هل يجوز سداد القرض بالقيمة؟ فلي أخٌ يعمل في الكويت، أوكل إليَّ بالتصرف في بعض أموره، وله معي أموال، وقد عهد إلي بشراء قطعة أرض للمباني مشاركةً بيني وبينه، فاشتريت هذه الأرض وكتبت عقد الشراء مناصفةً بيني وبينه بقيمة قدرها ثمانية وعشرون ألف جنيه، دفعت منها ثمانية عشر ألف جنيه من ماله الخاص، وعشرة آلاف جنيه من مالي الخاص بموافقته على كون العقد مناصفة بيننا، وأصبح له في ذمتي أربعة آلاف جنيه أسددها له حين أستطيع، واليوم وبعد عشرين سنة تقريبًا من تاريخ الشراء قررتُ أن أبيعها بموافقته كذلك ولكنه أراد أن يشتري نصيبي على أساس نسبة الدفع بعد أن غلا سعرها كثيرًا، فقلت له أنت لك أربعة آلاف جنيه ولي النصف، فرفض.
فما رأي الدين؟
سداد المُقترض ما عليه للمُقرض بالقيمة هو ما نراه الأعدلَ في هذه المسألة والأقربَ إلى مقصود الشرع الشريف؛ وذلك بالنظر إلى حدوث الزيادة الكبيرة في الأسعار وانخفاض سعر العملة المعروفَين لكل متابعٍ للأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية، هذا إذا لم يتصالح الطرفان على غير ذلك، والأرض بين الطرفين الوارد ذكرهما في السؤال مناصفةً.
المحتويات
من المعروف أن أسعار السلع وقيم العُرُوض كانت تتعرض للزيادة والنقص على مدار عمر البشرية، وأن هذا التغير بالسلب أو الإيجاب كان بمُعدَّل قليل جدًّا على امتداد الزمن، بحيث لا يظهر أثر التغير في المكان الواحد إلا مع المُدَد الزمنية المتطاولة.
ومن المعروف كذلك أنه بدءًا من الحرب العالمية الأولى والثانية صارت الأسعار لا تكاد تعرف الانخفاض، ولا يتوقع لها في الأمد القريب بحسب آراء الاقتصاديين أن تنخفض، فهي إما إلى زيادةٍ فاحشةٍ أو غيرها، وإما إلى استقرار يطول أو يقصر.
النقودُ الورقية تلحق بـ"الفلوس" -التي هي نوع من النقود تتخذ من المعادن غير الذهب والفضة-، وتكون ثمنيتها بالاصطلاح والمواضعة، وتلحق أيضًا بالنقود الناقصةِ الوزنِ والغالبةِ الغشِّ.
ولا خلاف بين الفقهاء حول عدم فساد العقد إذا ما تغيرت قيمتُها؛ لقيام الاصطلاح على ثَمَنِيَّتِها، وإنما الخلاف بينهم فيما يجب دفعه: هل عدد ما وقع عليه العقد أم قيمته؟
ومن استقراء آراء الذين تعرضوا لهذه المسألة يتبين أن الآراء فيها تتلخص فيما يأتي:
الرأي الأول: يجب مثلُ ما وقع عليه العقد عددًا، وهذا هو رأي الإمام أبي حنيفة ومعه بقية المذاهب الأربعة، وجرى عليه في "جامع المُضمرات والمُشكلات" حيث قال: [اشترى بدراهم نقد البلد فلم يقبض حتى تغيرت، فإن كانت لا تروج اليوم في السوق فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتُها لم يفسد البيع وليس له إلا ذلك] اهـ، كما جرى عليه في "مجمع الأنهر" حيث قال: [ولو اشترى به أي بالذي غلب غشه وهو نافق فنقصت قيمته قبل القبض، فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع، وعكسه لو غلت قيمتها وازدادت فكذلك البيع على حاله ولا يتخير المشتري] اهـ بتصرف، كذلك جرى عليه في "الفتاوى الحامدية" حيث أجاب عن سؤال بقوله: [إذا غلت الفلوس التي وقع عقد الإجارة عليها أو رخصت فعليه رد مثل ما وقع عليه عقد الإجارة من الفلوس] اهـ. كما سُئل فيما [إذا استدان زيد من عمرو مبلغًا من المصاري المعلومة العيار على سبيل القرض ثم رخصت المصاري ولم ينقطع مثلها، وقد تصرف زيد بمصاري القرض، ويريد رد مثلها، فهل له ذلك؟ الجواب: الديون تقضى بأمثالها] اهـ. وفي "فتاوى قاضي خان" [يلزمه المثل] اهـ، وهكذا ذكر الإسبيجابي؛ قال: [ولا ينظر إلى القيمة] اهـ.
الرأي الثاني: يَجب قيمة الفلوس في تاريخ التعاقد، وهذا هو رأي أبي يوسف، ففي "البزازية" مَعزوًّا إلى "المنتقى": [غلت الفلوسُ أو رخصت فعند الإمام الأول أبي حنيفة والثاني أبي يوسف أوَّلًا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانيًا: عليه قيمتُها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى] اهـ. وقوله: (يوم البيع) أي: في صورة البيع، وقوله: (يوم القبض) أي: في صورة القرض. وجرى على هذا ابن عابدين وشيخه؛ حيث صرَّحا بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يُعَوَّل عليه إفتاءً وقضاءً؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامِهما ومُقَلَّدِهما، يقول ابن عابدين في رسالته "تنبيه الرقود في مسائل النقود" روايةً عن شيخه العلامة الغَزِّي: [وقد تتبعتُ كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة فلم أرَ مَن جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، بل قالوا به كان يفتي القاضي الإمام، وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فليكن المعول عليه] اهـ. وفي "رسالته" هذه أيضًا يتكلم عن المُفتى به والمُعوَّلِ عليه من القيمة: [وعند الثاني -يقصد أبا يوسف- قيمتها يوم القبض، وعند الثالث -يقصد محمد بن الحسن- قيمتها في آخر يوم رواجها وعليه الفتوى] اهـ بتصرف.
وخلاصة هذا الرأي المعول عليه: هو وجوب قيمة الفلوس لا عددها، وهو رأي صاحبَي أبي حنيفة وبعض المالكية.
الرأي الثالث: للرهوني من المالكية: أنه تجب القيمة إذا كان التغير فاحشًا، ومعيار ذلك الزيادة على الثلث؛ لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «والثلثُ كثيرٌ» رواه البخاري.
الذي يَتَرجح لنا: التفصيل بين التعاملات من ناحية، وبين قدر الزيادة من ناحية أخرى: فإعمال رأي الجمهور بوجوب المثل وعدم الزيادة ينبغي المصيرُ إليه إن كانت الزيادة قليلة ولم تكن ثَمَّ مماطلة من الذي عليه الحق: من مَدِين ومشترٍ ومستأجر وغيرهم، وكذلك إن كانت الزيادة كبيرة ولكن صاحب الحق كان كأنه ارتضى ذلك ضمنًا؛ بأن كان دَينُه طويل الأجل مثلًا، ويشمل ذلك الزوجة في مؤخر صداقها، حيث إنها ترتضي مبلغًا مَهمَا كان قدره، إلا أنه مِن المسلَّم به أن قيمته تنخفض انخفاضًا ملحوظًا عند زمن الاستحقاق، وهو موت أحد الزوجين أو الطلاق أيهما أقرب، فكأن الزوجة رَضِيَت بهذا الانخفاض عندما وافقت على جعل جزء من المهر مؤخرًا بأجَلٍ قد يكون هو الموت، وذلك يكون إعمالًا للأصل، وهو أن المسلمين عند شروطهم، وأن هذا يدخل في إطار رضا صاحب الحق، حيث إنه يَفتَرِض حدوثَ تغيُّر طفيف في الأسعار مقبول عنده، أو تغير كبير واقع تحت رضاه واختياره، فيكون قد تصرف في حق نفسه، ولا ظلم إن تصرف الشخص في حق نفسه؛ إنما يكون الظلم عندما يتصرف في حق غيره بغير إذن ولا موجِب.
وأما إن كان التغير كبيرًا، أو لم يكن كذلك ولكن وُجِدَت المماطلة ممن عليه الحق فإن العدل والإنصاف يدفعان إلى القول بالسداد بالقيمة على رأي أبي يوسف ومن وافقه من المالكية، وهنا يكون العدولُ عن الأصل سببُه عدمُ استبطانِ رضا صاحب الحق بالزيادة غير المعتادة الطارئة في حال كان التغير فوق المعتاد، ولا رضاه بمماطلة مَن عليه الحق في حال تسويفه به.
وفي هذا ما يكفي في رأينا في هذه العجالة، ومَن أراد المزيد فعليه الرجوع إلى قسم القضايا الصادر والمنشور عن دار الإفتاء المصرية لبسط المسألة والتعرض لأدلة كل فريق ووجه الدلالة والرد على المخالف والجمع بين الأقوال والترجيح بينها.
عليه وفي واقعة السؤال: ومع حدوث هذه الزيادة الكبيرة في الأسعار وانخفاض سعر العملة المعروفَين لكل معاصرٍ ومتابعٍ للأوضاع الاقتصادية المحلية والعالمية فإن القول بسداد المقترض -السائل- ما عليه للمقرض -أخيه- بالقيمة هو ما نراه الأعدل في المسألة والأقرب إلى مقصود الشرع الشريف، هذا كله إذا لم يتصالحا على غير ذلك مما يرتضيانه، والأرض بينهما مناصفةً كما هو معروض في السؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.