مر على زواجهما خمسة عشر عامًا، وعاشا معًا رحلة الحياة بحلوها ومرها، وسعدا بأطفالهما يكبران أمام أعينهما يومًا بعد يوم، ثم حدث الزلزال الذي قلب الحياة رأسًا على عقب؛ إذ لاحظت منذ عدة شهور تغيرًا ما في تصرفاته وتعاملاته معها، إذ أصبح لديه شيء من الغموض لم تعتدْه منه، بجانب بعض الفتور في علاقتهما بوجهٍ عام، وكثرة أسفاره بلا سبب مقبول، وتهربه من البيت كلما سنحت الفرصة، واختلائه بتليفونه المحمول أكثر من المعتاد، وحرصه على أن يكون في جيبه وأخذه معه في الحمام، أو الحديث بصوت هامس، أو الذهاب للبلكونة لإتمام المكالمات.
هنا استيقظت كل الحواس الأنثوية لديها وأطلقت الرادار النسائي يستكشف أفقَ حياة زوجها، وكان أول الاكتشافات في هذا الجهاز الصغير، الذي قلب أحوال الناس رأسًا على عقب، إنه التليفون المحمول، حامل أسرار البشر، فبه كل آثار الجريمة، محادثات بينه وبين إحدى السيدات، واضح أنها قريبة من دائرة عمله، وأنها غير متزوجة، أو مطلقة.
منذ تلك اللحظة لم تذق طعم الراحة، ولم يهدأ عقلها عن التفكير، قررت أن لا تخبره بشيء حتى تتكشف لها أبعاد الكارثة التي حلت بها، أصبح شغلها الشاغل تتبع حركاته وسكناته، إشاراته والتفاتاته وكل تفاصيل حياته، فتشت أدراج مكتبه وكل قطعة في ملابسه، أطلقت حاسة الشم في كل مقتنياته بحثًا عن آثار روائح أنثوية، تتبعت تحركاته اليومية وسفرياته وتنقلاته، لم يعد يشغلها شيء إلا هو، حتى أطفالها لم تعد تهتم بهم كثيرًا، وحتى صلاتها وأورادها وطقوسها الدينية لم تعد تتذكرها، وحتى زياراتها لعائلتها ولصديقاتها لم تعد تهتم بها. قررت أن تفرغ كل حواسها لالتقاط كل شاردة وواردة عنه ثم تقوم بتحليلها وربطها بتفاصيل سابقة أو لاحقة. لم تعد تنام إلا لحظات قليلة متقطعة، وفقدت شهيتها للطعام، وفقدت الكثير من وزنها، وكانت تبدو ساهمة حزينة زائغة العينين، مهملة لمظهرها وزينتها ولواجباتها المنزلية ولنظافتها الشخصية ولاهتمامها بزوجها وأطفالها.
وراحت تتعلم فك شفرات التليفون المحمول والبحث عن الرسائل في كل مواقعه (الواتساب والماسنجر والرسائل القصيرة)، ثم انتقلت إلى صفحته على الفيسبوك تتتبَّع البوستات واللايكات والتعليقات من كل من يدخل على صفحته خاصة النساء، ثم تدخل على صفحاتهن لترى إن كان هو قد علق لإحداهن على شيء أو تواصل معهن في وقت من الأوقات. أصبحت هذه الأشياء تستغرق كل وقتها وغالبية طاقتها، وضاقت عليها الدنيا بما رحبت، وأصبحت لا تثق بأحد، فكل الرجال في عينيها خائنون، وكل النساء مغويات وخاطفات للرجال.
ولم تعد تستطع التماسك؛ فانفجرت في نوبات غضب لأسباب تبدو في حقيقتها تافهة، وكان يسألها زوجها عن سبب غضبها وعصبيتها فتقول له: لا شيء، لا تشغل بالك... أنا فقط متعبة بعض الشيء، إلى أن حدث الانفجار الهائل في أحد الليالي، وصارت تصرخ فيه بلا انقطاع لمدة ساعة، وهو يحاول أن يهدئ من ثورتها دون جدوى، حتى أغمي عليها ثم أفاقت بعد لحظات لتواجهه بكل ما تجمع لديها من أدلة خيانته. في البداية أنكر، ولكن بعد تجمع الدلائل حاول من تهوين الأمر، ثم في مرحلة تالية اعتذر وحاول تطييب خاطرها وقال: إنها نزوة ولن تتكرر. ولكنها لم تهدأ، ولم تستطع العودة إلى حياتها السابقة. حاولت الانشغال بأشياء أخرى لكي تنسى الموضوع وتستطيع النوم والانتباه لأطفالها، ولكن فشلت كل محاولاتها.
ذهبت تشكو إلى خالتها، فقالت لها الخالة: اسمعي مني يا ابنتي، هو ليس زوجك فقط، الرجال كلهم هكذا، وسأقول لك سرًّا لم أقله لأحد من قبل... إن زوجي البالغ من العمر الآن خمسة وسبعون سنة، وقد مضى الآن على زواجنا حوالي خمسين سنة، على علاقة بسكرتيرته في شركة المقاولات التي يملكها، وبالمناسبة هذه ليست أول مرة، بل كررها كثيرًا في كل مراحل حياتنا، حتى ونحن في شهر العسل! وكنت أعرف بهذه العلاقات ولكنني آثرت أن لا أُفاتحه فيها حتى لا يأخذ موقف العناد ويتمادى، وأنت تعرفين شخصيته جيدًا، لا يحب ولا يقبل أن يتدخل أحد في قراراته أو أفعاله، ولطالما هو لم يقصر في حقي أو حق أولادي فلا شأن لي بما يفعله خارج جدران هذا المنزل... باختصار تركته لضميره ولربنا يحاسبه، ولم أحاول يومًا تتبعه أو التفتيش في متعلقاته؛ لأن ذلك كان سيفتح عليَّ أبواب جهنم. إنك ياحبيبتي انشغلت بزوجك وبخيانته أكثر مما ينبغي... أنصحك انتبهي لنفسك ولأولادك، وارضي بالمتاح منه، ولا تخربي بيتك بغيرتك وشكك، وبالمناسبة أنت لست وحدك في هذه الأزمة، كثيرات مثلك يعانين مما تعانين، يبدو أن تعدد العلاقات عاهة مستديمة في الرجال! كما أن النساء في هذه الأيام لم يعد لديهن حياء، فصرن يغرين ويغوين ضعاف النفوس من الرجال، وهم كثيرون.
تركت خالتها وهي غير مقتنعة بما تقوله، فعلى الأقل زوج خالتها له علاقات فقط، وهي تعرف حدوده؛ إذ إنه رجل يخاف الحرام، وبالتأكيد لم تتجاوز هذه العلاقات حدود الخطيئة، أما هي فلا تعرف أين يقف زوجها في هذه العلاقة، وهل تزوجها، أم أنه يُعد لزواجها، وإذا كان تزوجها، هل أنجب منها؟ مئات الأسئلة تكاد تفتك بعقلها، ولم تعد تستطع النوم أو التفكير في أي شيء آخر.
اتصلت بشيخ صديق للعائلة تطرح عليه مشكلتها وتسأله المساعدة فنصحها الشيخ بأن تتوقف عن التجسس على زوجها أو التفتيش في مقتنياته؛ لأن الله يقول في كتابه: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تدابروا....»، وقال أيضًا: «من اطلع في كتاب أخيه بغير علمه فكأنما اطلع في النار»، فقالت له: ولكنه ليس أخي هو زوجي، وأنت تطلب مني أن أعيش زوجةً مخدوعة طول الوقت، وأتركه يعبث مع النساء فأُفاجأ بكارثة زواجه!
فرد عليها الشيخ: ومن قال يا أختي أن زواجه من أخرى كارثة، إن هذا حق شرعي له، ولهذا لا يجوز لك التصنت أو التجسس على اتصالاته ورسائله على التليفون المحمول؛ لأنه ربما يتواصل مع زوجة أخرى له.
لم يعجبها كلام الشيخ وتذكرت أنه متزوج من ثلاث زوجات ويبحث عن الرابعة، ولهذا يدافع عن زوجها.
اتصلت بطبيب نفسي كانت تزوره من قبل، فطلب منها زيارته في العيادة، وفي أول جلسة صارحها بأن حالتها ليست مجرد غيرة عادية، أو صدمة من خيانة زوجها، ولكنه نوع من الوسواس ربما لم يدرج بشكل صريح ضمن أنواع الوساوس التقليدية، ولكن انشغالها الدائم بفكرة خيانة زوجها عن أي موضوع آخر، وتدهور حالتها النفسية والجسدية لهذا الحد، وإهمالها لكل واجباتها الأمومية والزواجية والمهنية بهذه الدرجة- يضعها في دائرة وسواس الخيانة. بل وأضاف إلى حالتها درجة من درجات القلق والاكتئاب، وأنها تحتاج للعلاج الدوائي والعلاج المعرفي السلوكي.
خرجت من عيادة الطبيب، وهي أكثر سخطًا وغضبًا على زوجها، الذي أوصلها لهذه الحالة، ولم تكرر زيارتها للطبيب ولم تأخذ علاجه، ولم تستجب لنصيحة خالتها ولا لنصيحة الشيخ المتعدد الزيجات، وقررت أنها ربما لن تستريح إلا بالطلاق، أو تدمير زوجها كما دمر حياتها.
دكتور / محمد المهدي