ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «إنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ»؟ وكيف نرد على دعوى أن في ذلك انتقاص للمرأة؟
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ» ليس المراد منه الانتقاص من قدر المرأة ولا الازدراء لها، بل هو صيانة للنساء وتحذير للرجال من إطلاق النظر المحرم إلى النساء؛ لما يؤول إليه ذلك النظر من الوقوع في الغواية أي الانحراف عن شرع الله، والفتنة اللذَيْنِ هما من عمل الشيطان، وتحذير المرأة التي تتعمد بخروجها الفتنة والغواية، وهو وصف فعل قبيح بشيء قبيح؛ للتنفير منه، فلا انتقاص لشأن المرأة في ذلك ولا ازدراء.
المحتويات
أولى الشرع الشريف جانب المرأة عناية عظيمة واهتمامًا كبيرًا، فتكاثرت النصوص لبيان رفعة مكانتها ووجوب تقديرها، بل زادت على تقدير المرأة تقدير من أحسن تقديرها، فجعلت الجنة تحت قدميها أمًّا، وجزاء مَن أحسن إليها بنتًا، وتمامَ دين الرجل بكونها له زوجة وشطرًا؛ فعن معاوية بن جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ أن جَاهِمَةَ رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قال: نعم، قال: «فَالْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، والنسائي في "المجتبى" و"السنن الكبرى" -واللفظ له- وابن ماجه، والبيهقي في "السنن"، والطبراني في "المعجم الكبير".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ، فَصَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهِنَّ، وَضَرَّائِهِنَّ، وَسَرَّائِهِنَّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُنَّ»، فقال رجل: أو ثنتان يا رسول الله؟ قال: «أَوِ اثْنَتَانِ»، فقال رجل: أو واحدة يا رسول الله؟ قال: «أَوْ وَاحِدَةٌ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند" -واللفظ له-، ومن طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو داود في "سننه" وابن أبي شيبة في "المصنف".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأَةً صَالِحَةً، فَقَدْ أَعَانَهُ اللهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي الشَّطْرِ الثَّانِي» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فهذه نصوص واضحة مُحْكَمَةٌ في بيان قدر المرأة في الإسلام، وعلى ذلك تواردت نصوص الوحيين كتابًا وسنة، وعلى هذا التكريم السامي يجب أن تفهم سائر أدلة الشريعة فليس في الشرع انتقاص للمرأة وازدراء لها بأي وجه من الوجوه، وما يُدَّعى فيه خلاف ذلك فيجب رد المـُشْكَلِ فيه إلى المـُحْكَم الذي يجلي إشكاله.
من ذلك ما أُشْكِل من فَهم قول النبي صلى الله وآله وسلم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
فليس ذلك تشبيهًا للمرأة بالشيطان؛ كما قد يدَّعي من لم يفهم مراد الشرع الذي كرَّم المرأة وبوّأها مكانتها الجليلة، في نصوص محكمة لا شبهة فيها، والرد على هذه الشبهة من وجوه عدة:
أولًا: من المقرر أن الفهم الصحيح لما قد يرد من إشكال في لفظ أو معنى في حديث شريف، إنما يُعلم ويُتَوَصَّلُ إليه بجمع طرقه ورواياته؛ فالنظر في ألفاظ الحديث مما يستعان به على فهم مشكلاته، فربما أُبْهِمَت كلمة في رواية ووُضِّحَت في أخرى، أو أُطْلِقَ حكم في طريق وقُيّد في آخر.
قال الإمام أحمد بن حنبل: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا" أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 212، ط. دار المعارف).
وقد روى الإمام مسلم الحديث السابق من طريق أخرى بلفظ: «إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ»، بما يبين أن المقصود من الحديث ليس ذم المرأة أو تشبيهها بالشيطان، وإنما المراد: نهي الرجال عن إطلاق النظر إلى النساء، وتوجيههم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما خطر على قلبهم الشهوة المحرمة لغير الحلائل لهم.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (9/ 178، ط. دار إحياء التراث): [هذه الرواية الثانية مبينة للأولى، ومعنى الحديث: أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته.. فليواقعها ليدفع شهوته وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده] اهـ.
ثانيًا: لا يصح أن يفهم الحديث على تشبيه المرأة بالشيطان؛ لأن في ذلك منافاة للنصوص الشرعية؛ فإن الله خلق الإنسان -ذكرًا وأنثى- في أحسن صورة؛ قال تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: 64]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، والتشبيه بالشيطان إنما يأتي في موضع الذم؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ [الصافات: 64-65].
ثالثًا: ليس موضوع الذم في الحديث إقبال المرأة ولا إدبارها، وإلا لنهيت المرأة عن الإقبال والإدبار، ولكان الخطاب موجهًا للنساء لا للرجال، لكن لما كان الخطاب موجهًا إلى الرجال؛ تزكيةً وتعليمًا لهم، عُلِمَ أن موضوع الذم متعلق بإطلاقهم النظر إلى النساء حين إقبالهن وإدبارهن؛ ليحذروا أن يوقع ذلك النظرُ في قلوبهم الغواية والافتتان والاشتهاء المحرم، وهذا من عمل الشيطان. وعلى ذلك تواردت النصوص.
قال الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (14/ 169، ط. مؤسسة الرسالة): [فتأملنا هذا الحديث، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف المرأة في إقبالها وفي إدبارها بما وصفها به، وكانت الشياطين موصوفة في كتاب الله عز وجل بمعنيين، أحدهما: تشبيهه عز وجل الشجرة التي هي طعام أهل النار، الخارجة في أصل الجحيم، أن طلعها كرؤوس الشياطين، وكان ذلك على بشاعة ما هي عليه وفظاعته وقبحه. فعقلنا بذلك: أن الذي سميت به المرأة من الشيطان بخلاف ذلك؛ لأنها في صورتها بخلاف هذا الوصف، ووجدناه عز وجل قد وصف الشيطان الذي هو منها في أعلى مراتبها، بقوله عز وجل: ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27] الآية، فكان ذلك على ما يلقي في قلوبهم مما يغويهم به، ويحركهم على معاصي ربهم عز وجل، فكان ذلك محتملًا أن يكون هو الذي شبه المرأة به في الحديث الذي ذكرنا؛ لأنه يخالط قلوبهم منها مثل الذي يخالط قلوبهم مما يلقيه الشيطان فيها] اهـ.
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (4/ 531، دار الوفاء): [وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِى صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِى صُورَةِ شَيْطَانٍ»: معناه: الإشارة إلى الهوى والدعوى إلى الفتنة بحالها. وما جعل الله في طباع الرجال من الميل إليها، كما يدعو الشيطان بوسوسته وإغوائه لذلك، وتزيينه. وقوله: «فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً»، وفى الحديث الآخر: «فأعجبته ووقعت في قلبه، فليأت أهله، فإن ذلك يردّ ما في نفسه»: نبّه عليه السلام لدواء ذلك الداء المحرك للشهوة للنساء يُطفئها بالمواقعة، وإراقة ما تحرك من الماء، فتسكن الشهوة، وتذهب ما في النفس] اهـ.
وقال الحافظ ابن الجوزي في "كشف المشكل" (3/ 103، ط. دار الوطن): [«فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ» أَي: إن الشيطان يُزين أمرها ويحثُّ عليها، وإنما يقوى ميل النَّاظر إليها على قدر قوة شبقه] اهـ.
وقال العلامة ولي الله الدهلوي في "حجة الله البالغة" (2/ 192، ط. دار الجيل): [اعلم أَن شهوة الفرج أعظم الشَّهوات وأرهقها للقلب، موقعة فِي مهالك كثيرة، والنَّظَر إِلى النساء يهيجها، وهو قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «الْمَرْأَة تقبل فِي صُورَة شَيْطَان» إلخ، فَمن نظر إِلَى امْرَأَة، وَوَقعت فِي قلبه، واشتاق إِلَيْهَا وتوله لَهَا، فالحكمة أَلا يهمل ذَلِك] اهـ.
كما أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم «يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» يبين أنَّ مُتَعلَّق صورة الشيطان المذمومة هو ما يعلق في نفس الرجل من صور الاشتهاء المحرم وخواطره، لا ذات المرأة المقبلة أو المدبرة؛ ولذا أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة ذلك بما هو مباح له وهو إتيان أهله.
وقال العلامة مظهر الدين في "المفاتيح في شرح المصابيح" (4/ 22، ط. دار النوادر): [قوله: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ» يعني: النظر إلى قُبل المرأة ودُبرها، والمراد: النظر إلى جميع بدنها فتنة، توقع الرجل في الفتنة والميل إليها، فلا ينظر إليها باختياره، فإن وقع نظره إليها، ومال قلبه فليمنع نفسه من اتباعها وقضاء شهوته منها؛ بل ليقصد بيته] اهـ.
وقال العلامة المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (1/ 300، ط. مكتبة القاهرة): [(فَإِذا رأى أحدكُم امْرَأَة) أَجْنَبِيَّة (فَأَعْجَبتهُ) أَي استحسنها (فليأت أَهله) أَي: فليجامع حليلته (فان ذَلِك) أَي: جِمَاعهَا (يرد مَا فِي نَفسه) أَي: يعكسه وَيكسر شَهْوَته ويفتر همته وينسيه التَّلَذُّذ بتصور هيكل تِلْكَ الْمَرْأَة فِي ذهنه وَالْأَمر للنَّدْب] اهـ.
ومما يؤكد أن المراد من الحديث توجيه الرجال ونهيهم عن إطلاق النظر إلى النساء لا تشبيه المرأة بالشيطان: فَهم العلماء الأوائل لذلك المعنى؛ حيث أدرجوا الحديث في مصنفاتهم تحت باب النظر، ومن ذلك: إدراج الإمام أبي داود له في "سننه" تحت باب (ما يؤمر به من غض البصر)، وإدراج الإمام البيهقي له في "الآداب" تحت باب (نظر الفَجْأة).
فالفهم الصحيح للحديث من هذا التوجيه: يقتضي ألا ينسب وصف الشيطان إلى النساء لا في ذاتهن ولا في وصفهن -ما لم يتعمدن الغواية- ولا إلى خروجهن من بيوتهن؛ بل إلى رؤية الرائي بريبة ونظر الناظر بشهوة. فالحديث إنما جاء للتحذير والنهي عن النظر إلى النساء بقصد التشهي.
قال الإمام ابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص: 163، ط. دار الكتاب العربي): [وقد نبه هذا الحديث على أمرين؛ أحدهما: التسلي عن المطلوب بجنسه، والثاني: الإعلام بأن سبب الإعجاب قوة الشهوة فأمر بتنقيصها] اهـ.
رابعًا: أنه لا يخفى أن الله جعل النساء من الأشياء المحببة المشتهاة للرجال؛ لجمال خِلقتهن ورقة طبعهن؛ وذلك مما فطرهن الله عليه وزينهن به، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [آل عمران: 14]، وذلك ممدوح فيهن -ما لم يتعمدن به الغواية المحرمة وإثارة الشهوات- وصفة الشيطان مذمومة لأنه يُميل النفوس ويزين لها فعل المحرمات، والتشبيه بالقبيح يوجب قبح المشبَّه، وليست زينة النساء الفطرية وميل الرجال الفطري من القبح في شيء، وليس ذلك من فعلها حتى تذم عليه، بل هو من خصائصها التي خلقها الله عليها؛ فلم يصح أن تُشبَّه بالقبيح، فصح أن يجرى التشبيه على قبح مما جال في خاطر الناظر.
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (7/ 162، ط. دار إحياء التراث العربي): [اعلم أنه تعالى عدد هاهنا من المشتهيات أمورًا سبعة أولها: النساء وإنما قدمهن على الكل؛ لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم] اهـ.
خامسًا: ومما يؤكد أن الحديث إنما وجه للرجال وقصد به نهيهم عن إطلاق النظر، أن تحرك دواعي الشهوة والفتنة غير مقتصر على النساء المتصفات بالجمال فيظن أن السبب منهن، بل قد تكون المرأة قبيحة أو كبيرة بحيث تزول عنها داعية الفتنة، فيشتهيها بعض الرجال عند النظر إليها.
سادسًا: إن الوصف بالشيطان مثلما يصح جريانه على فعل الرجل إذا ما أطلق نظره، يصح جريانه على فعل النساء إذا ما خرجت عن طور العفة والاحتشام وتعمدت الغواية والإثارة، وليس في ذلك ما يفهم منه ازدراء النساء في شيء؛ إذ إن الوصف في هذه الحالة لاحق بفعل من تعمدت ذلك منهن، لا بعموم جنسهن.
قال الإمام القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (4/ 90، ط. دار ابن كثير): [و(قوله: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ» أي: في صفته؛ من الوسوسة، والتحريك للشهوة؛ لما يبدو منها من المحاسن المثيرة للشهوة النفسية، والميل الطبيعي، وذلك يدعو إلى الفتنة التي هي أعظم من فتنة الشيطان] اهـ.
وقال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (4/ 270، ط. دار الكتب العلمية): [«أقبلت في صورة شيطان» شبهها بالشيطان في صفة الوسوسة والدعاء إلى الشر، وهذا يعني أن صفة المرأة التي تغوي الرجال بجسدها ومفاتنها؛ لتثير فيهم الشهوة، تشبه صفة الشيطان الذي يوسوس للرجال لتتحرك شهواتهم فيقعوا في المعاصي والآثام] اهـ.
أما الرد على القول بأن في هذا الحديث ازدراء للمرأة، فيجاب على ذلك بعدة أمور:
أولًا: انتفاء تشبيهها بالشيطان إذا لم تتعمد الغواية والإثارة، ولحوق قبح الوصف بما يوقعه الشيطان في قلوب بعض الرجال من الافتتان بها الناتج عن إطلاق النظر إليها والبعد عن الهدي النبوي في الأمر بغض البصر.
ثانيًا: إقبال المرأة وإدبارها في صورة شيطان إنما يكون إذا تعمدت الغواية وإثارة الشهوات، فهو تشبيه قبيح بقبيح، وهو جارٍ على ما جرى عليه التشبيه عند العرب من تشبيه الفعل الحسن بالشيء الحسن للترغيب فيه، وتشبيه الفعل القبيح بالشيء القبيح للتنفير منه، ولا فرق في هذا بين الرجال والنساء، فالنظر للفعل لا للفاعل.
قال القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم" (2/ 282، ط. دار الفيحاء): [اعلم أن هذا الكلام قد يرد في جميع هذا على موردِ مستمرِّ كلامِ العرب في وصفهم كل قبيحٍ -من شخصٍ أو فعلٍ- بالشيطان أو فعله] اهـ.
ثالثًا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما شبه قبيح فعل النساء بشيء قبيح للتنفير منه، وهو الشيطان، شبه رقة طبعهن ورقة خلقتهن بشيء لطيف رقيق سريع الكسر، وهو القارورة؛ رفقًا بهن، وحماية لهن، ورعاية لخواطرهن، وحرصًا على سلامتهن، وفي ذلك دلالة على أنه لا ازدراء للنساء في السنة النبوية، وإنما تشبيه الشيء بما يوصل للمعنى من أقرب طريق وأوضح أسلوب، ويحقق الهدف المرجو من ترغيب أو ترهيب؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، وكان معه غلام له أسود يقال له أنجشة، يحدو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ بِالقَوَارِيرِ» متفق عليه.
قال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/ 324، ط. مكتبة الرشد): [وتشبيهه صلى الله عليه وآله وسلم النساء بالقوارير من الاستعارة البديعة؛ لأن القوارير أسرع الأشياء تكسرًا، فأفادت الاستعارة ههنا من الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة؛ لأنه لو قال: ارفق في مشيك بهن أو ترسل، لم يفهم من ذلك أن التحفظ بالنساء كالتحفظ بالقوارير، كما فهم ذلك من الاستعارة؛ لتضمنها من المبالغة في الرفق ما لم تتضمنه الحقيقة] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (10/ 545، ط. دار المعرفة): [كنى عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية] اهـ.
رابعًا: أن التشبيه بالشيطان في السنة النبوية لم يرد مقتصرًا على فعل النساء فقط، حتى يقال إن في ذلك ازدراء لها، بل ورد تشبيه الرجل بالشيطان في حديث منفرد به، ووردت المساواة في تشبيه الرجل والمرأة بالشيطان في حديث يجمعهما.
فأما تشبيه الرجل بالشيطان في فعله، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وأحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في "السنن"، وابن خزيمة في "الصحيح".
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (2/ 260، ط. المطبعة العلمية): [التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان أو هو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه؛ فقيل على هذا إن فاعله شيطان] اهـ.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 420، ط. دار الوفاء): [قيل: معناه: فإنما حمله على فعله ذلك وإبائه من الرجوع الشيطانُ، وقيل: فإنه يفعل فعل الشيطان، فإن معنى الشيطان بعيد من الخير، والائتمار للسنة، من قولهم: نوى شطون، أي بعيدة، ومنه سمى الشيطان لبعده من رحمة الله، فسماه شيطانًا لاتصافه بوصفه] اهـ.
وأما وصف الشيطان على فعل الرجل والمرأة إذا استويا فيه: فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ: مَا يَفْعَلُ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَأَرَمَّ الْقَوْمُ» فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون، قال: «فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْطَانِ لَقِيَ شَيْطَانَةً فِي طَرِيقٍ فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ» رواه أحمد في "المسند"، والطبراني في "المعجم الكبير".
فلم يخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة بالتشبيه بالشيطان، بل شمل التشبيه بذلك كل من فعل فعلًا قبيحًا كان من شأنه الغواية أو الدعوة إلى المحرم رجلًا كان أو امرأة.
بناء على ذلك: فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ» ليس المراد منه الانتقاص من قدر المرأة ولا الازدراء لها، بل هو تحذير للرجال من إطلاق النظر المحرم إلى النساء؛ لما يؤول إليه ذلك النظر من الوقوع في الغواية والفتنة اللذَيْنِ هما من عمل الشيطان؛ إذ إن زينة المرأة الظاهرة التي جبلت عليها ليست محلًّا للانتقاص منها في شيء، حتى تكون مدعاة للحوق الذم بها أو تشبيهها بالشيطان، بل هي مدعاة لغض البصر عنها عند الريبة والفتنة.
فالحديث إنما جاء صيانة للمرأة عن أن تتلقفها أعين الرجال في إقبالها وإدبارها، ولتحذير الرجال عما قد يوقعه الشيطان في نفوسهن حال إطلاقهم النظر إلى النساء، ويشمل التحذير والوصف القبيح أيضًا للمرأة التي تتعمد بخروجها الفتنة والغواية، وهو وصف فعل قبيح بشيء قبيح للتنفير منه، فلا ازدراء في ذلك ولا انتقاص؛ إذ إن وصف الفعل بالقبح أو الحسن يصدق على كل فاعل له سواء كان رجلًا أو امرأة، ولذا لم يقتصر ذلك الوصف في السنة النبوية على فعل النساء وحدهن، بل ورد تشبيه فعل الرجل أيضًا بالشيطان إن كان من فعله ما يقبح، وذلك مما يؤكد أنه لا ازدراء للنساء في الإسلام ولا في السنة النبوية؛ بل ما ثَمَّ إلا غاية التكريم وتمام الرعاية والتقدير.
والله سبحانه وتعالى أعلم.