ما حكم حجز الذهب بدفع بعض قيمته؟ فقد ذهبتُ مع زوجتي إلى تاجر المشغولات الذهبية وقد أعجبها أحد المنتجات المعروضة، وقد أخبرنا التاجر أن ما اخترناه قد بِيع بالفعل، وأنه سَيجلب مثلَه في غضون ثلاثة أيامٍ، لكن لا بد من دفع جزءٍ مِن الثمن، فتم الاتفاق على شراء المنتج مع تحديد جميع الأمور المتعلقة بذلك من صفة المنتج ووزنه وثمنه وموعد تسليمه وتمَّ تحرير فاتورة بيع بذلك، على أن نستلمه بعد ثلاثة أيام ونسدِّد عند ذاك باقي الثمن، فهل تجوز هذه المعاملة شرعًا؟
المعاملة الواردة في السؤال من قبيل عقد السلم، ولا تصح بصورتها المذكورة، وتصحيحها يكون بدفع كامل الثمن عند الاتفاق كما هو الأصل في السلم، أو بتأخير كامل الثمن فيما لا يزيد عن ثلاثة أيام مع مراعاة وجوب عدم توافق زمن تسليم الثمن مع زمن تسليم المبيع أخذا بقول المالكية.
المحتويات
المعاملات المالية في الشرع الشريف شُرعت لتحقيق منافع الخلق وتلبية احتياجاتهم، وذلك في إطارٍ من الأوامر والنواهي الشرعية التي تعمل على تحقيق العدالة في تحصيل كلِّ طرفٍ لمنفعته بتعامله مع الطرف الآخر، ومنع ما يؤدي إلى الشقاق والخلاف والنزاع بين الطرفين، فإن قطع المنازعات ضرورة؛ إذ هي مادة الفتن والفساد، فمطلوبُ صاحبِ الشرع صلاحُ ذات البين، وحسمُ مادَّةِ الفساد والفتن، كما في "بدائع الصنائع" للعلامة الكاساني الحنفي (5/ 143، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفروق" للإمام القرافي المالكي (3/ 290، ط. عالم الكتب).
الذهب بما منحه الله سبحانه وتعالى من خصائص ومزايا منها: مقاومته للصدأ، وبقاؤه فترة أطول من غيره من المعادن كالحديد والنُّحاس -هو ما جعل الناس يحرصون على اقتنائه، إما لأجل جعله مخزنًا للقيم، أو لأجل الزينة.
وقد استقرت الفتوى في دار الإفتاء المصرية على أن الذهب والفضة المصُوغين خرجا بذلك عن كونهما أثمانًا -وسيطًا للتبادل- وانتفت عنهما علة النقدية التي توجب فيهما شرط التماثل والحلول والتقابض، ويترتب عليها تحريمُ التفاضل وتحريم البيع الآجل، فصارَا كأيِّ سلعة من السلع التي يجري فيها اعتبار قيمة الصنعة وهي هنا الصياغة؛ إذ من المعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
قال العلامة ابن قدامة في "المغني" (4/ 9، ط. مكتبة القاهرة): [فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتمًا وزنُه درهم، وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهمًا. فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين. وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين، أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له] اهـ.
المعاملة المسؤول عنها تكيف من حيث طبيعة العلاقات التعاقدية بين أطرافها على أنَّها عقدُ سَلَمٍ، ووجه كون هذه المعاملة من قبيل عقد السلم أنَّه تم الاتفاق على شراء المنتج الغائب مع تحديد جميع الأمور المتعلقة بذلك من صفته ووزنه وثمنه وموعد تسليمه وعمل فاتورة بيع بذلك، على أن يتم التسليم بعد ثلاثة أيام.
والسلم: هو شراء آجِلٍ بعاجِلٍ، وهو عبارة عن بيع شيءٍ موصوف في الذمة ببدلٍ يُعطى عاجلًا، وهذه خاصته المتفق عليها، وقد سُمي سَلَمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسَلَفًا لتقديم رأس المال، كما في "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين الحنفي (5/ 209، ط. الحلبي)، و"شرح الخرشي على مختصر خليل" (5/ 210، ط. دار الفكر)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني الشافعي (3/ 3-4، ط. دار الكتب العلمية)، و"كشاف القناع" للعلامة البُهُوتِي الحنبلي (3/ 336، ط. دار الكتب العلمية).
وقد تقررت مشروعية السلم بإجماع العلماء على جوازه في كلِّ مالٍ يجوز بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ، أما ما لا يمكن ضبط صفاته من الأموال فلا يصح السَّلَم فيه؛ لأنه يفضي إلى المنازعة والمشاقة، وعدمها مطلوبٌ شرعًا.
قال الإمام ابن بَطَّال في "شرح صحيح البخاري" (6/ 365، ط. مكتبة الرشد): [أجمع العلماء أنه لا يجوز السَّلَم إلا في كيل معلوم أو وزن معلوم فيما يكال أو يوزن، وأجمعوا أنه إن كان السَّلَم فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عددٍ معلوم، وأجمعوا أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المُسْلَم فيه] اهـ.
وعقد السلم مما تدعو إليه الحاجة، ومن هنا كان في مشروعيته رَفْعٌ للحرج عن الناس، قال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (4/ 207): [ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتَكْمُل، وقد تُعْوِزُهُم النفقة، فجوز لهم السَّلَم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص] اهـ.
لا تعارض بين مشروعية عقد السلم وبين النهي عن بيع المعدوم، فقد ورد نهي الشرع الشريف عن بيع المعدوم، فيما أخرجه أصحاب "السنن" عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي، أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ؟ فَقَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ». فدل الحديث على عموم النهي عن بيع أي شيء قبل قبضه وحيازته، وقبل تحقق القدرة الفعلية على تسليمه، ويدخل في هذا من باب أولى بيع المعدوم.
وفي رواية: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا، فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرُمُ عَلَيَّ؟ قَالَ: «فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ» أخرجها الإمام أحمد في "مسنده".
ووجه عدم التعارض بين مشروعية السلم وعدم مشروعية بيع المعدوم، أن السلم لا يكون إلا فيما ضُبِطت صفاته من النوع والوزن وموعد التسليم، قال الإمام الشافعي في "الأم" (5/ 174، ط. دار المعرفة): [إذا احتمل الحديثان أن يُستعملا لم يُطرح أحدهما بالآخر... نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه عن بيع ما ليس عنده، وأرخص في أن يسلف في الكيل المعلوم إلى أجل معلوم] اهـ.
قد اشترط جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة لصحة عقد السلم: تسليم كامل الثمن في مجلس العقد، فإن افترق البائع والمشتري بدون تسليم الثمن كاملًا بطل العقد.
قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (ص: 439، ط. دار الكتب العلمية): [(و) بقي من الشروط (قبض رأس المال) ولو عينًا (قبل الافتراق) بأبدانهما وإن ناما أو سارا فرسخًا أو أكثر، ولو دخل ليخرج الدراهم إن توارى عن المسلم إليه بطل، وإن بحيث يراه لا] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (4/ 3، ط. المكتب الإسلامي) عند بيان شروط عقد السلم: [الشرط الأول: تسليم رأس المال في مجلس العقد. فلو تفرقا قبل قبضه، بطل العقد] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (2/ 66، ط. دار الكتب العلمية) في بيان شروط عقد السلم: [أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهم... فإذا تأخر لم يكن سلمًا، فلم يصح، ولأنه يصير بيع دين بدين، فإن تفرقا قبل قبضه، بطل] اهـ.
ذهب المالكية في مشهور المذهب إلى جواز تأخير تسليم الثمن إلى ثلاثة أيام، قال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (5/ 230، ط. دار الغرب الإسلامي): [فرع: وفي "الجواهر": ولا يشترط قبض رأس المال في المجلس، ولا يفسد العقد بتأخيره بالشرط اليوم واليومين والثلاث] اهـ.
وقال العلامة خليل في "التوضيح" (5/ 340، ط. مركز نجيبويه): [وهو تأخير رأس مال السلم، وهذه المرتبة أخف المراتب؛ لأنهم أجازوا التأخير فيه بلا شرط ثلاثة أيام على المشهور] اهـ.
ووجه مشروعية القول بتأخير الثمن في عقد السلم لثلاثة أيام، أنَّه وإن كان تأخيرًا ظاهرًا إلا أنَّ هذا يعتبر في حكم المقبوض، فهو قبض حكمًا، ومن القواعد التي بني عليها القول بجواز التأخير، "أن ما قارب الشيء يعطى حكمه".
وقال الإمام الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (5/ 202): [(باب شرط السلم قبض رأس المال كله أو تأخيره ثلاثًا، ولو بشرطٍ)، (ش): أي شرطُ عقد السلم أن يكون رأس المال فيه مقبوضًا بالفعل، أو ما في حكمه، كتأخيره ثلاثة أيام، ولو بالشرط؛ إذ ما قارب الشيء يعطى حكمه، فقوله: "أو تأخيره"، عطفٌ على قبضٍ بحسب معناه؛ فبَيَّن به ما هو في حكم المقبوض، ففي كلامه الإشارة إلى أمرين أحدهما أن ما في حكم المقبوض كالمقبوض، والثاني بيان ما في حكمه] اهـ.
إلا أن المالكية قد اشترطوا لمشروعية تأخير الثمن أن يكون التأخير لكل الثمن لا بعضه، فلا يصح عقد السلم مع دفع بعض الثمن وتأخير البعض الآخر، وألا يزيد أجل تسليم المسلم فيه عن ثلاثة أيام، وألا يؤجل إلى وقت استلام المبيع؛ تجنبًا للوقوع في بيع الدين بالدين.
قال العلامة أبو الحسن المنوفي في "كفاية الطالب الرباني" (2/ 178-179، ط. دار الفكر، ومعه "حاشية العدوي"): [وأشار إلى أحد شروط رأس مال السلم بقوله: (ويعجل رأس المال) يعني جميعه؛ لأنه متى قبض البعض وأخر البعض فسد؛ لأنه دين بدين، ونبه بقوله: (أو يؤخره) أي رأس مال السلم (إلى مثل يومين أو ثلاثة) على أنه لا يشترط قبضه في المجلس، بل إذا عقد السلم على النقد وأخر قبض رأس مال السلم اليومين أو الثلاثة جاز، ولا يخرج بذلك عن كونه معجلًا] اهـ.
وقال العلامة الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (5/ 202): [عند إرادة التأخير لا بد أن يكون ثلاثة أيام، وهذا ما لم يكن أجل السلم كيومين، وذلك فيما إذا شرط قبضه ببلد آخر، وإلا فيجب أن يقبض رأس المال في المجلس أو بالقرب منه] اهـ.
وقال الشيخ زروق في "شرح الرسالة" (2/ 761، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يجوز دين بدين وتأخير رأس المال بشرط إلى محل السلم أو ما بعد من العقدة من ذلك)، يعني أن تأخير رأس مال السلم بشرط إلى محل القبض من باب دين بدين؛ لأنه داينه بالمبيع على أن يداينه بالثمن] اهـ.
بناءً على ذلك، وفي واقعة السؤال: فإن المعاملة الواردة في السؤال من قبيل عقد السلم، ولا تصح بصورتها المذكورة، وتصحيحها يكون بدفع كامل الثمن عند الاتفاق كما هو الأصل في السلم، أو بتأخير كامل الثمن فيما لا يزيد عن ثلاثة أيام مع مراعاة وجوب عدم توافق زمن تسليم الثمن مع زمن تسليم المبيع أخذا بقول المالكية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.