ما رأيكم فيما يفعله بعض الوهابيين من رمي الأشاعرة بالخروج عن أهل السنة والجماعة؟
مثل هذا الكلام لا يُعَوَّل عليه ولا يُلتَفت إليه؛ فلا يزال السادة الأشاعرة هم جمهور العلماء من الأمة، وهم الذين صَدُّوا الشبهات أمام المَلَاحِدَةِ وغيرهم، وهم الذين التزموا بكتاب الله وسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبر التاريخ، ومَنْ كفَّرهم أو فسَّقهم أو شكَّك في عقيدتهم فإنه يُخْشَى عليه في دينه.
إن رمي الأشاعرة بأنهم خارجون عن دائرة أهل السنة والجماعة غلط عظيم وباطل جسيم؛ لما فيه من الطعن في العقائد الإسلامية المرضية والتضليل لجمهرة علماء الأمة عبر العصور، وهم الذين حفظ الله تعالى بهم هذا الدين.
وقد سئل الإمام ابن رشد الجد المالكي عن حكم منتقص السادة الأشاعرة في "فتاواه" (2/ 802، ط. دار الغرب الإسلامي)، وهذا نص السؤال والجواب:
[ما يقول الفقيه الأَجَلُّ أبو الوليد -وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه- في أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر بن فورَك، وأبي المعالي، ونظرائهم ممن ينتحل علم الكلام، ويتكلم في أصول الديانات، ويصنف للرد على أهل الأهواء؟ أَهُمْ أئمةُ رشادٍ وهداية؟ أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم، وينتقصونهم، ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية، ويكفرونهم، ويتبرؤون منهم، وينحرفون بالولاية عنهم، ويعتقدون أنهم على ضلالة وخائضون في جهالة؟ فماذا يقال لهم، ويُصْنَع بهم، ويُعْتَقَد فيهم؟ أيُتْرَكون على أهوائهم أم يُكَفُّ عن غلوائهم؟
فأجاب رحمه الله: تصفحت -عصمنا الله وإياك- سؤالك هذا، ووقفت على الذين سميتَ من العلماء، فهؤلاء أئمة خير وهدًى، وممن يجب بهم الاقتداء؛ لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شُبَه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يُدان به من المعتقدات، فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماءُ على الحقيقة؛ لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينتفي عنه؛ إذ لا تُعْلَم الفروع إلا بعد معرفة الأصول، فمن الواجب أن يُعْتَرَفَ بفضائلهم، ويُقَرَّ لهم بسوابقهم؛ فهم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ».
فلا يَعتَقِد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق، وقد قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58].
فيجب أن يُبَصَّرَ الجاهلُ منهم، ويُؤَدَّبَ الفاسقُ، ويُسْتَتابَ المبتدعُ الزائغ عن الحق إذا كان مستسهلًا ببدعة، فإن تاب وإلا ضُرِب أبدًا حتى يتوب؛ كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصَبِيغ المتهم في اعتقاده مِنْ ضَرْبه إياه حتى قال: "يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز عليَّ"، فخَلَّى سبيله، واللهَ أسأل العصمة والتوفيق برحمته. قاله محمد بن رشد] اهـ.
وسئل الإمام ابن حجر الهيتمي بما لفظه: ["طَعَن بعض الناس في أبي الحسن وأبي إسحاق الأشعريين والباقلاني وابن فُورَك وأبي المعالي إمام الحرمين والباجي وغيرهم ممن تكلم في الأصول ورد على أهل الأهواء، بل ربما بالغ بعض الملحدة فادعى كفرهم، فهل هؤلاء كما قال ذلك الطاعن أو لا؟
فأجاب بقوله: "ليسوا كما قال ذلك الخارق المارق المجازف الضال الغال الجاهل المائل، بل هم أئمة الدين وفحول علماء المسلمين، فيجب الاقتداء بهم لقيامهم بنصرة الشريعة، وإيضاح المشكلات، ورد شُبَه أهل الزيغ، وما يجب من الاعتقادات والديانات؛ لعلمهم بالله وما يجب له، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، ولا يعرف الوصول إلا بعد معرفة الأصول.
ومن ثَمَّ فَضَّلَ أقوامٌ علومَ القرآن والحديث وقدموها على حفظ المسائل الفقهية، حتى أدى ذلك بعض ملوكهم إلى أن توعد الفقهاء وأخافهم، وبعضهم حبس الناس على اشتغالهم بالمدونة وأحرقها، حتى اجتمع القاضي ابن زرقون في حضرة بعض أمرائهم فقال: هل بقي أحد ممن ينتحل هذا المذهب؟ فقال بعض الظاهرية: لم يبقَ منهم إلا القليل. فقال: إنهم يحكمون في دين الله بغير دليل؛ يقولون في المصلي بنجاسة يعيد في الوقت؛ لأن النجاسة إن كان غسلها واجبًا أعاد أبدًا، وإلا فلا إعادة عليه، فالإعادة في الوقت ما قام عليها دليل. فأجابه ابن زرقون فقال له: الأصل في ذلك حديث الأعرابي المشهور وقوله: «ارجع فصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ» ولم يأتِ في طرف الحديث أنه أمره بإعادة ما مضى، فاستكان عند ذلك الأمير، وقال: "دعوا الناس على مذاهبهم". والواجب الاعتراف بفضل أولئك الأئمة المذكورين في السؤال وسابقيهم، وأنهم من جملة المرادين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» فلا يعتقد ضلالتهم إلا أحمق جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق، ولا يسبهم إلا فاسق، فينبغي تبصير الجاهل وتأديب الفاسق واستتابة المبتدع، وإلا فقال بعض أئمة المالكية: يضرب إلى أن يموت كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه بصبيغ المشهور المتهم، وورد أنه لما أكثر ضربه قال له: إن كنت تريد دوائي فقد بلغ موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فعجل عليَّ، فخلى سبيلَه] اهـ. "الفتاوى الحديثية" (ص145-146، ط. دار الفكر).
والله سبحانه وتعالى أعلم.