابة على السؤال الثاني: وهو الخاص بجواز الانسلاخ من النذر بعد وجوبه فنقول: إن الوفاء بالنذر واجبٌ ما استطاع الناذر فعله، فإن لم يستطع بأن كان غيرَ قادرٍ على الوفاء بما نذر وكان النذر بعبادة أو كان في الوفاء مشقة به فعليه كفارة يمين؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ومن نَذَرَ نَذْراً لَمْ يُطِقْهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» رواه أبو داود وابن ماجه.
ولمَّا كان النذر الوارد بالسؤال هو نذرٌ بطاعة مسماة وهي مقدورة الفعل فيجب الوفاء بها بالشرع، أما إذا لم تكن مقدورة الفعل من الناذر ابتداءً أو انتهاءً فإنه تجب فيها كفارة يمين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.