ما حكم التيمم للجنب في البرد الشديد؟ فقد أصابتني جنابة في وقت برد شديد ولا يوجد وسيلة لتسخين الماء، فما حكم التيمم من الجنابة للصلاة؛ خوفًا من المرض أو الأذى بسبب الاغتسال بالماء البارد؟
لا حرج على السائل شرعًا في التيمم من الجنابة للصلاة في البرد الشديد عند عدم وجود وسيلة لتسخين الماء؛ خوفًا من حصول الأذى والمرض إذا اغتسل بالماء البارد، مع وجوب الغسل وقت تمكنه منه.
المحتويات
جاءت الشريعة الإسلامية بالتَّيسير ورفع الحرج عن المكلفين؛ فقال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وأناطت التكليف بالاستطاعة؛ فقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» متفق عليه.
ومن مظاهر التَّيسير ورفع الحرج في الشريعة: أن جُعل التيممُ عِوَضًا عن الماء في التطهر لاستباحة ما لا يُستباح إلا بالطهارة؛ من صلاةٍ أو تلاوةِ قرآنٍ أو سجودِ تلاوةٍ أو نحوها، وذلك عند عدم وجود الماء أو العجز عن استعماله مع توفره لمرضٍ أو خوف أو نحو ذلك؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: 6].
قال البرهان إبراهيم الحلبي: [التيمم إنما يجوز ويعتبر في الشرع عند عدم الماء حقيقةً أو حكمًا] اهـ نقلًا عن "منحة الخالق" للعلامة ابن عابدين (1/ 159، ط. دار الكتاب الإسلامي).
وقال العلامة الزرقاني في "شرحه على الموطأ" (1/ 224، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وقال مالك في الرجل الجنب: إنه يتيمم ويقرأ حزبه من القرآن ويتنفل) تبعًا للفرض بعده (ما لم يجد ماء) فإن وجده مُنِعَ حتى يغتسل (وإنما ذلك في المكان الذي يجوز له أن يصلي فيه بالتيمم) وهو عدم الماء حقيقةً، أو حكمًا وهو عدم القدرة على استعماله] اهـ.
كيفية التيمم: أن يضرب الـمُحدِث بباطن كفيه على الصعيد الطاهر ضربتين: ضربة يمسح بها وجهه، وضربة لليدين ويمسحهما إلى المرفقين؛ اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى؛ كما قال تعالى في بيان صفة التيمم: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة: 6].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، والدارقطني والبيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".
اتفق الفقهاء على أن التيمم مشروع عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله عند وجوب الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس، وكذا عند وجوب الوضوء من الحدث الأصغر، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك:
جاء في "فتاوى قاضيخان" للعلامة الفرغاني [ت:592هـ] (1/ 54، ط. دار الكتب العلمية): [ويجوز التيمم للحدث والجنابة والحيض عند عامة العلماء] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 303، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمع العلماء بالأمصار بالمشرق والمغرب -فيما علمتُ- أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء: طهورُ كل مسلم مريض أو مسافر، وسواء كان جنبًا أو على غير وضوء] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (4/ 57، ط. دار إحياء التراث العربي): [وأجمع العلماء على جواز التيمم عن الحدث الأصغر، وكذلك أجمع أهل هذه الأعصار ومَن قبلهم على جوازه للجنب والحائض والنفساء، ولم يخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا أحدٌ من السَّلَف، إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وحكي مثله عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي، وقيل: إن عمر وعبد الله رَجَعَا عنه، وقد جاءت بجوازه للجنب الأحاديث الصحيحة المشهورة] اهـ.
عدم القدرة على استعمال الماء خوفًا من الضرر أو التهلكة حال التطهر به: هو في حكم فقده، ومما يشرع لأجله التيمم؛ لدخوله في عموم ما أطبقت عليه الأدلة الشرعية من وجوب حفظ النفس، ومجانبتها المهالك والمفاسد، وبما ورد من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقريره في خصوص مشروعية التيمم للجنب عند الخوف من التضرر بالماء، وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء.
فأما عموم النصوص الشرعية الدالة على وجوب حفظ النفس: فنحو قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقوله جلَّ شأنه: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
قال الإمام الزمخشري في تفسيره "الكشاف" (1/ 502، ط. دار الكتاب العربي): [﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم] اهـ.
وأما ما جاء من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فعن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلًا مُعْتَزِلًا لم يُصَلِّ في القوم، فقال: «يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي القَوْمِ؟» فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابةٌ ولا ماء، فقال: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» متفق عليه.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الـمَاءَ، فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: "أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بِكَفَّيْهِ الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ". متفق عليه.
وأما ما ورد من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم: فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت أن الله يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئًا. أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"، وأبو داود والدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" واللفظ له، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"الصغرى".
وأفرد الأئمة من المحدثين لمشروعية ذلك في مصنفاتهم أبوابًا؛ فبوب الإمام البخاري بابًا أسماه: (بَابٌ: إِذَا خَافَ الجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الـمَرَضَ أَوِ الـمَوْتَ، أَوْ خَافَ العَطَشَ، تَيَمَّمَ)، وبوب الإمام أبو داود في "سننه" بابًا: (باب: إذا خاف الجنب البرد لم يغتسل)، وبوب الإمام البيهقي في "السنن الكبرى" بابًا أسماه: (باب: الجنب أو المحدث يجدُ ماءً لغسله وهو يخاف العطش فيتيمم).
وأما نصوص الفقهاء: فقد نصوا على أن شدة البرد وكونه سببًا للمرض أو الضرر إذا ما صحبه الاغتسال؛ يُعَدُّ من الأعذار التي رخَّص الشرع في التيمم لها.
قال الإمام السُّغْدي الحنفي في "النتف" (1/ 43، ط. دار الفرقان): [من يخَاف على نَفسه ضَرَرَ الـمَاء لشدَّة الْبرد جَازَ لَهُ أن يتَيَمَّم] اهـ.
وقال العلامة بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية" (1/ 517، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا على أنه لو خاف على نفسه الهلاك أو على عضوه ومنفعته يباح له التيمم] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 181، ط. مكتبة الرياض): [وللجنب الصحيح إذا خاف التلف أو المرض من شدة البرد أن يتيمم] اهـ بتصرف.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (1/ 271، ط. دار الكتب العلمية): [إذا خاف من استعمال الماء التلفَ لشدَّة البرد، لا للمرض، فإن كان قادرًا على إسخان الماء لم يجز أن يتيمم؛ لأنه يقدر بعد إسخان الماء أن يستعمله، وإن لم يقدر على ذلك جاز أن يتيمم لحراسة نفسه] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 123، ط. دار الكتب العلمية): [وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى -ثم ذكر الحديث-، ولأنه خائف على نفس؛ أشبه المريض] اهـ باختصار.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (2/ 279، ط. مكتبة الغرباء): [وأكثر العلماء على أن من خاف من استعمال الماء لشدة البرد فإنه يتيمم ويصلي؛ جنبًا كان أو محدثًا] اهـ.
اتفق الفقهاء على أن الجنب إذا تيمم لفقد الماء أو عدم القدرة على استعماله ثم وجده أو قدر على استعماله بزوال العذر؛ لزمه الغسل، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك.
قال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 318): [الإجماع على أن الجنب إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء: لزمه الغسل] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (4/ 57): [وإذا صلى الجنب بالتيمم ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء] اهـ.
وقال في "المجموع" (2/ 208، ط. دار الفكر): [إذا تيمم الجنب والتي انقطع حيضها ونفاسها ثم قدر على استعمال الماء لزمه الغسل؛ هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافةً إلا أبا سلمة بن عبد الرحمن التابعي؛ فقال: لا يلزمه] اهـ.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا حرج على السائل شرعًا في تيممه من الجنابة للصلاة في البرد الشديد مع عدم وجود وسيلة لتسخين الماء خوفًا من المرض أو التهلكة إذا اغتسل بالماء البارد، مع وجوب الغسل فور تمكنه منه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.