ما حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟ وهل تسقط الجمعة إذا جاء العيد يوم الجمعة ويُكتفى بصلاة العيد عنها؟ وهل تجوز صلاة الجمعة ظهرًا لمن صلى العيد في جماعة؟ وما قولكم في سقوط الظهر أيضًا إذا جاء العيد يوم جمعة اكتفاءً بصلاة العيد؟
إذا جاء العيد يوم جمعة؛ فالأصل صلاة العيد في وقتها ثم صلاة الجمعة في وقتها إلا في حقِّ أصحاب الأعذار، وأما مَن لم يكن كذلك وقد حضر صلاة العيد؛ فالأصل في حقِّه أن يُصَلِّيهما: خروجًا من خلاف الجمهور القائلين بعدم سقوط الجمعة بصلاة العيد؛ فالخروج من الخلاف مستحب، ومن أراد أن يترخص بترك الجمعة إذا صلى العيد في جماعة؛ فإنه يُصلِّي الجمعة ظهرًا؛ تقليدًا لمذهب الحنابلة، ولما تقرر أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، مع مراعاة أدب الخلاف؛ فلا يلوم هذا على ذاك ولا العكس، ومن دون إثارةِ فتنةٍ في أمرٍ وسع الخلافُ فيه سلفنا الصالح من العلماء والفقهاء المعتبرين.
أما القول بسقوط الجمعة والظهر معًا بصلاة العيد فهو قول لا يؤخذ به.
المحتويات
صلاة الجمعة شعيرة من أهم شعائر الدِّين، وهي فرضٌ لا يسع مَن وجبت في حقِّه تركها أو التخلف عنها إلا لعذر شرعي؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9].
وأخرج الدارقطني في "سننه" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللهُ عَنْهُ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ».
مَن تخلَّف عنها لغير عذر كان آثمًا؛ لما سبق من الأدلة، ولما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ».
ويجب على المسلم أن يبادر بالحضور لصلاة الجمعة بعد سماع النداء؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (30/ 542، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ﴾ يعني: النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة.. لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نداء إلا إذا جلس النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر] اهـ.
قد أجمعت الأُمة على وجوبها على الذكور الأحرار البالغين المقيمين، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء.
قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 40، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أن الجمعة واجبة على الأحرار البالغين المقيمين الذي لا عذر لهم] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 56، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمع علماء الأمة أن الجمعة فريضة على كل حر بالغ ذكر يُدركه زوالُ الشمس في مصر من الأمصار، وهو من أهل المصر غير مسافر] اهـ.
صلاة عيدي الفِطْر والأضحى شُرِعتَ إظهارًا للسُّرور بما تَمَّ قَبلَهُما مِن عِبادَتَي الصوم والحج، وجَمْعًا للمسلمين في هذين اليومين على الفَرَح بِهاتَين العِبادَتَين؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا؛ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» رواه الإمام أحمد في "المسند"، والحاكم في "المستدرك"، وصَحَّحه.
فالعيد يومٌ للسرور، كما أنَّه يوم الشكر؛ قال تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَﱠ﴾ [البقرة: 185].
أجمع الفقهاء على أنَّ صلاة العيد مشروعة؛ قال إمام الحرمين في "نهاية المطلب" (2/ 611، ط. دار المنهاج): [الأصل فيها الكتاب، والسُّنة، والإجماع.. ونقلُ صلاةِ العيد متواترٌ، والإجماعُ من الكافة منعقدٌ] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 272، ط. مكتبة القاهرة): [الأصلُ في صلاة العيد الكتاب والسُّنَّة والإجماع.. وأجمَع المسلمون على صلاة العيدين] اهـ.
قد اختلف الفقهاء في اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد، وذلك على أربعة أقوال باعتبار أحوال المصلي:
الأول: أن صلاة الجمعة تجب ولا تسقط بصلاة العيد أو إحداهما بالأخرى إلَّا في حال وجود عذرٍ شرعيٍّ كمرضٍ أو سفرٍ أو نحو ذلك، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، ووافقهم الشافعية في حق أهل المدن والحضر، وفي وجه عندهم في حق أهل القرى والمناطق البعيدة أيضًا.
قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 166، ط. دار الفكر): [مذهبنا: فلزوم كل منهما. قال في "الهداية" ناقلًا عن "الجامع الصغير": عيدان اجتمعا في يوم واحد؛ فالأول سنة، والثاني فريضة، ولا يُترك واحدٌ منهما] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" (1/ 335، ط. دار ابن حزم): [مسألة: إذا اتفق عيدٌ وجمعةٌ لم يسقط أحدهما بالآخر، خلافًا لأحمد بن حنبل.. ولأن شرائطها موجودة فلزمت إقامتها، أصله إذا لم يكن عيدٌ، ولأن صلاة العيد سنة لم تسقط فرض كصلاة الكسوف، ولأن الجمعة آكد؛ لأنها فرضٌ، فإذا كانت لا تسقط الأضعف كان الأضعف بأن لا يُسقط الآكدَ أولى] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (4/ 491، ط. دار الفكر): [قال الشافعي والأصحاب: إذا اتفق يوم جمعة يوم عيد وحضر أهل القرى الذين تلزمهم الجمعة لبلوغ نداء البلد فصلوا العيد لم تسقط الجمعة بلا خلاف عن أهل البلد، وفي أهل القرى وجهان: الصحيح المنصوص للشافعي في "الأم" والقديم أنها تسقط. (والثاني): لا تسقط] اهـ.
والثاني: تسقط الجمعة عمَّن حضر صلاة العيد وجاء من أماكن لا تقام فيها الجُمْعة كالبوادي والنجوع البعيدة عن المدن والقرى فقط دون غيرهم، وبشرط أن تُصلَّى ظهرًا، وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه، والإمام مالك في رواية، والمذهب عند الشافعية.
قال الإمام القرافي في "الذخيرة" (2/ 355، ط. دار الغرب الإسلامي): [أما الخارج عن المصر ففي "الكتاب" لا يتخلفون، وروي عنه يتخلفون؛ لإذن عثمان رضي الله عنه لأهل العوالي، ولما في انتظارهم رجوعهم من المشقة] اهـ.
وقال الإمام المازري في "شرح التلقين" (1/ 1035- 1036، ط. دار الغرب الإسلامي) في "كون صلاة العيد عذرًا في التخلف عن الجمعة": [اختلف المذهب فيه على الجملة. قال ابن حبيب: قد جاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرْخص في التخلف عن الجمعة لمَن شهد صلاة الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة؛ لما في رجوعهم من المشقة على ما بهم من شغل العيد، وقد فعله عثمان بإذنه لأهل العوالي ألَّا يرجعوا إليها، وروى مطرف وابن الماجشون نحوه عن مالك.. وهذا الذي حكاه ابن حبيب من الاختلاف إنما هو فيمن كان خارجًا عن المدينة.. وروى ابن الماجشون ومطرف عن عبد الملك أن الجمعة تسقط عنهم، وروى هذا ابن وهب أيضًا عن مالك. قال ابن شعبان: وفيه حديث مرفوع وقال به جماعة من أهل العلم] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 274، ط. دار المعرفة): [وإذا كان يومُ الفطر يومَ الجمعة صلى الإمامُ العيدَ حين تحل الصلاة ثم أَذِن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاءوا إلى أهليهم، ولا يعودون إلى الجمعة، والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا أو يعودوا بعد انصرافهم إن قدروا حتى يجمعوا، وإن لم يفعلوا فلا حرج إن شاء الله تعالى] اهـ.
وقال الإمام الشيرازي في "المهذب" (1/ 206): [وإن اتفق يوم عيد ويوم جمعة فحضر أهل السواد فصلوا العيد فجاز أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة؛ لما روي أن عثمان رضي الله عنه قال في خطبته: "أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف" ولم ينكر عليه أحد؛ ولأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيأوا بالعيد فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة والجمعة تسقط بالمشقة.. ومن لا جمعة عليه مخيرٌ بين الظهر والجمعة فإن صلى الجمعة أجزأه عن الظهر؛ لأن الجمعة إنما سقطت عنه لعذرٍ] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (2/ 79، ط. المكتب الإسلامي): [إذا وافق يوم العيد يوم جمعة، وحضر أهل القرى الذين يبلغهم النداء لصلاة العيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا لفاتتهم الجمعة، فلهم أن ينصرفوا، ويتركوا الجمعة في هذا اليوم على الصحيح المنصوص في القديم والجديد. وعلى الشاذ: عليهم الصبر للجمعة] اهـ.
والثالث: يسقط حضور الجمعة عمَّن صلَّى العيد، بشرط أن تُصَلَّى ظهرًا، وهو مذهب الحنابلة.
قال المجد ابن تيمية في "المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (1/ 159): [إذا اجتمع عيدٌ وجمعةٌ سقطت الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام. وعنه: تسقط عنه أيضًا، وحضورها أولى، وكذلك يسقط العيد بالجمعة إذا قدمت عليه] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 43، ط. دار الكتب العلمية): [(وإذا وقع عيد يوم جمعة فصلوا العيد والظهر جاز) ذلك (وسقطت الجمعة عمن حضر العيد) مع الإمام.. وحينئذٍ: فتسقط الجمعة (إسقاط حضورٍ، لا) إسقاط (وجوب) فيكون حكمه (كمريضٍ ونحوه) ممن له عذرٌ أو شغلٌ يُبيح ترك الجمعة] اهـ.
والرابع: تسقط الظهر والجمعة معًا، وهو قول عطاء، وهو محمولٌ على تداخل الصلاتين معًا بناء على جواز تقديم وقت الجمعة.
قال القفال الشاشي في "حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء" (2/ 226، ط. مؤسسة الرسالة): [قال عطاء: يسقط الظهر والجمعة جميعًا في هذا اليوم بفعل صلاة العيد] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (4/ 492): [قال عطاء بن أبي رباح: إذا صلوا العيد لم تجب بعده في هذا اليوم صلاة الجمعة ولا الظهر ولا غيرهما إلا العصر لا على أهل القرى ولا أهل البلد] اهـ.
ودليله ما رواه أبو داود في "السنن" عنه أنه قال: "صلى بنا ابن الزبير رضي الله عنهما في يوم عيدٍ في يوم جمعةٍ أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصَلَّينا وُحْدَانًا، وكان ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: "أصاب السنة".
هذا لا يصلح دليلًا لتطرق الاحتمال إليه، وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، فإنه لا يدل على أنه لم يصلِّ الظهر في منزله، بل في قول عطاء أنهم صلوا وحدانا -أي الظهر- ما يُشعر بأنه لا قائل بسقوط الظهر حينئذٍ.
وقد ناقش الصنعاني هذا القول؛ فقال في "سبل السلام" (1/ 409، ط. دار الحديث): [(قلت): ولا يخفى أن عطاء أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة، وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يُصلِّ الظهر في منزله، فالجزم بأن مذهب ابن الزبير سقوط صلاة الظهر في يوم الجمعة يكون عيدًا على مَن صلى صلاة العيد لهذه الرواية غير صحيح؛ لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله؛ بل في قول عطاء إنهم صلوا وحدانا -أي: الظهر- ما يُشعر بأنه لا قائل بسقوطه، ولا يقال: إن مراده صلوا الجمعة وحدانا فإنها لا تصح إلا جماعة إجماعًا، ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة والظهر بدل عنها قول مرجوح، بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء، والجمعة متأخر فرضها، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعًا فهي البدل عنه] اهـ.
كما أنه محمولٌ على تداخل صلاة العيد مع صلاة الجمعة بناءً على قول من جَوَّز صلاة الجمعة في وقت العيد، وهذا مروي عن الإمام أحمد، بل وعن عطاء نفسه حيث نقل عنه قوله: "كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة والأضحى والفطر".
وهذا التوجيه تؤكده رواية وهب بن كَيْسان عند النسائي حين قال: "اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخَّرَ الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى"، ولم يصلِّ للناس يوم الجمعة؛ إذ من المعلوم أن خطبة الجمعة تكون قبلها وخطبة صلاة العيد بعدها لا قبلها، ولذلك قال أبو البركات ابن تيمية في "المنتقى" (ص: 307، ط. دار ابن الجوزي): [إنما وجه هذا أنه رأى تقدمة الجمعة قبل الزوال فقدمها واجتزأ بها عن العيد] اهـ.
وقال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (1/ 246، ط. المطبعة العلمية): [أما صنيع ابن الزبير فإنه لا يجوز عندي أن يحمل إلَّا على مذهب من يرى تقديم صلاة الجمعة قبل الزوال. وقد روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. وروي عَن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال: "أصاب السُّنَّة". وقال عطاء: "كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر".
وحكى ابن إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل أنه قيل له الجمعة قبل الزوال أو بعده قال: "إن صليت قبل الزوال فلا أعيبه"، وكذلك قال إسحاق؛ فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير رضي الله عنهما صلى الركعتين على أنهما جمعة وجعل العيد في معنى التبع لها] اهـ.
الأصل في عدم سقوط الجمعة بالعيد أو إحداهما بالأخرى العموم الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ﴾ [الجمعة: 9]؛ فلم يُستثنى من هذا الحكم لا يوم عيد ولا غيره من الأيام.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 347، ط. دار البشائر الإسلامية): [ولم يخصص يوم عيد من غيره] اهـ.
أصل الخلاف في حكم صلاة الجمعة إذا اجتمعت مع العيد؛ الاختلاف في تصحيح الأحاديث والآثار الواردة في ذلك من جهة، وفيما تدل عليه من جهة أخرى.
فمن ذلك: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم رضي الله عنهم: أشهدتَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: كيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة فقال: «من شاء أن يصلي فليصلِّ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنَّا مجمِّعون» رواه أبو داود وابن ماجه في "السنن" والحاكم في "المستدرك".
فمن العلماء مَن ذهب إلى أن أداء صلاة العيد لا يُرخِّص في سقوط الجمعة؛ مستدلين بأن دليل وجوب الجمعة عام لكل أيامها، وأن كلًّا منهما شعيرة قائمة بنفسها لا تجزئ عن الأخرى، وأن ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار لا يقوى على تخصيصها لما في أسانيدها من مقال؛ وهذا مذهب الجمهور كما سبق.
كما أن هذه الآثار محمولة على وجهين كما ورد في كلام الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 271، ط. أوقاف المغرب): [أمَّا الآثار المرفوعة في ذلك فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر ولكن فيها الرخصة في التخلف عن شهود الجمعة، وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين:
أحدهما: أن تسقط الجمعة عن أهل المصر وغيرهم ويصلون ظهرًا، والآخر: أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية ومَن لا تجب عليه الجمعة] اهـ.
هذا، مع الأخذ في الاعتبار أن مجيء الناس من الأماكن البعيدة لحضور الجمع والأعياد في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لحاجة الاجتماع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك "لأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم، لأنه المبلغ عن الله تعالى، وشارع الأحكام، ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن، ولم ينكر، فصار إجماعًا؛ كما قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 248).
كما أنَّ صلاة الجمعة كانت تُصلى في مسجدٍ واحدٍ دون تعدد؛ بحيث يجتمع فيها أهل البلد وما قرب منها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (4/ 116، ط. دار طيبة): [الناس لم يختلفوا أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعطل سائر المساجد، وفي تعطيلِ الناسِ الصلاةَ في مساجدهم يومَ الجمعة لصلاة الجمعة واجتماعِهم في مسجدٍ واحدٍ: أبينُ البيانِ بأن الجمعةَ خلافُ سائر الصلوات، وأن الجمعة لا تُصلَّى إلَّا في مكانٍ واحد] اهـ.
وقال الإمام التقي السبكي الشافعي في "فتاويه" (1/ 175، ط. دار المعارف): [ومن محاسن الإسلام: اجتماعُ المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس، ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة، ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين، لتحصل الألفة بينهم ولا يحصل تقاطع ولا تفرق] اهـ.
وهو مستبعد الآن في ظل التواكب العمراني وتوافر المساجد الجامعة في جل المناطق السكنية (القريبة والنائية)؛ ومن ثَمَّ يصح أن يحمل كلام ما ورد في كلام الفقهاء من التفرقة بين أهل القرى والمدن والأمصار على حصول المشقة وعدمها في حضور المصلين من الأماكن البعيدة ممن لا تُقام في أماكنهم الجمعة.
وهذا يظهر من نص الأحاديث وتعليل الفقهاء أنَّ الرخصة في سقوط حضور الجمعة مع صلاتها ظهرًا واردٌ في حقِّ من أتى لصلاة العيد من خارج المدينة المنورة حينئذٍ؛ ممَّن لا تجب عليهم الجمعة ابتداءً؛ كونهم من سكان المناطق والبوادي خارج المدن والعمران، فهؤلاء إن انتظروا حتى يصلوا الجمعة كان في ذلك مشقة عليهم، وكذلك لو رجعوا إلى أهلهم ثم جاؤوا لصلاة الجمعة أيضًا.
وعليه: فالأمر في ذلك واسع ما دامت المسألة خلافية ولا يعترض بمذهب على مذهب، فتقام الجمعة في المساجد؛ عملًا بالأصل والأحوط، ومن كان يشق عليه حضور الجمعة أو أراد الأخذ بالرخصة فيها تقليدًا لقول مَن أسقط وجوبها بأداء صلاة العيد فله ذلك، بشرط أن يصلي الظهر عوضًا عنها من غير لوم على من حضر الجمعة أو إنكار على من أقامها في المساجد، وكذلك من دون إثارةِ فتنةٍ في أمرٍ وسع الخلافُ فيه سلفنا.
ومُدرك ذلك مبنيٌ على القواعد الثلاثة المشتهرة لإدارة الخلاف الفقهي المعتبر التي قرَّرها العلماء، من أنه: "لا إنكار في مسائل الخلاف"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية)، وأن: "من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليُقلد من أجاز"؛ كما في "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج" في فروع الشافعية (1/ 119، ط. المكتبة التجارية)، وأن: "الخروج من الخلاف مستحب على كل حال"؛ كما في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للإمام العز بن عبد السلام (1/ 253، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
كما لم يعهد من الشارع أنه جعل الصلوات المكتوبات أربعًا في أي حالة من الحالات حتى في حالة المرض الشديد، بل وحتى في الالتحام في القتال، بل هي خمس على كل حال كما هو منصوص قطعيات الشرع الشريف في مثل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي في تعداد فرائض الإسلام: «خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ والليلة» متفق عليه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزّ وَجَلّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَمسُ صَلَوات كَتَبَهُنَّ الله عَلَى العِبَاد» رواه الإمام مالك في "الموطأ"، وأبو داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.. إلى غير ذلك من النصوص المتكاثرة.
وإذا كانت الصلاة المفروضة لا تسقط بأداء صلاة مفروضة مثلها فكيف تسقط بأداء صلاة العيد التي هي فرض كفاية على المجموع وسنة على مستوى الفرد!
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 270) تعليقًا على قول مَن أسقط صلاة الجمعة بالعيد مطلقًا: [الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول؛ لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد لم يسقط أحدهما بالآخر، فكيف أن يُسْقَط فرضٌ لسُّنَّة حضرت في يومه! هذا ما لا يشك في فساده ذو فهم، وإن كان صلى مع صلاة الفطر ركعتين للجمعة فقد صلى الجمعة في غير وقتها عند أكثر الناس إلَّا أن هذا موضع قد اختلف فيه السلف؛ فذهب قوم إلى أن وقت الجمعة صدر النهار وأنها صلاة عيد.. وذهب الجمهور إلى أنَّ وقت الجمعة وقت الظهر، وعلى هذا فقهاء الأمصار] اهـ.
وقال العلامة ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 230، ط. دار الحديث): [إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدًّا] اهـ.
وقد أوجب الشرع الشريف هذه الصلوات الخمس لذاتها على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال -إلا فيما استثناه من حيض المرأة ونفاسها- حتى إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر عن مدة لبث الدَّجال في الأرض فقال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، قال له الصحابة: "يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟" قال: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ» رواه مسلم، وهذا كالنص على عدم سقوط أي صلاة مكتوبة على أي حال وفي أي زمان.
بناء عليه: فإذا جاء العيد يوم جمعة؛ فالأصل صلاة العيد في وقتها ثم صلاة الجمعة في وقتها إلا في حقِّ أصحاب الأعذار، وأما من لم يكن كذلك وقد حضر صلاة العيد؛ فالأصل في حقِّه أن يُصَلِّيهما: خروجًا من خلاف الجمهور القائلين بعدم سقوط الجمعة بصلاة العيد؛ فالخروج من الخلاف مستحب، ومن أراد أن يترخص بترك الجمعة إذا صلى العيد في جماعة؛ فإنه يُصلِّي الجمعة ظهرًا؛ تقليدًا لمذهب الحنابلة، ولما تقرر أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، مع مراعاة أدب الخلاف؛ فلا يلوم هذا على ذاك ولا العكس، ومن دون إثارةِ فتنةٍ في أمرٍ وسع الخلافُ فيه سلفنا الصالح من العلماء والفقهاء المعتبرين.
أما القول بسقوط الجمعة والظهر معًا بصلاة العيد فهو قول لا يؤخذ به؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.