تتشابك الجذور الإنسانية والشرعية في جعل الوالديْن في مكانة عالية ودرجة رفيعة داخل الأسرة، فلا يوجد نظام اجتماعي عبر التاريخ غير متمسك بسريان الصلة بين الأبناء ووالديهما؛ فالعلاقة بينهما قائمة على الإنسانية المحْضة باعتبار الوالدَيْن مظهرًا كونيًّا تجلت فيه صفة الإيجاد والخلق للأبناء، والأولاد أيضًا زينة حياة الوالدين ومظهر كمالها واستقرارها؛ كما في قولِه تعالى: ﴿الْمَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46].
لقد خاطب الله تعالى الأبناء ببذل المعروف تجاه الوالدين في قوله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]، ومن ثَمَّ يجب تعهدهما بالرعاية والعناية والحماية والنفع البدني والنفع المالي في مراحل عمرهما ما أمكن إلى ذلك سبيلًا، بل من الواجب الإنفاق عليهما وسد حاجتهما في حالة العجز عن الكسب، أو كان لهما دخلٌ من معاشٍ أو راتبٍ لا يكفيهما، طبقًا لحالة الابن المالية يسرًا أو عسرًا، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» "مسند الإمام أحمد".
ونفقة الوالدين على الأبناء القادرين مرهونة بالحاجة دون النظر إلى الاتفاق في الدِّين أو الاختلاف فيه، أو بالنظر إلى قيام الوالدِين بحقوق أولادهم وعدم قيامهم بذلك؛ وذلك لكون العلاقة بين الولد وأبيه وأمه ليست عَقدًا تكون فيه الحقوق مقابل أداء الواجبات، إنما هي علاقة القَرابة المباشرة التي أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الأبناء بِرَّهما وإظهار كل ما يصدق عليه الإحسان من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة عند التعامل معهما بعد الأمر بإفراده تعالى وحده بالعبادة، فضلًا عن قرن شكرهما بشكره تعالى؛ كما في قولِه عزَّ وجلَّ: ﴿أَنْ اشْكُر لي ولِوَالِدَيكَ إليَّ الْمَصِير﴾ [لقمان: 14].
فهذه العلاقة دائرة من حيث أصلها وفي خصوصها على التراحم وقيم البر والإحسان وعرفان الجميل؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24]، وهذه الآية الكريمة جمعت مفهومًا ومنطوقًا جملة الواجبات والآداب المطلوبة من الأبناء تجاه الوالدين (الأب والأم)؛ وتتمثَّل في: التقرب إليهما، والتأدب في حضرتهما، وإدخال الفرح والسرور عليهما، والإنصات لحديثهما، والدعاء لهما، وتقديم طاعتهما على أي طاعة لأحد ما دامت في غير معصية مقطوع بها، فضلًا عن عدم إزعاجهما بأيِّ سلوك لا يليق.
ثم إن الشرع الشريف قد أعطى في هذا السياق مزيَّة خاصة للأم؛ لما لها من مكانة جليلة ودور محوري في الأسرة؛ فقدَّمها على الأب، وجعلها أولى الناس بالبر والإحسان، ولكنه لم يغفل الأب أيضًا، فحين سئل صلى الله عليه وسلم: من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: «أمك».. ثلاث مرات، ثم قال: «أبوك».
ويعكس هذا الاهتمام الشرعي بالأبوين ما يجب على الأبناء مراعاته عند التعامل معهما؛ طاعةً لأمر الله تعالى، وعرفانًا لجميلهما وشكرًا لما يبذلانه من جهود شاقة في القيام بواجبات هؤلاء الأولاد عبر مراحل عمرهم المتعاقبة، بل إنه أيضًا يضع أيدينا على الفجوة الكبيرة بين ذلك وما هو شائع في مجتمعاتنا المعاصرة من ذوبان قيمة الأسرة وضعف التكوينات القَرابية والروابط العائلية المباشرة حتى أصبح الأولاد ينتظرون المناسبات الموسمية التي تنبه الأبناء إلى ضرورة تذكر آبائهم وأمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية، فضلًا عن اضطرار كثير من الآباء والأمهات إلى تحريك الدعاوى القضائية للمطالبة بنفقة من أبنائهم القادرين.
وبذلك فالعلاقة بين الأبناء والآباء والأمهات ليست مجرد انتماء أجوف من فرع لأصله أو إطار عادى يفعل كل فردٍ فيه محض حريته، إنما هي منضبطة بسياج شرعي وإنساني محكم بضوابط وقيم ناظمة لها أفقيًّا ورأسيًّا، فضلًا عن اعتبار ذلك عبادة دينية لا تقبل النيابة ولا تدخلها الوكالة.
***