هل يجوز في هذه الآونة التي انتشر فيها فيروس كورونا (كوفيد 19) الوبائي أن يجتمع الناس للذكر والدعاء، على نية رفع هذا الوباء؟
الاجتماع للدعاء والذكر لكشف الضر، والتضرع الجماعي لتفريج الكروب ورفع البلاء: هو من الأمور المستحسنة شرعًا، إلَّا حيث يكون في الاجتماع ضرر أو عدوى؛ كما هو الحال في وباء كورونا (COVID-19)، وكما ثبت ذلك في حوادث التاريخ الغابرة، فلا يشرع حينئذ الاجتماع، ولولي الأمر منعُه عند الخوف من حصول الضرر، ويجب على الناس الالتزام بذلك شرعًا، ويكون الاجتماع على الذكر أو الدعاء حينئذ حرامًا؛ من جهة كونه سببًا لانتشار المرض وانتقال العدوى واستفحال الوباء، ومن جهة أنه افتئات على ولي الأمر الذي خوَّلَت له الشريعة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق ما هو مكلَّف به من الحفاظ على أرواح الناس وصحتهم، ويكفي أن يدعو كل واحدٍ في مكانه، دون اختلاط أو اجتماع، ويمكن للناس جمع الهمم على الدعاء عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، فإن صدق القلوب هي محل نظر علام الغيوب، والناس إلى القلوب الضارعة أحوج منهم إلى الجموع المتدافعة، ويجب على الجميع اتخاذ كافة السبل المتاحة للحفاظ على نفوس الناس وأرواحهم، باتباع تعليمات الجهات المسؤولة وأهل الاختصاص، من تدابير وقائية وأساليب احترازية.
المحتويات
اتفق العلماء على مشروعية التضرع والدعاء لرب الأرض والسماء، عند حلول الوباء وحدوث البلاء؛ فهو سبحانه وتعالى مجيب المضطرين وملاذ اللاجئين، وهو وحده كاشف الضُرِّ ورافع البلوى، وهو منقذ البشر من العدوى؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 17]، وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43]، وقال عز وجل: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62] وقال جل شأنه: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 67].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، و"الأوسط"، و"الدعاء"، والحاكم في "المستدرك" وصححه، وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وله طرق كثيرة.
ورُوي مُرسلًا عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ» رواه أبو داود في "مراسيله".
قال الإمام ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (3/ 47، ط. مكتبة الرشد): [السنة عند نزول الآيات: الاستغفار والذكر والفزع إلى الله تعالى بالدعاء، وإخلاص النيات بالتوبة والإقلاع، وبذلك يكشف الله تعالى ظاهر العذاب؛ قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾] اهـ.
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "اختيار الأَوْلَى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" (ص: 115، ط. مكتبة دار الأقصى): [فالمؤمن: مَن يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع، ويظهر مسكنته وفاقته إليه في الشدة والرخاء، أما في حالة الرخاء: فإظهار الشكر، وأما في حال الشدة: فإظهار الذل والعبودية والفاقة والحاجة إلى كشف الضر] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 542، ط. دار المعرفة) في ذكر فوائد حديث صلاة الكسوف: [وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم: المبادرةُ إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه، واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته] اهـ.
وقد ورد الأمر بالتضرع والدعاء عند حصول البلاء مطلقًا، وإذا شَرَع اللهُ سبحانه وتعالى أمرًا على جهة الإطلاق وكان يحتمل في فعله وكيفية إيقاعه أكثرَ مِن وجه فإنه يؤخذ على إطلاقه وسعته، ولا يصح تقييده بوجه دون وجه إلا بدليل؛ فالأمر المطلق يقتضي عموم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فامتثاله يحصل بالدعاء والتضرع فرادى أو جماعات، سرًّا أو جهرًا، ولا يجوز تقييده بهيئة دون هيئة إلا بدليل، ولا فرق في ذلك بين دعاء المؤمنين حال كونهم مجتمعين أو متفرقين.
المعهود من نصوص الوحي: أن الدعاء في الجمع أرجى للقبول وأيقظُ للقلب وأجمعُ للهمة وأَدعى للتضرع والذلة بين يدي الله تعالى؛ لأن النفوس لها تأثيرات، والهمم لها بادرات، فإذا تواترت واجتمعت على قصد أمر معين: كان قبول الدعاء أرجى، وحصول المقصود أكمل؛ ولذلك جاءت أكثر أدعية المؤمنين في القرآن بصيغة الجمع، تنبيهًا على قوة أثر الجماعة في تحصيل المقصد وتحقيق الإجابة؛ فقال تعالى عن سيدنا زكريا وأهله على نبينا وعليهم السلام: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
قال الإمام الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (7/ 124، ط. دار إحياء التراث العربي): [حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع؛ بأنهم قالوا: ﴿لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، ﴿وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾، ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾، فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء؟
والجواب: المقصود منه بيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل؛ وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحدٍ: كان حصوله أكمل] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 133) في باب فضل صلاة الجماعة: [الرابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص] اهـ.
يدخل ضمن الاجتماع للدعاء المُرغَّب فيه: خروج الناس إلى الفضاء والخلوات عند حدوث البلاء والنكبات؛ كالزلازل ونحوها: قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "الغرر البهية" (2/ 66، ط. المطبعة الميمنية): [ويسن الخروج إلى الصحراء وقت الزلزلة؛ قاله العبادي، ويُسَنُّ الدعاء والتضرع] اهـ.
وهذا على جهة الاستحباب لا الإيجاب، فإنه إذا كان الخروج يحصل به ضرر أو مشقة: فلا يُشرع الاجتماع ولا الخروج له حينئذٍ؛ بل يكفي تضرع الناس في أماكنهم؛ قال العلامة السندي في "شرح مسند الإمام الشافعي" (1/ 174، ط. دار الكتب العلمية) عند الكلام على دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نزول المطر: [وفهم من الحديث: أنه إذا خيف ضرره دعا الناس ربهم أن يكفيهم شره وأن يصرفه بعيدًا عنهم إلى حيث ينفع ولا يضر، وأنهم لا يخرجون إلى صحراء في بلوغ هذا الغرض، بل يكتفون بالدعاء في أماكنهم] اهـ.
فإذا كان البلاء وباءً مُعديًا أو مرضًا مستشريًا: فحينئذ يمتنع الاجتماع للذكر أو الدعاء، حتى لو كان القصد من ذلك التضرع الجماعي لصرف هذا الوباء؛ لِما فيه من الضرر والمخاطرة بالنفس، وقد أُمِرْنا بتجنب المخاوف والابتعاد عن المهالك؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، ومنه الأمراض المعدية والأوبئة القاتلة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في "صحيحه".
ويجوز لولي الأمر منعُ التجمع وقت الوباء وحلول الأمراض المعدية، بل إذا رأى في ذلك تحقق الخطر على الناس صار المنع واجبًا؛ حفاظًا على الناس من الهلاك، ويجب على الناس طاعتُه حينئذٍ، ويحرم عليهم مخالفتُه؛ منعًا للضرر وحذرًا من الافتيات على ولي الأمر، فلما وقع طاعون عَمواس استُخْلِفَ عمرو بن العاص بعد أن مات بالطـــاعون أبو عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، فقام خطيبًا فقال: "أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبَّلوا منه في الجبال"، ثم خرج وخرج الناس، فتفرقوا عنه ودفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب من رأي عمرو فوالله ما كرهه. أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وقد عُرف خطر الاجتماع وقت الوباء مرات عديدة عبر التاريخ، وكانت نتائج التجمع أليمة وعواقبه وخيمة؛ حيث انتشرت فيهم العدوى وتفاقمت البلوى.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "بذل الماعون في فضل الطاعون" (ص: 328، ط. دار العاصمة): [قرأت في جزء "المنبجي"، بعد إنكاره على من جمع الناس في موضع، فصاروا يدعون ويصرخون صراخًا عاليًا، وذلك في سنة أربع وستين وسبع مائة، لما وقع الطاعون بدمشق، فذكر أن ذلك حدث سنة تسع وأربعين، وخرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعظم الطاعون بعد ذلك وكثر، وكان قبل دعائهم أخف.
قلت: ووقع هذا في زماننا؛ حين وقع أول الطاعون بالقاهرة، في السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثلاثين وثمان مائة، فكان عدد من يموت بها دون الأربعين؛ فخرجوا إلى الصحراء في الرابع من جمادى الأولى، بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيام كما في الاستسقاء، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعة ثم رجعوا؛ فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يوم بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد] اهـ.
وقال العلامة سبط ابن العجمي في "كنوز الذهب في تاريخ حلب" (2/ 212، ط. دار القلم): [ثم في يوم الاثنين ثالث عشري ربيع الأول –سنة852هـ- خرج الكافل والقضاة والمشايخ والعوام ومعهم المصاحف وأعلام الجوامع إلى قرنبيا، ورفعوا أصواتهم بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وقرّب الكافل قربانًا للفقراء ورجعوا، فظهر الوباء ظهورًا لم يكن قبل ذلك.
وأذكرني هذا ما قاله شيخنا أبو الفضل بن حجر: أن في سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقع الطاعون بدمشق وخرج الناس إلى الصحراء ومعظم أكابر البلاد ودعوا واستغاثوا، فعَظُمَ الطاعون بعد ذلك وكثر] اهـ.
ولا يخفى على العقلاء ما تمر به بلاد العالم من وباء كورونا (COVID-19) الذي انتشرت عدواه، وراح ضحيتَه آلافُ البشر، وما اتخذته السلطات في جميع الدول من إجراءات احترازية وأساليب وقائية للحد من انتشار هذا الفيروس؛ من منع التجمعات، وتعليق الجمع والجماعات، وإغلاق دور العبادة ونحو ذلك؛ حفاظًا على نفوس الناس وأرواحهم، فحِفظُ النفس مقصد كلي وفرضٌ شرعي، جاءت به كل الشرائع السماوية.
كما أنه يمكن جمع الهمم على الدعاء في الأوقات المباركة والمواسم الكريمة بشتى الوسائل، كالاجتماع الافتراضي عبر وسائل التواصل، فحضور الجَنان لا يتوقف على تلاقي الأبدان، وصدق الإنسان لا يحدّه المكان، والعبرة بالإخلاص في التضرع لا بالتجمهر والتجمع.
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فالاجتماع للدعاء والذكر لكشف الضر، والتضرع الجماعي لتفريج الكروب ورفع البلاء: هو من الأمور المستحسنة شرعًا، إلَّا حيث يكون في الاجتماع ضرر أو عدوى؛ كما هو الحال في وباء كورونا (COVID-19)، وكما ثبت ذلك في حوادث التاريخ الغابرة، فلا يشرع حينئذ الاجتماع، ولولي الأمر منعُه عند الخوف من حصول الضرر، ويجب على الناس الالتزام بذلك شرعًا، ويكون الاجتماع على الذكر أو الدعاء حينئذ حرامًا؛ من جهة كونه سببًا لانتشار المرض وانتقال العدوى واستفحال الوباء، ومن جهة أنه افتئات على ولي الأمر الذي خوَّلَت له الشريعة اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق ما هو مكلَّف به من الحفاظ على أرواح الناس وصحتهم، ويكفي أن يدعو كل واحدٍ في مكانه، دون اختلاط أو اجتماع، ويمكن للناس جمع الهمم على الدعاء عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، فإن صِدْقَ القلوب هي محلّ نظر علام الغيوب، والناس إلى القلوب الضارعة أحوج منهم إلى الجموع المتدافعة، ويجب على الجميع اتخاذ كافة السبل المتاحة للحفاظ على نفوس الناس وأرواحهم، باتباع تعليمات الجهات المسؤولة وأهل الاختصاص، من تدابير وقائية وأساليب احترازية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.