تُعَدُّ الأسرة النواة الأصيلة للمجتمع، ومن خلالها تنمو المواهب الصالحة والمهارات النافعة؛ فهي الخلية الحية في بنائه وكيانه، ودورها في تربية أفرادها لا يقتصر على الرعاية المادية وتوفير الاحتياجات الجسدية فقط، بل هي المدرسة الأولى التي يتشرب منها الفرد خصائصه الأولى، ويتأثر بمبادئها وسلوكياتها العمليَّة وينطبع بطابعها وسماتها.
إن الفرد داخل الأسرة خاصة الطفل تتكون شخصيته من خلال اتخاذ والديه نماذج عملية يحاول أن يتمثلها ويقلدها في سائر الأقوال والأفعال الظاهرة، ومن هنا تبرز أهمية وحاجة المجتمعات إلى وجود القدوة الحسنة في داخل كل أسرة؛ لأنها من العوامل الأصيلة والمباشرة في التربية والتأثير على الأخلاق والسلوكيات، وفي ذلك يوصي الإمام الشافعي رضي الله عنه مؤدِّب أولاد هارون الرشيد بقوله: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك.. فالحسن عندهم ما استحسنته، والقبيح عندهم ما تركته". "حلية الأولياء لأبي نعيم" (9/ 147).
والاقتداء هو طلب الشخص موافقة غيره في المواقف والسمات والأفعال والأقوال، والقدوة الحسنة هي التقليد والتأسي بأهل الفضل والخير والصلاح في كل ما صدر عنهم، ومن هذه المعاني يظهر أن للأسرة دورًا كبيرًا في ترسيخ قيم القدوة الحسنة في نفوس الأبناء وما يترتب على ذلك من استقامة نفوسهم وصلاح مستقبلهم دنيا وأخرى واستقرار مجتمعاتهم، ويتجلى ذلك إجرائيًا في نقاط، منها: ضرورة تحلي كلّ من الزوجين بالقدوة الصالحة تجاه صاحبه حتى يتمكنا معًا من تهيئة أجواء حياتهما الزوجية وفق قيم الحب والمودة ومراعاة المعاملة بالفضل والإحسان والرحمة؛ تأسيًا بما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن من حسن العشرة ودوام المحبة وكرم الصحبة والرعاية.
ولا يخفى أن تحلي الزوجين بسمات القدوة الحسنة في أنفسهما وكذا تجاه بعضهما البعض له من التأثير المهم والمباشر في تكوين الأبناء وتشكيل سلوكياتهم الإيجابية وغرس الأخلاق الحسنة والقيم الطيبة على مدار مراحل عمرهم، فهما المصدر الأساسي لترجمة المعاني المجردة للأخلاق والمعارف الإنسانية والقيم المجتمعية بصورة عملية، وهذا متفرع عن مسئولية الرعاية المقررة في الحياة الأسرية.
كما أرشدنا الشرع الشريف إلى عدة إجراءات يمكن من خلالها ترسيخ القدوة الحسنة في نفوس الأبناء، والتي منها: ضرورة تنمية ذواتهم بتلبية حقوقهم واحتياجاتهم من حسن اختيار الزوجين بعضهما بعضًا وفق معايير الكفاءة، وانتقاء أحسن الأسماء لهم، ورعايتهم رعاية متكاملة تشمل مختلف الجوانب بدنيًّا وصحيًّا وتعليميًّا وتربويًّا وعبر مراحلهم المتعاقبة.
ومنها: تزويدهم بالخبرات والمعارف اللازمة الإنسانية والدينية والحياتية لتكوين تصور صحيح عن ذاتهم وعن الآخرين، مع ضبط سلوكياتهم الكامنة من خلال الأساليب والوسائل السوية خاصة التي تراعي أسلوب العصر، وامتثال المعاني الواردة في قولِه صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرنَا، وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبيرِنَا»، حيث قرر أن أَوْلَى الناس بالرحمة هم الأولاد في مراحل عمرهم المختلفة.
ومنها: تنمية السمات المقبولة شرعًا وعرفًا بما يكوِّن شخصيته وفق تلك المعارف، مما يعمل على توازن منظومة الواجبات التي ستطلب منه عند اكتمال أهليته؛ وهي واجبات متنوعة تقتضيها دوائر الإنسان المتكاملة، سواء على مستوى الإنسانية أو على مستوى الوطن أو على مستوى الدين، أو على مستوى علاقات القرابة والعلاقات الاجتماعية.
وبذلك تُعَدُّ القدوة الحسنة داخل الأسرة من الضرورات المجتمعية والواجبات الدينية، التي لها معاييرها الواضحة وإجراءاتها الحكيمة التي إن راعت قيادة كل أسرة المتمثلة في الزوجين، وكذا المؤسسات المعاصرة المساعدة لها سماتها وآدابها سلكت بالأفراد طريق الحياة الطيبة التي تمتلئ بالتفاؤل والأمل ونفع البشرية وصلاح أمرها؛ كشأن الأنبياء والصالحين الذين مدح الله تعالى ذواتهم وأصولهم وفروعهم في قولِه تعالى: ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 87].
****