ما حكم خروج الناس في زمن الوباء في مسيرات جماعية للدعاء الجماعي والتضرع برفع الوباء بزعم أن الدعاء يدفع البلاء؟
الدعاء من أفضل العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، خصوصًا في أوقات الضيق والاضطرار، ومع ذلك فإن خروج الناس في زمن الوباء في مسيرات جماعية للدعاء الجماعي والتضرع برفع الوباء بما يكون مظنة لزيادة تفشي المرض يعد من المنكرات المحرمات ومن البدعة في الدين.
المحتويات
للدعاء منزلة عظيمة في الإسلام، وهو من أفضل العبادات؛ وذلك لِما فيه من التضرع والتذلل والافتقار إلى الله تعالى، لذا أوصانا الله تعالى بالحرص على الدعاء، وحثَّنا عليه في محكم آياته؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
ومن الآيات التي فيها حثٌّ على الدعاء في أوقات الضيق والاضطرار: قوله سبحانه: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62].
ففي هذه الآية الكريمة ينبِّه الحق تبارك وتعالى أنه هو المدعوُّ عند الشدائد، المرجوُّ عند النوازل؛ كما قال: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 67]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53].
وقد بيَّنت السنة المشرَّفة فضل الدُّعاء؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
وروى الترمذي في سننه وحسَّنه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ».
والدعاء من جملة أسباب صرف غضب الله تعالى؛ فقد روى الترمذي في سننه وحسَّنه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»؛ لأن تركَ السؤال تكبرٌ واستغناءٌ، وهذا لا يجوز للعبد.
وروى أبو داود في سننه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»؛ أي: خاليتين.
وروى الترمذي في سننه وصحَّحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ».
ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ»؛ أي: وأنتم على يقين بأن الله لا يُخيِّبُكم؛ لكرمه الواسع، وعلمه المحيط، وقدرته التامة، وذلك يتحقق بصدق رجاء الداعي وخلوص نيَّته.
بل جاء أن الدعاء يرد القضاء؛ وذلك فيما رواه الترمذي عن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ».
وتوجيه هذا بالتفرقة بين القضاء المُبْرَم والقضاء الْمُعَلَّق؛ قال العلامة الطِّيبي في شرح "مشكاة المصابيح" (11/ 3638، ط. نزار الباز): [اعلم أن لله تعالى في خلقه قضائين: مبرمًا ومعلقًا؛ أما القضاء المعلق: فهو عبارة عما قَدَّره في الأزل مُعَلَّقًا بفِعل، كما قال: (إنْ فَعَلَ الشيء الفلاني كان كذا وكذا، وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا)، فهو من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات؛ كما قال الله تعالى في محكم خطابه: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ [الرعد: 39]. أما القضاء المبرم: فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يُعَلِّقه بفِعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ؛ بحيث لا يتغير بحال، ولا يتوقف على المقضي عليه، ولا المقضي له؛ لأنه مِن علمه بما كان وما يكون، وخلافُ معلومِه مستحيلٌ قطعًا، وهذا مما لا يتطرق إليه المحو والإثبات؛ قال الله تعالى: ﴿لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: 41]] اهـ.
للدعاء آداب لا بد من مراعاتها حتى يقع على مراد الله تعالى، ومن غير أن تتحكم فيه الأهواء، ومن هذه الآداب -بل من أهمها-: عدم الاعتداء فيه؛ وقد نهى الله تعالى عن ذلك في القرآن الكريم حيث قال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55].
قال الإمام الشوكاني في تفسيره "فتح القدير" (2/ 243، ط. دار ابن كثير ودار الكلم الطيب): [التضرع: من الضراعة، وهي الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به؛ فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسم لباب ما يخالف الإخلاص، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛ أي: المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليًّا. ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل الداعي ما ليس له؛ كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة، أو يرفع صوته بالدعاء صارخًا به] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره (7/ 226، ط. دار الكتب المصرية): [والاعتداء في الدعاء على وجوه؛ منها: الجهر الكثير والصياح، ومنها: أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط. ومنها: أن يدعو طالبًا معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مُقَفَّاةً وكلمات مُسَجَّعَةً قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام. وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء] اهـ.
وورد في "سنن أبي داود" عن عبد الله بن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض، عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ».
قال العلامة الْمُنَاوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 66، ط. مكتبة الإمام الشافعي بالرياض): [«يعتدون فِي الدُّعاء»، أَي: يتجاوزون فيه الحد ويدعون بما لا يجوز أَو يليق، أو يرفعون الصوت به، أو يتكلفون السجع، أَو يتشدقون به] اهـ.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه -واللفظ لِمُسْلم- قال: كُنَّا مَعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرٍ، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ».
قال الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم" (17/ 26، ط. دار إحياء التراث العربي): [«ارْبَعُوا» معناه: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم؛ فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه؛ فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت حاجة إلى الرفع رَفَعَ كما جاءت به أحاديث] اهـ.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (ص: 209، ط. دار الكتب العلمية): [شُرِع إخفاء الدعاء؛ فإن الله يسمع الخفي كما يسمع الجلي، فرفع الصوت في مناجاة الرب فضول لا حاجة إليه] اهـ.
وقد ذهب فقهاؤنا باختلاف مذاهبهم إلى كراهة رفع الصوت بالدعاء؛ فقال الإمام أكمل الدين البابرتي الحنفي في "العناية" (2/ 446، ط. دار الفكر): [المستحب عندنا في الدعاء والأذكار الإخفاء، إلا إذا تعلق بإعلانه مقصود؛ كالأذان والخطبة وغيرهما] اهـ.
وقال العلامة ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (1/ 249، ط. دار الغرب الإسلامي): [ كره رفع الصوت بالدعاء] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 136، ط. المنيرية): [ويستحب أن يخفض صوته بالدعاء، ويكره الإفراط في رفع الصوت] اهـ.
وجاء في "غاية المنتهى" للشيخ مرعي الكرمي وشرحه "مطالب أولي النهى" للإمام الرحيباني من كتب الحنابلة (1/ 472، ط. المكتب الإسلامي): [(وكره رفع صوت به)؛ أي: الدعاء (في صلاة وغيرها)] اهـ.
إذا كان رفع الصوت والصياح في الدعاء ممنوعًا شرعًا، فإن اجتماع الناس في أوقات الوباء ومخافة انتشار العدوى وتفشي المرض أشد في المنع؛ إذ المقرر شرعًا أنه "لا ضرر ولا ضرار"، واجتماع الناس على هذه الهيئة وغيرها مظنة انتقال العدوى، ومن ثَمَّ فهو ممنوع شرعًا.
ومما يُستأنس به في منع اجتماع الناس وقت الأمراض والأوبئة: ما أخرجه الإمام أحمد في مُسنده، والطبري في تاريخه، ومُحَصَّلُه: أنه لَمَّا وقع الطاعون، طاعون عمواس، في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأرض الشام، وكان أميرُها وقتئذٍ أمين الأمة أبا عبيدة بن الجراح، فطُعِنَ -أي: أُصيب بالطاعون- فمات رضي الله عنه، واسْتُخْلِفَ على الناس معَاذ بن جبل، فطُعِنَ، فلمَّا مات اسْتُخْلِفَ على الناس عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، فقام في الناس خطيبًا، فقال: "أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فَتَجَبَّلُوا منه في الجبال".. ثم خرج وخرج الناس فَتَفَرَّقُوا عنه ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو، فوَاللهِ ما كَرِهَهُ.
وتكلم الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" عن الاجتماع للدعاء في وقت الطاعون من أجل رفعه، فقال (ص: 328-329، ط. دار العاصمة بالرياض): [وأما الاجتماع له كما في الاستسقاء؛ فبدعة حدثت في الطاعون الكبير بدمشق سنة تسع وأربعين وسبع مائة، فقرأت جزء المنبجي بعد إنكاره على من جمع الناس في موضع، فصاروا يدعون ويصرخون صراخًا عاليًا.. فذكر أن الناس خرجوا إلى الصحراء ومعظم أكابر البلد فدعوا واستغاثوا، فعظُم الطاعونُ بعد ذلك، وكَثُرَ، وكان قبل دعائهم أخفُّ!
ووقع هذا في زماننا، حين وقع أوَّلُ الطاعونِ بالقاهرة في السابع والعشرين من شهر ربيع الآخَر سنة ثلاث وثلاثين وثمان مائة، فكان عددُ من يموتُ بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء في الرابع من جمادى الأولى، بعد أن نُودي فيهم بصيام ثلاثة أيام، كما في الاستسقاء، واجتمعوا، ودعوا، وأقاموا ساعةً، ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عددُ من يموت في كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد] اهـ بتصرف يسير.
إن خروج الناس في زمن الوباء في مسيرات جماعية للدعاء الجماعي والتضرع برفع الوباء بما يكون مظنة لزيادة تفشي المرض يعد من المنكرات المحرمات، والبدع في الدين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.