ما هي الصفة الواردة في الذكر عقب الصلاة المكتوبة؟ وهل يجوز الجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير؛ بحيث تقال معًا على التتالي ثلاثًا وثلاثين مرة، دون إفراد كل واحد منهم بالذكر ثلاثًا وثلاثين وحده؟ وهل الترتيب بينهم لازم أو يمكن التقديم والتأخير؟
الأذكار التي جاءت بها السنة مما يقال بعد الصلاة المكتوبة من التسبيح والتحميد والتكبير يمكن أن تقال جمعًا أو إفرادًا، ولا يشترط فيها الترتيب، وإن كان الإفراد فيها والإتيان بها على الترتيب المعروف أفضل.
المحتويات
الذكر عقب الصلاة من الأمور المطلوبة شرعًا؛ وذلك للأمر الرباني بالذكر عقب الصلاة في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ [النساء: 103].
قد أفادت السنة ذلك أيضًا في أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع منه متعددة، وأجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة. انظر: "الأذكار" للإمام النووي (ص: 70، ط. دار الفكر).
ومما جاء فيه من الأحاديث:
ما رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ».
ومنه: ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتكبير".
وما رواه مسلم أيضًا عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ».
وما رواه مسلم أيضًا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ».
وروى البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ دبر الصلاة بهؤلاء الكلمات: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وروى الترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة".
وروى أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده وقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ»، ثم قال: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».
وروى النسائي عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دبر كل صلاة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ».
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قضى صلاته مسح جبهته بيده اليمنى ثم قال: «بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنِّي الْهَمَّ وَالْحَزَنَ».
وروى الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ما صليت خلف نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم إلا سمعته حين ينصرف يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَذُنُوبِي كُلَّهَا، اللَّهُمَّ انْعَشْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ إِنَّهُ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ».
وروى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان مقامي بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبض، فكان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَوْمَ أَلْقَاكَ».
وقد جاء الإرشاد إلى قول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر؛ ثلاثًا وثلاثين لكل واحدة منها كذلك عقب الصلاة، ومما ورد في ذلك:
ما رواه الشيخان -واللفظ للبخاري- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم؛ يُصَلُّون كما نُصَلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فَضلٌ من أموال يَحُجُّون بها، ويَعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فرجعت إليه، فقال: «تَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لله وَاللهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ». والدثور: جمع دثر -بفتح الدال، وإسكان الثاء المثلثة-، وهو المال الكثير.
وما رواه مسلم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً».
وما رواه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
هذا الإرشاد الشرعي بالذكر عقب الصلاة جاء مطلقًا، ومن المقرر أن المطلق يجري على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده؛ قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 8، ط. دار الكتبي): [الْخِطَاب إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا لَا مُقَيِّدَ لَهُ، حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ] اهـ.
وقال العلامة صدر الشريعة في "التوضيح" (1/ 117 -مع "شرحه التلويح للسعد التفتازاني"-، ط. مكتبة صبيح): [حُكم المطلق أن يجري على إطلاقه] اهـ.
فلا يصح تقييد المطلق بوجه دون وجه إلا بدليل، ولذلك عندما تعرض العلماء لبيان الصفة الذي يكون عليه الذكر؛ بالجمع أو الإفراد، ذكروا أن الأمر فيه على السعة والتخيير، وأنه لا يدور بين جائز وممنوع، وإنما بين فاضل ومفضول، فكلامهم كان في تحقيق الأفضلية، لا في الجواز.
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (7/ 414، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرة، فيقولهن ثلاثًا وثلاثين مرة، ثم يختم بالتهليل، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على حدة؟
قال أحمد في رواية محمد بن ماهان، وسأله: هل يجمع بينهما، أو يفرد؟ قال: لا يضيق. قال أبو يعلى: وظاهر هذا: أنه مخير بين الإفراد والجمع. وقال أحمد -في رواية أبي داود-: يقول هكذا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يقطعه] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح في "المبدع" (1/ 422، ط. دار الكتب العلمية): [ويفرغ من عدد ذلك معًا، قاله أحمد في رواية أبي داود للنص، وعنه: يخير بينه وبين إفراد كل جملة، واختار القاضي الإفراد] اهـ.
وقد بيّن الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 329، ط. دار المعرفة) صفة الذكر مع بيان الأولى أو الأكثر أجرًا وثوابًا؛ فقال: [وفي قوله: «منهن كلهن» الاحتمال المتقدم: هل العدد للجميع أو المجموع؟ وفي رواية ابن عجلان ظاهرها أن العدد للجميع، لكن يقول ذلك مجموعًا، وهذا اختيار أبي صالح، لكن الرواية الثابتة عن غيره الإفراد: قال عياض: وهو أَوْلى؛ ورجح بعضهم الجمع للإتيان فيه بواو العطف، والذي يظهر أن كلا من الأمرين حسن، إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر: وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك، سواء كان بأصابعه، أو بغيرها ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث] اهـ.
وقد نقل الإمام المناوي في "فيض القدير" (6/ 147، ط. المكتبة التجارية الكبرى) هذا المعنى عن الإمام ابن حجر؛ فقال: [وسئل ابن حجر هل تحصل سنة التسبيح والتكبير المسنون دبر الصلاة بذكرها مفرقة؟ فأجاب بأنه يجوز الضم بأن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويكررها كذلك، ويجوز التفريق بأن يقول: سبحان الله حتى يتم العدد، وهكذا، والأفضل التفريق؛ لزيادة العمل فيه بحركة الأصابع بالعدد] اهـ.
والتعليل الذي ذكره الحافظ لكون الإفراد أولى في الفعل من الجمع؛ بأن العمل فيه أكثر بحركة الأصابع، مبني على القاعدة المقررة: "ما كان أكثر فعلًا كان أكثر فضلًا"، ودليلها: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ قال: «انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم، فأهلي منه، ثم القينا عند كذا وكذا -قال: أظنه قال: غدًا- ولكنها على قدر نصبك، أوقال: نفقتك». انظر: "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 143، ط. دار الكتب العلمية).
أما الترتيب بين التسبيح والتحميد والتكبير فقد ذكر الحافظ ابن حجر أيضًا أن اختلاف الروايات الواردة يستفاد منه عدم لزوم الترتيب، وإن كان الترتيب فيه نكتة لطيفة تجعله ملاحَظًا؛ فقال في "فتح الباري" (2/ 328): [وهذا الاختلاف -أي بين الروايات في صفة الذكر بعد الصلاة- دال على أن لا ترتيب فيها، ويُستَأنَسُ لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات: «لا يضرك بأيهن بدأت»، لكن يمكن أن يقال: الأَوْلى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك] اهـ.
مما سبق يعلم جملةٌ من الأذكار المهمات التي جاءت بها السنة مما يقال بعد الصلاة المكتوبة، وأن التسبيح والتحميد والتكبير يمكن أن يقال جمعًا أو إفرادًا، وإن كان الإفراد أفضل، وأن الترتيب بينها غير لازم، وإن كان الإتيان بها على الترتيب المعروف هو الأفضل كذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.