ما حكم الاعتكاف في رمضان في زمن الوباء؟ ففي هذه الظروف التي يمرُّ بها العالم جرَّاء وباء كورونا أُغلقت المساجد وأُرجئت الجُمَع والجماعات ضمن القرارات العامَّة التي قرَّرتها الدول الإسلامية حفاظًا على أرواح الناس من الإصابة بالعدوى. فهل يجوزُ الاعتكافُ في البيوت في هذه الحالة للرجال أو النساء؟ وهل يأخذ الإنسان في هذه الحالة ثواب الاعتكاف؟
الاعتكاف سنة للرجال والنساء على السواء، ولا يكون إلَّا في المسجد؛ لأن العكوف إنما أُضيف إلى المساجدِ لأنها من شرطه، ولا يجوز الاعتكاف في البيوت؛ لافتقاد ركن المسجدية فيه. ونظرًا لهذه الظروف التي تمرُّ بها بلدانُ العالم بسبب وباء كورونا (COVID-19) والتي أغلقت فيها المساجد وأُرجئت الجمع والجماعات؛ فإنه يحكم بسقوط الاعتكاف؛ نظرًا لغياب محله وهو المسجد، والمكلف مأمورٌ بطاعة ولاة الأمور فيما يتوخونه من مصلحة الرَّعية، فإذا انقاد لهذه الطاعة والتزم التعليمات مع شغفه للاعتكاف في المسجد فإنه يأخذُ ثوابَ الاعتكاف وزيادة، وإن كان لا يُسمى ذلك اعتكافًا؛ لأنه إمَّا أن يكون من المداومين عليه ولم يقطعه عنه إلَّا هذا العذر، وإمَّا أن يكون ممن نوى الاعتكاف في المسجد قبل حصول هذا الوباء، وإمَّا أن يكون ممن تاقت أنفسهم لفتح المساجد في هذا الوقت وتمنوا الاعتكاف فيها، مع الالتزام في كل ذلك بطاعة ولي الأمر فيما يراه محققًا لمصلحة رعيته؛ لأن المعذور مأجور، وفضل الله تعالى واسعٌ؛ يكتب للعبد عند عذره عن القيام بما كان معتادًا عليه من الأعمال الصالحة أجرها كما لوكان عملها.
وعلى المسلمين أن يغتنموا فرصة مكثهم في البيوت في هذه الأيام ليحيوا بيوتهم بالصلاة فيها وكثرة الذكر والقراءة، وأن يكثروا فيها من النوافلِ؛ لما فيه من حصول البركة والإكرام للبيوت بتنزُّل الرحمة وحضور الملائكة فيها وفرار الشياطين منها، وأيضًا لما فيه من معنى التخفي في العبادة وفتح أبواب التعلق بالله.
المحتويات
الاعتكاف لغة: القيام على الشيء والمواظبة عليه والملازمة له.
وشرعًا: اللبث في المسجد بنيةٍ مخصوصةٍ، على صفة مخصوصة.
والدليل على مشروعيته: الكتاب والسنة وإجماع الأُمَّة:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187].
قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 114، ط. دار المعرفة): [فالإضافةُ إلى المساجدِ المختصةِ بالقُرَبِ، وتركُ الوطءِ المباحِ لأجله دليلٌ على أنه قربة] اهـ.
ومن السُّنة: حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" متفق عليه.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على استحبابه، وأنه لا يجب إلا بالنذر.
قال الإمام ابن المنذر -فيما حكاه الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 186، ط. مكتبة القاهرة)-: [أجمع أهلُ العلم على أن الاعتكافَ سُنَّة لا يجب على الناس فرضًا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرًا؛ فيجب عليه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 475، ط. دار الفكر): [الاعتكاف سنة بالإجماع، ولا يجب إلا بالنذر بالإجماع، ويستحب الإكثار منه، ويستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان] اهـ.
والاعتكاف من الشرائعِ القديمةِ التي أقرَّها الإسلام؛ قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (4/ 80، ط. دار المنهاج): [والاعتكاف كان في الشرائع المتقدمة؛ قال الله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125] اهـ.
الاعتكاف مشروع في جميع السنة، ويتأكَّد في رمضان، ويزيد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان؛ إحسانًا لختام الشهر، وتحريًا لليلة القدر؛ فيكثر المسلم من القيام في هذه الأيام، ويشتدُّ في الاجتهاد في العبادة والذِّكْر وقراءة القرآن؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" متفق عليه.
حكمة مشروعيته -كما يقول الإمام السرخسي في "المبسوط" (3/ 115)-: [تفريغ القلب عن أمور الدنيا، وتسليم النفس إلى بارئها، والتحصُّن بحصن حصين، وملازمة بيت الله تعالى.
قال عطاء: مَثَل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم، فيجلس على بابه، ويقول: لا أبرحُ حتى تقضيَ حاجتي، والمعتكف يجلسُ في بيت الله تعالى، ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فهو أشرفُ الأعمال إذا كان عن إخلاص] اهـ.
ومن محاسنه -كما جاء في "الفتاوى الهندية" (1/ 212، ط. دار الفكر) في فقه الحنفية-: [تسليم المعتكفِ كُلِّيَّتَه إلى عبادة الله تعالى في طلب الزلفى، وتبعيد النفس من شغل الدنيا التي هي مانعة عما يستوجب العبد من القربى، واستغراق المعتكف أوقاته في الصلاة إما حقيقة أو حكمًا؛ لأن المقصد الأصلي من شرعيته انتظار الصلاة بالجماعات، وتشبيه المعتكف نفسه بمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبالذين يسبحون الليل والنهار وهم لا يسأمون، ومنها اشتراط الصوم في حقه والصائم ضيف الله تعالى] اهـ.
وفي الاعتكاف -كما يقول العلامة الخرشي المالكي في "شرخ مختصر خليل" (2/ 266، ط. دار الفكر)-: [تصفية مرآة العقل، والتشبُّه بالملائكة الكرام في استغراق الأوقات في العبادات، وحبس النفس عن الشَّهوات، وكف اللسان عما لا ينبغي] اهـ.
مدَّة الاعتكاف يحددُها المعتكف؛ فإن نوى مدةً معينةً استحب له إتمامها؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 490): [قال المتولي وغيره: ولو نوى اعتكاف مدَّة معلومة استحب له الوفاء بها بكمالها، فإن خرج قبل إكمالها جاز؛ لأنَّ التطوُّع لا يلزم بالشروع. وإن أطلق النيَّة ولم يقدر شيئًا دام اعتكافه مادام في المسجد] اهـ.
الاعتكاف للرجال لا يكون إلا في المسجد؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة: 187].
ووجه الدلالة في الآية -كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 272، ط. دار المعرفة)-: [أنه لو صحَّ في غير المسجد لم يختصَّ تحريم المباشرة به؛ لأن الجماعَ منافٍ للاعتكاف بالإجماع، فعُلِمَ مِن ذِكر المساجدِ أن المرادَ أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها] اهـ.
فاللُّبث في المسجد هو ركنُ الاعتكاف للرجال، وقد اتفقت على ذلك المذاهبُ الأربعة، ونُقِل على ذلك الإجماع؛ قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الاستذكار" (10/ 273، ط. دار قتيبة): [وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (1/ 313، ط. مصطفى الحلبي): [وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصحُّ في غير المسجد وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكفُ في مسجد بيتها.. ولكن هو قول شاذ، والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه] اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن بن القطان المالكي في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 242، ط. الفاروق الحديثية): [وأجمعوا أنَّ الاعتكافَ لا يكونُ إلا في المسجد] اهـ.
وقال الإمام القرطبيُّ المالكي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 333، ط. دار الكتب المصرية): [أجمع العلماء على أن الاعتكافَ لا يكون إلا في المسجد] اهـ.
وقال الإمام سراج الدين بن الملقن الشافعي في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (13/ 615، ط. دار الكتب المصرية): [وقام الإجماع على أن الاعتكافَ لا يكون إلا في المسجد؛ لهذِه الآية، ولا عبرةَ بمخالفةِ ابن لبابة المالكي فيه؛ لشذوذه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 189): [ولا يصحُّ الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلًا، لا نعلمُ في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصلُ في ذلك قول الله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾؛ فخصها بذلك، ولو صحَّ الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها؛ فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقًا] اهـ.
وأما النساء: فجمهور الفقهاء على أنهن كالرجال، وأن اعتكافهن لا يصحُّ إلا في المسجد؛ استدلالًا بذكر المساجد في الآية، وخالف في ذلك الحنفية؛ فأجازوا للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ونسب ذلك للإمام الشافعي في القديم، وأنكر المحققون من أصحابه نسبته إليه.
قال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (2/ 265، ط. دار الكتب العلمية): [ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها -وهو المُعتَزَلُ المهيأُ للصلاة- لم يصح على الجديد، ويصح على القديم.. قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم، وقالوا: لا يجوز في مسجد بيتها قولًا واحدًا، وغلَّطوا من قال: قولان] اهـ.
وقال الإمام علاء الدين بن العطار الشافعي في "العمدة" (2/ 923، ط. دار البشائر): [ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي، ضعيف عند أصحابه] اهـ.
واستدلَّ الجمهور بحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يعتكفَ، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف إذا أخبيةٌ؛ خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، رضي الله عنهن، فقال:«أَلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ!» ثم انصرف، فلم يعتكف حتى اعتكف عشرًا من شوال. متفق عليه.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/ 68، ط. إحياء التراث العربي): [وفي هذه الأحاديث: أن الاعتكاف لا يصحُّ إلا في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه وأصحابه إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته، فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة، لاسيما النساء؛ لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر] اهـ.
وقال الإمام ابن العطار الشافعي في "العمدة في شرح العدة" (2/ 923): [اعتكف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجُه في المسجد مع المشقَّة في ملازمته، ومخالفة العادة في الاختلاط بالنَّاس، لا سيما النِّساء، فلو جاز الاعتكاف في البيوت، لما خولف المقتضى لعدم الاختلاط بالنَّاس في المسجد وتحمُّل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة] اهـ بتصرف يسير.
وقال الحافظُ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 277، ط. دار المعرفة): [وفيه: أن المسجدَ شرطٌ للاعتكاف؛ لأن النساء شُرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع، ولَاكْتُفِي لهن بالاعتكاف في مساجدِ بيوتهن] اهـ. ونحوه للحافظ العيني في "عمدة القاري" (11/ 148، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد ورد بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واعتضد بآثار الصحابة وإجماعهم:
فروى سعيد بن منصور في "السنن" واللفظ له -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق"-، والإسماعيلي في "معجمه"، والبيهقي في "السنن الكبرى": عن سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قال حذيفة لابن مسعود رضي الله عنهما: لقد علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:«لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ»، أو قال: «مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ».
قال الشيخ ابن تيمية في "شرح العمدة" (3/ 593، ط. مجمع الفقه): [رواه سعيد بإسناد جيد] اهـ، وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (15/ 81، ط. مؤسسة الرسالة): [صحيحٌ غريبٌ عالٍ] اهـ.
وفي رواية لحذيفة رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ» رواه سعيد بن منصور والدارقطني في "سننهما".
وفي رواية الإمام أبي بكر الشافعي في "الغيلانيات": أن الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ».
وهو وإن كان مداره على جُوَيْبِر بن سعيد، وجويبر ضعيف، إلا أنه رواه عنه رجال من كبار أهل العلم؛ مثل هشيم وإسحاق الأزرق، وقد تابعه على نحو معناه: أبو وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، وهو معضود بآثار الصحابة؛ كما قال ابن تيمية في "شرح العمدة" (3/ 595).
وما جاء في بعض رواياته وفي غيرها من الآثار من قصر الاعتكاف على المساجد الثلاثة فمعناه أنه فيها أفضلُ الاعتكاف، مع جوازه في غيرها من المساجد؛ كما روى الحارث عن علي رضي الله عنه: "إنما الاعتكافُ في مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليهما، فمن اعتكف في سواهما فلا يعتكف إلا في المسجد الجامع الذي تصلى فيه الجماعة"؛ كما ذكره الإمام الجصاص في "شرح مختصر الطحاوي" (2/ 470، ط. دار البشاير الإسلامية)، وهو الذي يُجمَع به بين ما نُقل عن بعض الصحابة والتابعين من قصر الاعتكاف على بعض المساجد، ونقل عنهم أيضًا إجازته في كل مسجد جامع: كعلي، وحذيفة، وعطاء.
والمسألة إجماعُ الصحابة رضي الله عنهم؛ كما قال القاضي أبو يعلى الفرَّاء الحنبلي في "التعليقة الكبرى" (1/ 7، ط. دار النوادر)، إذ هو المروي عنهم من غير معارض؛ فعن علي رضي الله عنه قال: "لا اعتكافَ إلا في مسجد جماعة" خرَّجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في "المصنف".
وعن حذيفة رضي الله عنه: "كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يُعتكف فيه" أخرجه الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "الأصل المعروف بالمبسوط" (2/ 269، ط. إدارة القرآن)، ولفظ الطبراني في "المعجم الكبير": "أما أنا فقد علمتُ أنه لا اعتكافَ إلا في مسجد جماعة".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "السنة على المعتكف ألَّا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع" أخرجه أبو داود في "السنن"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا اعتكافَ إلا في مسجد تجمع فيه الصلوات" رواه الإمام أحمد كما في "مسائل الإمام أحمد" (ص: 196، ط. المكتب الإسلامي)، والبيهقي في "السنن الكبرى" بلفظ: "لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة".
وروى قتادة عن أبي حسان وجابر بن زيد: أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما سُئِل عن امرأةٍ جَعَلَتْ عليها أن تعتكفَ في مسجدِ نفسِها في بيتها؟ فقال: "بدعة، وأبغضُ الأعمالِ إلى الله تعالى البِدَعُ؛ لا اعتكافَ إلا في مسجدٍ تُقَامُ فيه الصلاةُ" خرَّجه حرب الكرماني في "مسائله"، كما ذكر الشيخ ابن تيمية في "شرح العمدة" (2/ 744، ط. دار الأنصاري)، وإسناده جيد كما قال الإمام ابن مفلح في "الفروع" (5/ 141، ط. مؤسسة الرسالة).
وروى الأزدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن أبغضَ الأمورِ إلى الله البِدَعُ، وإن مِن البِدَعِ الاعتكافَ في المساجد التي في الدور" أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "شرح العمدة" (3/ 603): [مع ما تقدم من غيره من الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم لم يفرقوا بين الرجال والنساء، وعائشة رضي الله عنها منهم، ومعلومٌ أنها لا تهمل شأن اعتكافها، ولم يُعرف عن صحابي خلافه، لا سيما والصحابي إذا قال: بدعة، علم أنه غير مشروع، كما أنه إذا قال: سنة، علم أنه مشروع] اهـ.
وروى عمرو بن دينار عن جابر أنه سئل عن امرأةٍ جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها؟ قال: "لا يصلح، لِتعتكفْ فِي مسجد؛ كما قال الله: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾" أخرجه أبو بكر الأثرم؛ كما ذكر الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (3/ 170، ط. مكتبة الغرباء)، وقال: [وجابرٌ هذا يُحتَمَل أنه جابر بن عبد الله الصحابي رضي الله عنهما، ويحتمل أنه جابر بن زيد أبو الشعثاء التابعي] اهـ.
وقال الإمام الزهري: [مضت السُّنّةُ أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد جماعة تجمع فيه الجمعة" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأبو بكر النجَّاد -وهذا لفظه- فيما نقله القاضي أبو يعلى في "التعليقة" -(1/ 8، ط. دار النوادر)- ثم قال: وهو قول جماعة من التابعين: الحسن، وجابر بن زيد، وعطاء، ومكحول، والزهري، وعكرمة، وإبراهيم] اهـ.
وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" أيضًا عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي، والحكم، وحماد، وعروة، وغيرهم.
ورواه قبلَه عبد الرزاق في "المصنف" عن: سعيد بن المسيب، وعلي بن أبي طالب، والحسن البصري، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير، وأبي الأحوص، والزهري، وعطاء، وغيرهم.
وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلَّى" (3/ 431، ط. دار الفكر): [وقد صحَّ أن أزواجَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتكفن في المسجد، ولا مخالفَ لهن من الصحابة] اهـ.
القول باشتراط المسجدية في صحَّة الاعتكاف بالنسبة للرجال أمرٌ متفقٌ عليه بين العلماء، وكذلك بالنسبة للنساء عند جماهير الفقهاء، وهو إجماع الصحابة، وهذا هو المذهب المعتمد والقول المفتى به، ويمكن حمل قول من أجاز للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها على قصد حصول الثواب لها، فيما تطلعت إليه نفسها من الطاعة وتشوَّقت له من نيل أجر الاعتكاف؛ فإن مداومتها على صلاتِها وقيامِها في بيتها خيرٌ لها وأثْوَبُ من اعتكافها في المسجد، فإذا لزمت بيتها على ذلك نالت أجر الاعتكاف وزيادة؛ لأنه لم يمنعها من الاعتكاف إلا طلب الخيرية في رضا الله تعالى بمكثها في بيتها.
إذا تقرَّر أن المسجد هو محل الاعتكاف للرجال والنساء على السواء: فإن اعتكافهم خارج المسجد لا يجوز؛ لافتقاد ركن المسجدية فيه، وفي هذه الآونة التي أغلقت فيها المساجد وأُرجئت الجمع والجماعات بسبب وباء كورونا المُعدي (COVID-19) الذي اجتاح بلدان العالم، يحكم بسقوط الاعتكاف نظرًا لغياب المحل وهو المسجد؛ وقد تقرَّر أن الحكم يرتفع بذهاب محله، وأن طلب العبادة متعلق بالقدرة على الإتيان بها، والحالة التي تمرُّ بها بلدانُ العالم أدَّت إلى تعذُّر العبادة في المساجد، وإذا كان الشرع الشريف أسقط صلاةَ الجماعة في الفرض عند وجود العذر؛ فإن سقوطَها في غير الفرض عند وجود العذر أولى وآكَدُ.
فالقولُ بالاعتكاف في هذه الأيام مع اشتراط المسجدية فيه هو أمرٌ غير مستطاع حكمًا؛ لأنه مأمورٌ باتباع التعليمات وطاعة ولاة الأمور فيما يتوخونه من مصلحة الرَّعية، والمكلف مأمور بالعبادة قدر استطاعته ووسعه؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فطاعةُ المسلم لولاة الأمر والتزامُه بتعليماتهم بالمكث في بيته مع ما كانت تتوقُ به نفسُه من الاعتكاف في المسجد يُعطيه ثواب الاعتكاف وزيادة وإن كان لا يُسمى اعتكافًا؛ فيأخذ ثواب الاعتكاف من جهة أنه مداومٌ على الاعتكاف في المسجد في كل عام ولم يمنعه هذا العام إلَّا هذا العذر، ومن جهة أخرى على طاعته لولاة الأمر فيما يرونه من مصلحة رعيتهم، وكذلك الحال فيمن نوى الاعتكاف في المسجد قبل حصول الوباء، حتى ولو لم يكن مداومًا عليه قبل ذلك، وكذلك بعد حصول الوباء ممن تاقت نفسه لفتح المساجد وتمنى الاعتكاف فيها؛ لأن المعذور مأجور، وفضل الله تعالى واسعٌ؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ، كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» أخرجه أبو داود في "السنن"، وابن حبان في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك" وصححه.
وفي رواية: «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» أخرجه الإمام البخاري في "الصحيح"، وأحمد في المسند" عن أبي موسى رضي الله عنه أيضًا.
وينبغي على المسلم حينئذ أن يغتنمَ هذه الفرصة في إحياء البيوت وإكرامها بتكثير الصلاة فيها، وكذلك الذكر وتلاوة القرآن، ويكون ذلك تدريبًا على الإكثار من النوافل:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» متفقٌ عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَكْرِمُوا بُيُوتَكُمْ بِبَعْضِ صَلَاتِكُمْ» أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وابن خزيمة في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك"، والضياء في "الأحاديث المختارة"، زاد عبد الرزاق: «وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»، قال الحافظ الضياء: إسناده صحيح، وصححه الحافظ السيوطي.
قال الإمام النووي الشافعي في "شرح مسلم" (6/ 67-68، ط. دار إحياء الترث العربي): [وإنما حثَّ على النافلة في البيت؛ لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان؛ كما جاء في الحديث الآخر؛ وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية الأخرى: «فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيرًا»] اهـ.
بناءً على ذلك: فالاعتكاف سنة للرجال والنساء على السواء، ولا يكون إلَّا في المسجد؛ لأن العكوف إنما أُضيف إلى المساجدِ لأنها من شرطه، وذلك بالإجماع سلفًا وخلفًا في حق الرجال، أما في حق النساء فهو إجماع الصحابة، ورأي جماهير العلماء، وهو المذهب المعتمد والقول المُفْتَى به؛ ويُحمل قول من أجاز لها الاعتكاف في بيتها على قصد حصول الثواب ونيل أجر الاعتكاف.
فإذا تقرَّر اشتراط المسجدية في الاعتكاف في حق الرجال والنساء على السواء، لم يجُز الاعتكاف في البيوت حينئذ؛ لافتقاد ركن المسجدية فيه، ونظرًا لهذه الظروف التي تمرُّ بها بلدانُ العالم بسبب وباء كورونا (COVID-19) والتي أغلقت فيها المساجد وأُرجئت الجمع والجماعات؛ فإنه يحكم بسقوط الاعتكاف؛ نظرًا لغياب محله وهو المسجد، وقد تقرر أن الحكم يرتفع بذهاب محله، وإذا كان الشرع أسقط اعتبار المسجدية في الفرض عند وجود العذر؛ فإن سقوطها في غير الفرض عند وجود العذر أولى وآكد، ومن ثَم فالاعتكاف في هذه الأيام مع اشتراط المسجدية فيه أمرٌ غير مستطاع حكمًا؛ لأن المكلف مأمورٌ بطاعة ولاة الأمور فيما يتوخونه من مصلحة الرَّعية، فإذا انقاد لهذه الطاعة والتزم التعليمات مع شغفه للاعتكاف في المسجد فإنه يأخذُ ثوابَ الاعتكاف وزيادة، وإن كان لا يُسمى ذلك اعتكافًا؛ لأنه إمَّا أن يكون من المداومين عليه ولم يقطعه عنه إلَّا هذا العذر، وإمَّا أن يكون ممن نوى الاعتكاف في المسجد قبل حصول هذا الوباء، وإمَّا أن يكون ممن تاقت أنفسهم لفتح المساجد في هذا الوقت وتمنوا الاعتكاف فيها، مع الالتزام في كل ذلك بطاعة ولي الأمر فيما يراه محققًا لمصلحة رعيته؛ لأن المعذور مأجور، وفضل الله تعالى واسعٌ؛ يكتب للعبد عند عذره عن القيام بما كان معتادًا عليه من الأعمال الصالحة أجرها كما لو كان عملها.
وعلى المسلمين أن يغتنموا فرصة مكثهم في البيوت في هذه الأيام ليحيوا بيوتهم بالصلاة فيها وكثرة الذكر والقراءة، وأن يكثروا فيها من النوافلِ؛ لما فيه من حصول البركة والإكرام للبيوت بتنزُّل الرحمة وحضور الملائكة فيها وفرار الشياطين منها، وأيضًا لما فيه من معنى التخفي في العبادة وفتح أبواب التعلق بالله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.