ما حكم الإشغالات الموضوعة في الطريق العام؟
لا يجوز شرعًا إشغال شوارع الناس ومرافقهم وأماكن تنقلاتهم وما يترفقون به بأي نوع من الإشغالات لا يجوز شرعًا؛ لما في ذلك من الاعتداء على حق الطريق، والتضييق على عموم الناس ومجموعهم. ويُستثنى من ذلك ما كان بترخيص من السلطة المختصة؛ كالأسواق العامة التي تخصص لهَا بعض أماكن أو الأوقات، وكذا سد الطريق لحاجة الناس إليه عند صلاة الجمعة بشرط أن يُتْرَكَ جزءٌ منه للمارَّة، والضرورات تقدَّر بقدرها، والله تعالى طَيِّبٌ لا يُتَقَرَّب إليه بإيذاء عباده، والخير لا يُتَوَصَّل إليه بالشر.
المحتويات
امتنَّ الله تعالى على الإنسان بأن جعل له الأرضَ سهلةً منبسطةً واسعةَ المسالك والطرقات، وسخَّر له الانتفاع بها مع صلابة خِلْقَتها، وأمره بالمشي في أطرافها والسعي في جوانبها؛ تحصيلًا لمصالحه وأمور معاشه، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]، وقوله تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ۞ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [نوح: 19-20].
ومن جوانب العظمة والسُّمُوِّ والرقي في الإسلام: الآداب والتعاليم الراقية التي هذَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها سلوك الأفراد في مظاهر حياتهم اليومية؛ فقد جاء المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الخصال، وكان من مظاهر ذلك أن وضع قواعد وإرشادات لآداب الطريق وأماكن مرور الناس تسمو بصاحبها إلى معاني الإنسانية وعظمة الإسلام، بينتها السنة النبوية الشريفة وساق المحدِّثون أحاديثها في دواوين السنة تحت أبواب: "باب الجلوس في الطرقات"، "باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه"، "باب أفنية الدور والجلوس فيها وعلى الصعدات ويفعل في الطرق ما لا يتأذى المسلمون به"، "باب الآبار على الطرق إذا لم يتأذَّ بها"، وتطرقت أيضًا كتب الحِسبة إلى أحكام الطرق وآدابها.
روى الشيخان البخاريُّ ومسلمٌ في "صحيحيهما" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ». فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، فقال: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ». قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ».
وأخرج الإمام أحمد في "المسند" عن سهل بن معاذ الجهني، عن أبيه، قال: نزلنا على حصن سنان بأرض الروم مع عبد الله بن عبد الملك، فضيَّق الناسُ المنازلَ، وقطعوا الطريقَ، فقال معاذ رضى الله عنه: أيها الناس، إنا غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة كذا وكذا، فضيَّق الناسُ الطريقَ، فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مناديًا فنادى: «مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلًا أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلَا جِهَادَ لَهُ».
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ».
وروى ابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك" عن أبي بَرْزَة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يدخلني الجنة. قال: «انْظُرْ مَا يُؤْذِي النَّاسَ فِي طُرُقِهِمْ فَاعْزِلْهُ عَنْهُمْ».
الطرق العامة هي المسالك والشوارع والدروب المخصصة لاستعمال عامة الناس ومرورهم فيها بحرية في أي وقت، وهي من باب الأحباس على عموم الخلق، والانتفاع بها من باب الحقوق العامة أو الحقوق المشتركة.
قال الإمام ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (9/ 407، ط. دار الغرب الإسلامي): [الطريق حق لجميع المسلمين كالحبس] اهـ.
وقال الإمام النووي في "الروضة" (5/ 294، ط. المكتب الإسلامي): [بقاع الأرض إما مملوكة، وإما محبوسة على الحقوق العامة؛ كالشوارع والمساجد والمقابر والرباطات، وإما منفكة عن الحقوق العامة والخاصة، وهي الموات] اهـ.
قد بنى الفقهاء على أمر الشرع الشريف بحماية الحقوق العامة ومراعاة آداب الطرق المسْلُوكة؛ فمنعوا من أي صورة تشغل شوارع الناس ومرافقهم وأماكن تنقلاتهم أو تُخِلُّ بمقتضيات التنظيم والأمن العام وحركة المرور والصحة.
ويدخل في ذلك: إشغال الطريق العام ببناء الدكاكين والمحلات التجارية ووضع الأكشاك والتخاشيب عليه وما شابه، وغرس الأشجار وبناء المساجد في نهر الطريق، ووضع حاملات للبضائع ومظلات –تندات- وفترينات ومقاعد وصناديق وما شابه ذلك، وإلقاء القمامة والنفايات وتجميعها في تراكمات مؤذية في غير موضعها المخصص لها، وكذا المنقولات التي تترك خارج المحلات أو المصانع أو المخازن أو المنازل، والمعدات والتجهيزات لإقامة الحفلات والمناسبات والإعلانات، خاصة إذا كانت لمدد طويلة وترتب على ذلك سدها أو تعطيل حركة المرور من خلالها.
قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" (6/ 142، ط. المطبعة الأميرية): [(ومن أخرج إلى الطريق العامة كنيفًا).. قال شمس الأئمة رحمه الله: إن كان الإحداث يضر بأهل الطريق، فليس له أن يُحدث ذلك فإن كان لا يضر بأحد لسعة الطريق جاز له إحداثه فيه ما لَم يُمنع منه؛ لأن الانتفاع في الطريق بالمرور فيه من غير أن يضر بأحد جائز، فكذا ما هو مثله فيلحق به إذا احتاج إليه، وإذا أضر بالمارة لا يحل له؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»] اهـ.
وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي في "النوادر والزيادات" (11/ 49، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت): [قال ابن كنانة: ليس لأحد أن يزيد من الطرق والأفنية في المدائن والقرى في بنائه ولا أن يعمل فيها حانوتًا إلا أن يزيد شيئًا يسيرًا لا يُضِرُّ فيه بأحد، ويترك الناس من سعة الأزقة والطرق بقدر ما يمر فيه أوسع شيء يمر فيها مِمَّا تجري به منافع الناس] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (4/ 204، ط. المكتب الإسلامي) عن وضع شيء كالدكة ونحوها بالشارع العام: [وأما نصب الدكة وغرس الشجرة فإن كان يضيق الطريق ويضر بالمارة مُنع، وإلا فوجهان: أحدهما: الجواز، كالْجناح الذي لا يضر بهم. وأصحهما، وبه قطع العراقيون واختاره الإمام: المنع] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "الروض المربع" (5/ 151، بحاشية ابن قاسم، ط. دار المؤيد) في بيان أحكام الطريق العام: [ولا يجوز إخراج روشن على أطراف خشب أو نحوه مدفونة في الحائط، ولا إخراج ساباط، وهو المستوفي للطريق كله على جدارين، ولا إخراج دكة؛ بفتح الدال، وهي الدكان والمصطبة بكسر الميم، ولا إخراج ميزاب ولو لَم يضر بالمارة إلا أن يأذن إمام أو نائبه ولا ضرر؛ لأنه نائب المسلمين فجرى مجرى إذنهم] اهـ.
يستخلص من كلام الفقهاء أنه يُشترط في أي صورة من صور إشغال الطريق العام شرطان:
أولهما: ألا يترتب على ذلك حدوث ضرر بعموم الناس وبطريقهم.
وثانيهما: أن يكونَ بموافقة السلطة المختصة.
وما ذهب إليه طائفة من الفقهاء من عدم اشتراط إذن ولي الأمر في ذلك فمشروط بكون بقاء الطريق متسعةً نافذةً للمرور بعد وجود الإشغالات، فضلًا عن اختلاف واقع الطرق وأهميتها وتنظيمها في هذا العصر على اختلاف أنواعها ومقاصدها: رئيسية أو ثانوية أو محلية عن واقعها في العصور الماضية.
قال الحافظ ابن رجب في" فتح الباري" (3/ 412، ط. مكتبة الغرباء): [واختلفوا: هل يجوز ذلك بدون إذن الإمام، أم لا يجوز بدون إذنه؟ على قولين: أحدهما: أن إذنه معتبر لذلك، وهو قول الثوري ورواية عن أحمد، وحُكِيَ عن ابن مسعود وقتادة ما يدل عليه؛ لأن نفع الطريق حق مشترك بين المسلمين، فلا يجوز تخصيصه بجهة خاصة بدون إذن الإمام؛ كقسمة الأموال المشتركة بين المسلمين. والثاني: لا يعتبر إذن الإمام، وهو المحكي عن الحسن وأيوب وأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ممن جوزه، وهو رواية عن أحمد أيضًا؛ لأن الطريق إذا كان متسعًا لا يضر بالمارة بناء مسجد فيه فحق الناس في المرور فيه المحتاج إليه باقٍ لَم يتغير] اهـ.
مقتضى ذلك أن كلمة الفقهاء قد اتفقت على منع إشغال الطرق العامة إذا تسبب في إلحاق الضرر بالناس والتضييق عليهم في طرقهم، أو خالف القوانين والتعليمات التي يصدرها أولو الأمر بشأن ذلك؛ سواء وقع به ضرر أم لا؛ فعدم إذن الإمام كافٍ للمنع، وتجاوزه افتئات عليه، وتعدٍّ على حقوقه وحقوق العامة.
قال العلامة ابن عرفة المالكي في "المختصر الفقهي" (8/ 405، ط. مؤسسة الحبتور): [ما بين الدور من الرحبات والشوارع من أخذ منه شيئًا لداره وهو يضر بالمارة أو بأهل الموضع منع وهدم عليه] اهـ.
وقال الإمام الماوردي في "الأحكام السلطانية" (ص: 338، ط. مكتبة دار ابن قتيبة، الكويت): [وإذا بَنى قومٌ في طريق سابِل منع منه وإن اتسع الطريق، ويأخذهم -أي المُحتَسِب ويقوم مكانه الآن في هذا الأمر الحيّ أو البلدية- بهدم ما بَنَوه ولو كان المَبنِيّ مسجدًا؛ لأن مرافق الطرق للسُّلُوك لا للأبنية. وإذا وضع الناسُ الأمتعةَ وآلاتِ الأبنية في مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقًا لِيَنقُلُوه حالًا بعد حال مُكِّنُوا منه إن لم يَستَضِرَّ به المارّة، ومُنِعُوا منه إن استضروا به، وهكذا القول في إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه وآبار الحشوش، يُقر ما لا يضر ويمنع ما ضرَّ] اهـ.
وقال الإمام أبو يعلى الفراء الحنبلي في "الأحكام السلطانية" (ص. 306، ط. دار الكتب العلمية): [وإذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية في مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقًا لينقلوه حالًا بعد حال، مُكنوا منه، وإن لم يَستَضِرَّ به المارة، ومنعوا منه إن استضروا به. ويمنعهم -أي المُحتَسِب- من إخراج الأجنحة والساباطات، ومجاري المياه، وآبار الحشوش سواء أضر أو لم يضر، كما يمنع البناء في الطريق] اهـ.
على مراعاة هذه الحقوق التي قررها الفقهاء للطرق والشوارع جرى القانون رقم (140) لسنة 1956م بشأن إشغال الطرق والميادين العامة وتنظيمها على اختلاف أنواعها أو صفتها سواء كانت في اتجاه أفقي أو رأسي، وقد نصت المادة الثانية منه على أنه: [لا يجوز بغير ترخيص من السلطة المختصة إشغال الطريق العام في اتجاه أفقي أو رأسي وعلى الأخص بما يأتي:
1- أعمال الحفر والبناء والردم والرصف ومد الأنابيب والأسلاك فوق أو تحت سطح الأرض ووضع حجر تفتيش للمجاري أو عمل فتحات أو مزلقانات في الأرصفة وما شابه ذلك.
2- وضع أرفف وحاملات للبضائع ومظلات (تندات) وسقائف وما شابه ذلك.
3- ترك منقولات خارج المحال أو المصانع أو المخازن أو المنازل إلا لأقصر مدة تلزم للشحن أو التفريغ وبشرط عدم تعطيل المرور.
4- وضع بضائع ومهمات وفترينات ومقاعد ومناضد وصناديق وأكشاك وتخاشيب وما شابه ذلك.
5- وضع المعدات اللازمة لإقامة الحفلات أو الزينات أو الأفراح أو الموالد] اهـ.
وتفريعًا على الحكم بالحرمة نصح الفقهاء بعدم معاملة المعتدين على الطرق بالإشغالات من الباعة؛ حيث جاء في كتاب "الورع" للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه كان يقول: [هؤلاء الذين يجلسون على الطريق يبيعون ويشترون ما ينبغي لنا أن نشتري منهم] اهـ.
وقال العلامة خليل المالكي المصري في "التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب" (7/ 262، ط. مركز نجيبويه): [وعلى هذا فلا ينبغي أن يُشْتَرَى من هؤلاء الذين يغرزون الخشب في الشوارع عندنا؛ لأنهم غُصَّاب للطريق] اهـ.
بناءً عليه وفي واقعة السؤال: فلا تجوز شرعًا الإشغالات التي تُقتَطَعُ من شوارع الناس ومرافقهم وأماكن تنقلاتهم وما يترفقون به؛ لأنها اعتداء على حق الطريق، وجريمة في حق عامتهم ومجموعهم، ويُستثنى من ذلك ما كان بترخيص من السلطة المختصة، كالأسواق العامة التي تخصص لهَا بعض أيَّام الأسبوع، وكذا سد الطريق لحاجة الناس إليه عند صلاة الجمعة بشرط أن يُتْرَكَ جزءٌ منه للمارَّة، والضرورات تقدَّر بقدرها، والله تعالى طَيِّبٌ لا يُتَقَرَّب إليه بإيذاء عباده الذين هم عِياله، والخير لا يُتَوَصَّل إليه بالشر.
والله سبحانه وتعالى أعلم.