كيفية التخلص من المال الحرام

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 24 يوليه 2017
  • رقم الفتوى: 4059

السؤال

ما حكم وكيفية التخلص من المال الحرام؛ حيث إنَّ شخصًا قد كسب مالًا كثيرًا من الحرام ويريد التوبة منه. فهل يجوز له أن يتصدق به، وهل إذا فعل ذلك يكون له أجر عليه؟

الواجب على من اكتسب المال الحرام بطريق غير مشروع أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يردّ هذا المال إلى صاحبه أو إلى ورثته إن كان متعلقًا بحق أحد من الناس، فإن تعذر ردّه إلى صاحبه أو إلى ورثته فعليه أن يتصدق به على الفقراء والمساكين أو يدفعه في مصالح المسلمين العامة، ويكون بنية حصول الثواب لصاحب المال الأصلي وسقوط الإثم عن التائب، وله أن يسلمه لبيت مال المسلمين ويمثله الآن في مصر (بنك ناصر الاجتماعي).

المحتويات

 

بيان مفهوم التوبة

التوبة في اللغة: العود والرجوع والندم، يقال: تاب فلان، إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه وندم عليه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» أخرجه ابن ماجة في "سننه".

ويصح أن تسند التوبة إلى الله عز وجل كما تسند إلى العبد، إلا أن معناها يتغير، فإذا أسندت التوبة إلى العبد كان المراد بها رجوعه عن الذنوب والمعاصي وندمه عليها؛ يقال: تاب إلى الله توبة ومتابًا أي: أناب ورجع عن المعصية، أما إذا أسندت إلى الله تعالى فيستعمل معها لفظ "على" ويكون المراد بها رُجوعُ لُطف الله تعالى ونعمته على العبد وتفضُّلهُ عزَّ وجلَّ عليه بالمغفرة، يقال: تاب الله عليه؛ أي: غفر له الذنوب والمعاصي.

حكم التوبة من الذنوب والمعاصي

تجب التوبة من المعصية على الفور باتفاق الفقهاء؛ قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 238، ط. دار الكتب المصرية) عند تفسيره لقول الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]: [قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا﴾ أمر. ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين، والمعنى: وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال] اهـ.
وقد تفضل الله تعالى على عباده ووعدهم بأنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فمتى تاب العاصي من معصيته واستغفر الله لذنبه قبل الله توبته وغفر له؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]، وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، كما روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

فالتوبة هي أولى ما ينبغي على المسلم أن يحرص عليه؛ ليخرج من الدنيا سليمًا معافًى آملًا وراجيًا من الله عز وجل أن يتفضل عليه ويدخله الجنة، والتوبة النصوح هي التي يتحقق فيها: الاستغفار باللسان، ومجانبة خلطاء السوء، والندم بالقلب مع إضمار التائب ألَّا يعود إلى المعصية أبدًا.

والتوبة إما أن تكون بين العبد وربه فحسب فلا يجب بها حقٌّ لأحد؛ كالكذب، أو شرب مسكر، فالتوبة من مثل هذه الذنوب تكون بالندم، والعزم على عدم العودة إليها، ويقال عنها: توبة باطنة أي غير ظاهرة، وإما أن تتوقف صحة التوبة وقبولها على رد الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى؛ كمنع الزكاة، أو لآدمي؛ كالسرقة والغصب، فالتوبة من مثل هذه الأمور يُشترط فيها رفع المظلمة ورد الحقوق بحسب إمكانه؛ فيؤدي الزكاة ويرد المسروق أو المغصوب، فإذا هلك عين الحق وجب أن يردّ مثله إن كان مثليًّا وإلا فقيمته، وإن عجز عن الرد نوى أن يقوم به متى قدر عليه؛ قال العلامة الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (17/ 25، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزمًا جازمًا أن لا يعود إلى مثلها أبدًا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع، وهو: رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه، والتوبة أهم قواعد الإسلام، وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة] اهـ. وتسمى التوبة التي تعلق بها حق آدمي توبة حكمية؛ أي: إنها تعلق بها حكم برد المظالم إلى أصحابها، أو تحصيل العفو منهم عما لهم من الحقوق.

حكم وكيفية التخلص من المال الحرام

لا خلاف بين أحد من المسلمين في أن الكسب من طريق غير مشروع ذنب تجب التوبة منه؛ فقد أمر الإسلام أتباعه بالكسب الحلال، وأن تكون سبل كسب المال مشروعة وجائزة؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 168]، ونهاهم عن أكل أموال الناس بالباطل؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، وقد جاء فيما رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا».
وعلى هذا فمن أخذ مالًا بغير وجه حق وجب عليه رده إلى أهله إذا علمهم وكانوا أحياء أو إلى ورثتهم إن كانوا موتى، فإن لم يعرفهم فإلى بيت المال فهو وارث من لا وارث له، ويمثله الآن في مصر بنك ناصر الاجتماعي؛ قال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 398، ط. مؤسسة الرسالة): [والواجب في المال الحرام التوبة، وإخراجه على الفور، يدفعه إلى صاحبه أو وارثه، فإن لم يعرفه أو عجز دفعه إلى الحاكم] اهـ.

وقد تكلم الفقهاء في كيفية التصرف في المال المكتسب من طريق غير مشروع؛ فيرى جمهور فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، أنه لا يجوز إتلاف هذا المال بأي نوع من أنواع الإتلاف، بل يجب رده لأهله، فإن لم يعلم أهله أو عجز عن رده كان عليه أن يصرفه في مصارفه الشرعية كأن يتصدق به على الفقراء، أو أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة كالقناطر وغيرها، وأجازوا له أن يأكل منه إن كان فقيرًا، وكذلك أن يعطيه لمن كان فقيرًا من أهله؛ فالأقربون أولى به من غيرهم؛ قال العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار" (ص: 356، ط. دار الكتب العلمية): [(عليه ديون ومظالم جهل أربابها، وأيس) من عليه ذلك (من معرفتهم فعليه التصدق بقدرها من ماله وإن استغرقت جميع ماله)، هذا مذهب أصحابنا لا نعلم بينهم خلافًا] اهـ.
وقال الإمام القرطبي المالكي في "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 366-367، ط. دار الكتب المصرية بالقاهرة): [قال علماؤنا: (إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرًا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه. فإن التبس عليه الأمر ولم يدرِ كم الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب عليه رده، حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عرف ممن ظلمه أو أربى عليه. فإن أيس من وجوده تصدق به عنه. فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبدًا لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس وهو ما يستر العورة وهو من سرته إلى ركبتيه، وقوت يومه، لأنه الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إذا اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه] اهـ.
وقال العلامة النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (9/ 351، ط. دار الفكر): [قال الغزالي: (إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه؛ فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة؛ كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء، وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفًا، فإن لم يكن عفيفًا لم يجز التسليم إليه؛ فإن سلمه إليه صار المُسَلِّمُ ضامنًا، بل ينبغي أن يُحَكِّمَ رجلًا من أهل البلد دَيِّنًا عالمًا فإن التحكم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه؛ فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حرامًا على الفقير، بل يكون حلالًا طيبًا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم بل هم أولى من يتصدق عليه وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضًا فقير). وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب وهو كما قالوه ونقله الغزالي أيضًا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين. والله سبحانه وتعالى أعلم] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح في "المبدع في شرح المقنع" (5/ 48، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن بقيت في يده غصوب لا يعرف أربابها) فسلمها إلى حاكم برئ من عهدتها ويلزمه قبولها، وله أن (يتصدق بها عنهم) على الأصح، (بشرط الضمان كاللقطة)؛ لأنه عاجز عن ردها إلى مالكها، فإذا تصدق بها عنهم كان ثوابها لأربابها، فيسقط عنه إثم غصبها، ففي ذلك جمع بين مصلحته ومصلحة المالك، لكن بشرط الضمان؛ لأن الصدقة بدون ما ذكر إضاعة لمال المالك، لا على وجه بدل، وهو غير جائز] اهـ.
وقد استدلوا بأنه لما لم يجز إتلاف هذا المال ورميه في البحر لم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، واستدلوا كذلك بأحاديث كثيرة منها:
ما رواه أبو داود عن عاصم بن كليب عن رجل من الأنصار قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي جَنَازَةٍ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ عَلَى الْقَبْرِ يُوصِي الْحَافِرَ: «أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ»، فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ فَأَكَلُوا فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا». فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يُشْتَرَى لِي شَاةٌ فَلَمْ أَجِدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَطْعِمِيهِ الْأُسَارَى»، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإهدار اللحم المشوي المسروق وإنما وجَّه إلى الانتفاع بهذا، ومن ثم يجوز الانتفاع بالمال المكتسب من حرام بإنفاقه في المصالح العامة مثلًا، ولا يحل لمن اكتسب المال من طريق غير مشروع أن ينتفع به.
ومنها أيضًا ما رواه البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها ليعطيه ثمنها، فطلبه كثيرًا فلم يظفر به، فتصدق بثمنها، وقال: "اللهم هذا عنه إن رضي، وإلا فالأجر لي".

ما نسب إلى الإمام الشافعي والفضيل بن عياض في ذلك

في المسألة قولان آخران يُنسب أحدهما إلى الإمام الشافعي وهو قوله بأن المال المكتسب من حرام وإن جُهل صاحبه يُحتفظ به ولا يُتصرف فيه بأي حال من الأحوال حتى يُتوصل إليه؛ قال الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (4/ 209، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة: في الأموال التي يُجهل مستحقها مطلقًا أو مبهمًا فإن هذه عامة النفع؛ لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير، إما لكونها قُبضت ظلمًا: كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة والغلول، وإما لكونها قبضت، بعقد فاسد من ربا أو ميسر، ولا يُعلم عين المستحق لها، وقد يُعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يُعلم عينه؛ كالميراث الذي يُعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقرُّ بها ذو اليد لأحدهما. فمذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، ومالك، وعامة السلف: إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقًا ولا تنفق بحال] اهـ.
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 268، ط. مؤسسة الرسالة): [والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تُحفظ، ولا يُتصدق بها حتى يظهر مستحقها] اهـ.

ويُنسب الآخر إلى الفضيل بن عياض حيث إنه يرى أنه لا يصح إنفاقه ولو في وجوه الخير، بل يجب إتلافه؛ قال العلامة ابن رجب الحنبلي في المرجع السابق نفسه: [وكان الفضيل بن عياض يرى أنَّ مَن عنده مال حرام لا يعرف أربابه، أنه يُتلفه، ويلقيه في البحر، ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب] اهـ.

وهذان القولان (الذي نَسَب ابن تيمية وابن رجب الحنبلي الأولَ منهما للإمام الشافعي، ونَسَب ابن رجب الثاني للفضيل بن عياض) قد استدل أصحابهما بما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ». وغيره من النصوص التي تدل دلالة قاطعة على أن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، فلا يقبل من الصدقة إلا ما كان مالًا حلالًا مكتسبًا بطريق مشروع، وهذا يعني أن منفق المال الحرام في أي وجه من وجوه البر لا ثواب له فيما أنفق.
ويجاب على من قال بوجوب الاحتفاظ بالمال المكتسب من الحرام مع جهالة صاحبه وعدم جواز التصرف فيه ولو بالتصدق ونحوه، وكذلك من قال بإتلافه، بما ذكره الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (2/ 131، ط. دار المعرفة)؛ حيث قال: [وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع، وقول القائل: لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك، ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه، وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع، وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل، وإذا حل فقد رضينا له الحلال، ونقول إن له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا، أما عياله وأهله فلا يخفى؛ لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله، بل هم أولى من يتصدق عليهم، وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضًا فقير، ولو تصدق به على فقير لجاز، وكذا إذا كان هو الفقير] اهـ، وبما قاله العلامة ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" (1/ 268-269، ط. مؤسسة الرسالة): [والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدًا تعريض له للإتلاف، واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربًا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه، ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فإن السبيل إلى التخلص من المال الحرام المكتسب من طريق غير مشروع هو التوبة منه ورده إلى صاحبه أو إلى ورثته، أما إذا لم يعلم صاحب المال ولا ورثته أو عجز عن رده، فإنه يتصدق به ويصرفه في مصالح المسلمين العامة بقصد حصول الثواب لصاحبه وسقوط الإثم عنه، فإذا فعل ذلك لم يكن الأجر له، وإنما يكون لصاحب المال الأصلي، وله أن يسلمه لبيت مال المسلمين (بنك ناصر الاجتماعي) تبرعًا وينوي عن صاحبه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة