حكم صلاة الجمعة خلف التلفاز

  • المفتى: الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
  • تاريخ الصدور: 30 مارس 2020
  • رقم الفتوى: 4997

السؤال

إن العالم بأسره في هذه الأيام يعاني من الجائحة التي تنتشر بشكل سريع من دولة إلى دولة ولا ترحم لا كبيرًا ولا صغيرًا.
تهدف جمعيتنا الدينية في هذه الظروف المعقدة إلى تطبيق ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من الأحكام الشرعية تخص هذه الحالات بحيث تتوحد الأمة الإسلامية على رأي جمهور العلماء.
لقد اختلف المفتون بروسيا في مسألة صلاة الجمعة في البيت على الهواء لما يكون الإمام بالمسجد والمسلم يصلي وراءه عن طريق البث المباشر من البيت.
وهل تنعقد صلاة الجماعة وتجزئ عن الصلاة عن بعد؛ مثل التعليم عن بعد؟
ولذلك نتوجه إلى فضيلتكم برجاء توضيح هذه الأمور وإرسال الجواب لنا بالخطاب الرسمي في أسرع وقت ممكن. شاكرين ومقدرين ما تقومون به من جهود كبيرة، ودعم لا محدود، ونسأل لقيادة الدولة أن يمد الله العمر بصحة وعافية، وأن يحفظ أمن جمهورية مصر العربية واستقرارها ويديم عليها رخاءها لتكون ذخرًا للإسلام والمسلمين.

صلاة الجمعة خلف البث المباشر في المذياع أو التلفاز أو غيرهما لا يتحقق فيه معنى الاجتماع الحقيقي الذي من أجله شرعت صلاة الجمعة بإجماع العلماء؛ وهو: اجتماعُ جمعٍ في مكانٍ واحدٍ عرفًا، كما أنه مخالف لما اتفق الفقهاء على اشتراطه في الاقتداء بإمام الجمعة؛ من اتصال الصفوف حقيقةً أو حكمًا، واتحاد المكان حقيقةً أو عرفًا، مع إمكان متابعة المأموم لتنقلات الإمام بسماعٍ أو رؤية، حتى إن العلماء اشترطوا الحضور المكاني لخطبة الجمعة ولو لم يحصل سماع؛ فدلّ على أن المعتبرَ هو الحضورُ لا مجرد السماع؛ فلا يُكتَفَى بالسماع عن الحضور، وإنما يمكن الاكتفاء بالحضور عن السماع، كما أنهم اشترطوا في الصلاة خارج المسجد: اتصال الصفوف حتى لو كان المأموم يرى الإمام، والذي يصلي في البيت خلف المذياع أو التلفاز أو نحوهما: لا يُعَدُّ حاضرًا لها حضورًا حقيقيًّا أو حكميًّا؛ لا في اللغة، ولا في الشرع، ولا في العرف، بل هو منقطعٌ عن المسجد وعن الإمام والمأمومين، ولا اتصال بينه وبين الصفوف بأيّ وجهٍ من وجوه الاتصال.

المحتويات

 

مقاصد صلاة الجماعة

الأصل في صلاة الجماعة: أن يتحقق فيها معنى الاجتماع الحقيقي؛ بأن يكون الإمام والمأموم في مكانٍ واحد مع اتصال الصفوف ومعرفة المأموم بانتقالات الإمام؛ وذلك إظهارًا لشعائر العبادة التي توخَّت فيها الشريعة الترابط والتراص بين المسلمين.
والجمعةُ مشتقةٌ من الاجتماع؛ كما قال العلامة السُّغدي الحنفي في "الفتاوى" (1/ 93، ط. مؤسسة الرسالة)، ولأجل هذا المعنى في أصل اشتقاقها، فقد أجمع العلماء على اشتراط تحقق معنى الجماعة في صحة صلاتها؛ لأن مِن مقاصد الاقتداء: اجتماعَ جمعٍ في مكانٍ واحدٍ عرفًا، على ما جرى عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، عبر الأعصار والأمصار، من غير نكير:
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 266، ط. المطبعة الجمالية): [الدليل على أن الجماعة شرط: أن هذه الصلاة تسمى جمعة؛ فلا بد من لزوم معنى الجمعة فيه؛ اعتبارًا للمعنى الذي أُخِذَ اللفظ منه من حيث اللغةُ؛ كما في الصرف والسلم والرهن ونحو ذلك؛ ولأن ترك الظهر ثبت بهذه الشريطة على ما مر؛ ولهذا لم يؤد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة إلا بجماعة، وعليه إجماع العلماء] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" (1/ 509، ط. دار الجيل): [وأما الواقف في البيت: فهو منقطع (بمكانه) عن المسجد وعن المصلين (الواقفين) في المسجد، ولا بد من الاجتماع مع الإمام والاتصال بالجماعة في المكان، كما لا بد من المتابعة والاتصال في الأفعال، ولولا ذلك: لبطل الاجتماع في الجماعات، ولجاز (أن يصلي) الإمام في المحراب في الجامع والناس يصلون في مساكنهم وخاناتهم وأسواقهم ومدارسهم من غير اتصال الصفوف على وجه من وجوه (الاتصال)] اهـ.
وقال إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب" (2/ 559، ط. دار المنهاج): [والُجُمعَةُ شُرعت لجَمْع الجماعات، والغرض منها: إقامة هذا الشعار في اجتماع الجماعات] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي -فيما نقله القاري في "مرقاة المفاتيح" (3/ 860، ط. دار الفكر)- في شرح حديث أبي داود عن عائشة رضى الله عنها: "صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجرته والناس يأتمون به من وراء الحجرة": [ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخصٍ: علمُه بانتقالاته لا غير، أما أولا: فإنه لو اكتُفِيَ بذلك لبطل السعيُ المأمور به والدعاءُ إلى الجماعة، وكان كلُّ أحدٍ يُصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد، وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشتراط اتحاد موقف الإمام والمأموم -على ما فُصِّل في الفروع-: لأنه من مقاصد الاقتداء: اجتماعُ جمعٍ في مكانٍ واحدٍ عرفًا، كما عُهد عليه الجماعاتُ في العصور الخالية، ومبنى العبادات: على رعاية الاتباع] اهـ.
وقال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (1/ 494-495، ط. دار الكتب العلمية): [والشرط الثالث من شروط الاقتداء: أن يُعَدَّا مجتمعَيْنِ ليظهر الشِّعارُ والتوادُّ والتعاضد؛ إذ لو اكتُفِيَ بالعلم بالانتقالات فقط كما قاله عطاء: لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في سوقه أو بيته بصلاة الإمام في المسجد إذا علم بانتقالاته] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 364، ط. دار إحياء التراث العربي): [سُمِّيَتْ "جمعة" لجمعها الخلقَ الكثير، قدمه المجد، وابن رزين، وغيرهما، وقال ابن عقيل في "الفصول": إنما سميت جمعة لجمعها الجماعات، قدمه في "المستوعب"، و"مجمع البحرين"، و"الحاويين"، وهو قريب من الأول] اهـ.

ضوابط الاجتماع المشترطة في صلاة الجمعة

يحصلُ معنى الاجتماع المجمَعِ على اشتراطه في صلاة الجمعة: باتصال الصفوف بين المصلين -وقد يكون حقيقيًّا أو حُكميًّا؛ فمناط الاتصال: بحسبه في كل حال-، وباتحاد المكان بين الإمام والمأمونين -حقيقةً أو عرفًا-، وبإمكان متابعة المأموم لتنقلات الإمام -بسماعٍ أو رؤيةٍ-.
وقد اختلف العلماء في تحقق معنى الاجتماع في بعض الأحوال؛ كما لو فصل طريق أو نهر أو جدار، أو زادت المسافة، أو حصل السماع دون مشاهدة، أو كان المأموم في سطح أو منزل أو مسجد ملاصق للمسجد، أو كانت أبواب المسجد مغلقة مصمتة، أو مغلقة مشبكة، أو مسمَّرةً، ونحو ذلك؛ بناءً على اختلافهم في تحقيق مناط الاتصال، واتحاد المكان، وإمكان المتابعة، في هذه الأحوال؛ فلا اختلاف في اشتراط الاجتماع، وإنما الخلاف في تحقيق مناط حصوله في بعض الأحوال:

قال الإمام الجصاص الحنفي في "شرح مختصر الطحاوي" (2/ 72، ط. دار البشائر): [مسألة (اتحاد مكان صلاة الإمام والمأموم باتصال الصفوف).. فإن الصفوف إذا كانت متصلة، ولم يكن هناك حاجز بينهم وبين الإمام من الطريق، فكأنهم معه في المسجد، وإذا لم تكن الصفوف متصلة: لم تجز صلاةُ مَن كان بينه وبين الإمام طريقٌ] اهـ.
وقال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 35، ط. دار المعرفة): [ومن صلى الجمعة في الطاقات أو في السدة أو في دار الصيارفة: أجزأه إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن اتصال الصفوف يجعل هذا الموضع في حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام] اهـ.
وقال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 145): [ومنها: اتحاد مكان الإمام والمأموم، ولأنَّ الاقتداء يقتضي التبعية في الصلاة، والمكان من لوازم الصلاة؛ فيقتضي التبعية في المكان ضرورة، وعند اختلاف المكان تنعدم التبعية في المكان فتنعدم التبعية في الصلاة لانعدام لازمها؛ ولأن اختلاف المكان يوجب خفاء حال الإمام على المقتدي فتتعذر عليه المتابعة التي هي معنى الاقتداء؛ حتى إنه لو كان بينهما طريق عام يمر فيه الناس أو نهر عظيم: لا يصح الاقتداء؛ لأن ذلك يوجب اختلاف المكانين عرفًا مع اختلافهما حقيقةً؛ فيمنع صحة الاقتداء] اهـ.
وقال العلَّامة الشرنبلالي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 111، ط. المكتبة العصرية): [الاقتداء في الأماكن المتصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه صحيح إذا لم يشتبه حال الإمام عليهم بسماع أو رؤية ولم يتخلل إلا الجدار؛ كما ذكره شمس الأئمة فيمن صلى على سطح بيته المتصل بالمسجد أو في منزله بجنب المسجد وبينه وبين المسجد حائط مقتديًا بإمامٍ في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبر: تجوز صلاته] اهـ.
وقال العلَّامة عليش المالكي في "منح الجليل" (1/ 375، ط. دار الفكر): [(و) جاز (فصل مأموم) عن إمامه (بنهرٍ صغير) أي: غير مانع من سماع أقوال الإمام، أو مأموميه، أو رؤية أفعاله، أو أفعال مأموميه] اهـ.
وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني الشافعي في "نهاية المطلب" (2/ 401-402): [فأما المسجد: فإذا تقدم الإمام وتأخر المقتدي، لم يضر بُعد المسافة -وإن أفرط- إذا كان المسجد واحدًا، وكذلك لا يضر اختلافُ المواقف ارتفاعًا وانخفاضًا، حتى لو وقف الإمام في المحراب والمقتدي على منارةٍ من المسجد، أو بئر، وكان لا يخفى عليه انتقالات الإمام، فالقدوة صحيحة؛ وذلك أن المكان مبنيٌّ لجمع الجماعات، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الصلاة، فلا يؤثر البعد في المسافة، وهذا متفق عليه.
ولو كان مسجدان باب أحدهما لافظٌ في الثاني كالجوامع، فإن كانت الأبواب مفتوحة، فهما كالمسجد الواحد، ولا أثر لانفصال أحد المسجدين عن الثاني بالجدار، وإن كان الباب مردودًا، وكان صوت المترجم يبلغ في المسجد الثاني، وهما معدودان كالمسجد الواحد، فالمذهب الظاهر صحة الاقتداء، فإنهما كالمسجد الواحد. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذٌ؛ لأن أحدهما يعدّ عند رد الأبواب منفصلًا عن الثاني، ولا يعدّان مجتمعين عرفًا. ثم من منع الاقتداء والباب مردود قالوا: لو كان الجدار الحائل بين المسجدين المانع من الاستطراق مشبكًا، لا يمنع من رؤية مَن هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، فعلى الوجه البعيد وجهان. وما ذكر من رد الأبواب فالمراد إغلاقها، فأما إذا لم تكن مغلقة الأبواب، فهي كالمفتوحة قطعًا، والذي أرى القطعَ به: جوازُ القدوة وإن كانت الأبواب مغلقة والجدارُ غيرَ نافذ إذا كان المسجدان في حكم المسجد الواحد وبابُ أحدهما لافظٌ في الثاني، وهو المذهب، ولست أعد غيره من متن المذهب] اهـ.
و"باب لافظ": أي لاصق بالأرض نافذ من غير فاصل بينهما من طريق أو غيره؛ كما قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في "شرح مشكل الوسيط" (2/ 246، ط. دار كنوز إشبيليا).
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (1/ 362، ط. المكتب الإسلامي): [ولو حال بين الإمام والمأموم، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر بلا سباحة، بالوثوب، أو الخوض، أو العبور على جسر: صح الاقتداء. وإن كان يحتاج إلى سباحة، أو كان بينهما شارع مطروق: لم يضر على الصحيح] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 302، ط. دار الكتب العلمية): [فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان: أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد] اهـ.
وقال أيضًا في "المغني" (2/ 153، ط. مكتبة القاهرة): [ولأن المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام، والعلم يحصل بسماع التكبير، فجرى مجرى الرؤية، ولا فرق بين أن يكون المأموم في المسجد أو في غيره، واختار القاضي: أنه يصح إذا كانا في المسجد، ولا يصح في غيره؛ لأن المسجد محل الجماعة، وفي مظنة القرب، ولا يصح في غيره لعدم هذا المعنى، ولخبر عائشة رضي الله عنها.
ولنا: أن المعنى المجوز أو المانع قد استويا فيه، فوجب استواؤهما في الحكم، ولا بد لمن لا يشاهد أن يسمع التكبير، ليمكنه الاقتداء، فإن لم يسمع: لم يصح ائتمامه به بحال، لأنه لا يمكنه الاقتداء به] اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (6/ 300، ط. مكتبة الغرباء الأثرية): [وقد استدل أحمد بالمروي عَن أنس رضي الله عنه في هَذا في رواية حرب، ورخص في الصلاة في الدار خارج المسجد، وإن كانَ بينها وبين المسجد طريقٌ، ولم يشترط الإمام أحمد لذلك رؤيةَ الإمام، ولا مَن خلفه، والظاهر: أنه اكتفى بسماعِ التكبير، واشترط طائفةٌ مِن أصحابه الرؤية، واشترط كثيرٌ مِن متقدميهم اتصالَ الصفوف في الطريق] اهـ.
وقال العلَّامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 491، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن كانا) أي الإمام والمأموم (خارجين عنه) أي: المسجد، (أو) كان (المأموم وحده) خارجًا عن المسجد الذي به الإمام ولو كان بمسجد آخر (وأمكن الاقتداء: صحت) صلاة المأموم (إن رأى) المأمومُ (أحدَهما) أي: الإمامَ أو بعضَ مَن وراءَه ولو كانت جمعة في دار أو دكان؛ لانتفاء المُفسِد ووجود المقتضِي للصحة، وهو الرؤية وإمكان الاقتداء] اهـ.

وقد اشترط العلماءُ الحضورَ المكانيَّ لخطبة الجمعة حتى تصح صلاة الجمعة؛ حتى جعلوا الحضور شرطًا دون السماع، وهذا يقتضي أن الاكتفاء بالسماع عن الحضور غير مجزئ في صحة صلاة الجمعة:
قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 266): [وأما بيان كيفية هذا الشرط فنقول: لا خلاف في أن الجماعة شرط لانعقاد الجمعة حتى لا تنعقد الجمعة بدونها حتى إن الإمام إذا فرغ من الخطبة ثم نفر الناس عنه إلا واحدا يصلي بهم في الظهر دون الجمعة، وكذا لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب الإمام وحده ثم حضروا فصلى بهم الجمعة لا يجوز؛ لأن الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشروع في الصلاة فهي شرط حال سماع الخطبة] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 147-148، ط. دار الفكر): [(قوله ولو كانوا صمًّا أو نيامًا) أشار إلى أنه لا يُشترط لصحتها (أي: خطبة الجمعة) كونُها مسموعةً لهم، بل يكفي حضورُهم؛ حتى لو بعدوا عنه أو ناموا أجزأت، والظاهر أنه يُشترط كونُها جهرًا؛ بحيث يسمعها من كان عنده إذا لم يكن به مانع "شرح المنية".. الشرط: الحضور كما مر، لا السماع] اهـ.
كما اشترط العلماءُ أيضًا لصحة الاقتداء بالإمام خارج المسجد: اتصالَ الصفوف، حتى لو كان يراه خارجه من غير اتصال لم يجز؛ لأن المسجد هو المكان المعد للاجتماع فيه، بخلاف خارجه؛ فليس معدًّا لذلك أصالةً بل تبعًا:
قال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/ 491، ط. دار الكتب العلمية): [(إذا كان المأموم يرى الإمام أو من وراءه، وكانا في المسجد صحت) صلاة المأموم (ولو لم تتصل الصفوف عرفًا)؛ لأن المسجد بُنِيَ للجماعة، فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة، بخلاف خارج المسجد؛ فإنه ليس معدًّا للاجتماع فيه، فلذلك اشترط الاتصال فيه] اهـ.
وكل هذه النصوص والضوابط الفقهية والأحكام الشرعية تبين بجلاء أنه لا تجزئ صلاة الجمعة خلف المذياع أو التلفاز أو نحوهما، وعلى ذلك جرت فتوى دار الإفتاء المصرية عبر عصورها المختلفة؛ كما في فتوى المفتي الأسبق فضيلة الشيخ علام نصار، في فتوى رقم (626) بتاريخ 10/ 1/ 1951م، والمفتي الأسبق فضيلة الشيخ حسن مأمون، في فتوى رقم (247) بتاريخ 16/ 8/ 1955م، والمفتي الأسبق فضيلة الشيخ محمد خاطر الشيخ، في فتوى رقم (457) بتاريخ 20/ 6/ 1976م، وغيرها.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فلا يخفى أن صلاة الجمعة خلف البث المباشر في المذياع أو التلفاز أو غيرهما لا يتحقق فيه معنى الاجتماع الحقيقي الذي من أجله شرعت صلاة الجمعة بإجماع العلماء؛ وهو: اجتماعُ جمعٍ في مكانٍ واحدٍ عرفًا، كما أنه مخالف لما اتفق الفقهاء على اشتراطه في الاقتداء بإمام الجمعة؛ من اتصال الصفوف حقيقةً أو حكمًا، واتحاد المكان حقيقةً أو عرفًا، مع إمكان متابعة المأموم لتنقلات الإمام بسماعٍ أو رؤية، حتى إن العلماء اشترطوا الحضور المكاني لخطبة الجمعة ولو لم يحصل سماع؛ فدل على أن المعتبرَ: الحضورُ لا مجرد السماع؛ فلا يُكتَفَى بالسماع عن الحضور، ويمكن الاكتفاء بالحضور عن السماع، كما أنهم اشترطوا في الصلاة خارج المسجد: اتصال الصفوف حتى لو كان المأموم يرى الإمام، والذي يصلي في البيت خلف المذياع أو التلفاز أو نحوهما: لا يُعَدُّ حاضرًا لها حضورًا حقيقيًّا أو حكميًّا؛ لا في اللغة، ولا في الشرع، ولا في العرف، بل هو منقطعٌ عن المسجد وعن الإمام والمأمومين، ولا اتصال بينه وبين الصفوف بأي وجه من وجوه الاتصال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

فتاوى ذات صلة