هل الازدحام الشديد يعدُّ عذرًا مرخصًا للتوكيل في رمي الجمرات؟ وفقني الله تعالى لأداء مناسك الحج، وأعلم أن هناك ازدحامًا شديدًا في رمي الجمرات؛ فهل يُعد هذا الازدحام عذر يُبيح لي أن أنيب أحدًا في رمي الجمرات عني؟ أرجو الإفادة وجزاكم الله خيرًا.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الازدحام الذي لا يحتمل عادة ويرتب مشقة خارجة عن المعتاد يعدّ عذرًا مرخصًا للتوكيل في الرمي ولا يلزم الموكِّل دم.
المحتويات
المقصود بالرمي في باب الحج عند الفقهاء: القذف بالجمرات وهي الحصاة الصغيرة، في زمانٍ مخصوصٍ، ومكانٍ مخصوصٍ، وعددٍ مخصوصٍ، كما في "بدائع الصنائع" للإمام علاء الدين الكاساني (2/ 137، ط. دار الكتب العلمية).
وقد أجمع الفقهاء على أن رمي الجمرات واجبٌ من واجبات الحج، يلزم من تركه بدون عذر فدية؛ قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 255، ط. وزارة الأوقاف بدولة المغرب): [أجمع العلماء على أن من فاته رمي ما أمر برميه من الجمار في أيام التشريق حتى غابت الشمس من آخرها وذلك اليوم الرابع من يوم النحر وهو الثالث من أيام التشريق فقد فاته وقت الرمي ولا سبيل له إلى الرمي أبدًا، ولكن يجبره بالدم أو بالطعام على حسب ما للعلماء في ذلك من الأقاويل] اهـ.
من المقرر شرعًا أنَّ الأصل في العبادات البدنية أنه لا تجوز فيها النيابة، إلا ما استثناه الشرع الشريف، ومن ذلك الحج؛ فهو قابلٌ للنيابة عن الغير إذا كان صاحب عذر، فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "أنَّ امرأةً قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" أخرجه الشيخان.
وإذا كان الحج في عمومه يقبل الإنابة فكذلك واجباته، وفي هذا المعنى يقول إمام الحرمين الجويني في "نهاية المطلب في دراية المذهب" (4/ 327، ط. دار المنهاج): [ومن المقاصد أن الناسك لو عجز عن الرمي بنفسه، فله أن ينيب غيرَه مناب نفسه؛ فإن الاستنابة إذا جرت في أصل الحج، فجريانها في أبعاض المناسك غيرُ ممتنع] اهـ.
والأصل أن الحاج هو الذي يباشر الرمي بنفسه ما دام قادرًا عليه بحيث لو تركه بدون عذر لزمته الفدية، إلا أنه يجوز له عند وجود عذرٍ أنْ يُنيب غيره فيه، ولا فدية عليه حينئذٍ عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، خلافًا للمالكية الذين ذهبوا إلى وجوب الدم على العاجز لعدم مباشرة الرمي بنفسه، وغاية جواز الإنابة هي سقوط الإثم عن العاجز، والدم دم جبران لترك النسك وهو الرمي بالنفس، فإن عجز عنه صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فإن لم يصم الثلاثة في الحج صام العشرة إذا رجع، إن شاء وصلَ الثلاثة بسبعة أو لم يصل.
قال العلَّامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 137): [سواء رمى بنفسه أو بغيره عند عجزه عن الرمي بنفسه كالمريض الذي لا يستطيع الرمي فوضع الحصى في كفه فرمى بها أو رمى عنه غيره؛ لأنَّ أفعال الحج تجري فيها النيابة كالطواف والوقوف بعرفة ومزدلفة] اهـ.
وقال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار" (2/ 512، ط. دار الفكر): [(قوله: لا شيء عليه) وكذا كل واجبٍ إذا تركه بعذر لا شيء عليه؛ كما في "البحر"] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/ 280، ط. دار الغرب الإسلامي): [الأعمال البدنية لا تدخلها النيابة؛ لكن لما قال بعض السلف يرمى عنه فعل ذلك استحبابًا ووجب الدم لترك النسك، ويرمي عنه من قد رمى عن نفسه] اهـ.
وقال العلَّامة الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (2/ 48، ط. دار الفكر): [(ويستنيب) العاجز من يرمي عنه، ولا يسقط عنه الدم برمي النائب، وفائدة الاستنابة سقوط الإثم، (فيتحرى) العاجز (وقت الرمي) عنه، (ويكبر) لكل حصاة، كما يتحرى وقت دعاء نائبه ويدعو، (وأعاد) الرمي (إن صح قبل الفوات) الحاصل (بالغروب من) اليوم (الرابع)، فإن أعاد قبل غروب الأول فلا دم، وبعده فالدم] اهـ.
وقال الإمام أبو بكر ابن يونس التميمي المالكي في "الجامع لمسائل المدونة" (5/ 599، ط. دار الفكر): [وكل هدي وجب على من تعدى ميقاته، أو تمتع، أو قرن، أو أفسد حجه، أو فاته الحج، أو ترك الرمي، أو النزول بالمزدلفة، أو نذر مشيًا فعجز عنه، أو ترك شيئًا من الحج فجبره بالدم، فله إذا لم يجد هديًا صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع... فإن لم يصم الثلاثة الأيام حتى مضت أيام التشريق صام بعد ذلك إن شاء وصل الثلاثة بسبعة أو لم يصل] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع شرح المهذب" (8/ 245، ط. دار الفكر): [استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج. قالوا: والرمي أولى بالجواز] اهـ.
وقال أيضًا في (8/ 243): [قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب من يرمي عنه؛ لما ذكره المصنف، وسواء كان المرض مرجو الزوال أو غيره؛ لما ذكره المصنف، وسواء استناب بأجرة أو بغيرها وسواء استناب رجلًا أو امرأة] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 427، ط. مكتبة القاهرة): [إذا كان الرجل مريضًا أو محبوسًا أو له عذر، جاز أن يستنيب من يرمي عنه] اهـ.
من الأعذار المعتبرة في ترك واجب من واجبات الحج الزحام الشديد الذي لا يتحمل، فقد اعتبره جمهور الفقهاء عذرًا في ترك المبيت بمزدلفة، وتأخير الرمي، وهو عذر يشمل الرجال والنساء.
قال العلَّامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (2/ 511-512، ط. دار الفكر، ومعه "حاشية ابن عابدين"): [(ثم وقف) بمزدلفة، ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولو مارًّا كما في عرفة؛ لكن لو تركه بعذرٍ كزحمة بمزدلفة لا شيء عليه] اهـ.
وقال العلَّامة ابن عابدين الحنفي مُحشِّيًا عليه: [قوله: (كزحمة) عبارة "اللباب" إلا إذا كان لعلة أو ضعف أو يكون امرأة تخاف الزحام فلا شيء عليه. اهـ. لكن قال في "البحر": ولم يقيد في "المحيط" خوف الزحام بالمرأة، بل أطلقه فشمل الرجل. اهـ، قلت: وهو شامل لخوف الزحمة عند الرمي، فمقتضاه أنه لو دفع ليلًا ليرمي قبل دفع الناس وزحمتهم لا شيء عليه؛ لكن لا شك أنَّ الزحمة عند الرمي وفي الطريق قبل الوصول إليه أمرٌ محققٌ في زماننا، فيلزم منه سقوط واجب الوقوف بمزدلفة] اهـ.
وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (2/ 289، ط. دار الفكر): [ويرخص لهم في التأخر بمزدلفة إن باتوا بها إلى ذهاب زحمة الناس، فلو قال: وتقديم الضعفة أو تأخيرهم من المزدلفة لمنى لكان أحسن] اهـ.
وقال العلَّامة البكري الشافعي في "إعانة الطالبين" (2/ 347، ط. دار الفكر): [(قوله: بعد انتصاف ليلة النحر) متعلق برمي أيضا، وهو بيان لوقت جواز رمي جمرة العقبة، أما وقت الفضيلة فبعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وهذا الرمي تحية منى، فالأولى أن يبدأ به فيها قبل كل شيءٍ، إلا لضرورة، أو عذرٍ، كزحمة، أو انتظار وقت فضيلة لمن تقدم دخوله إليها قبل ارتفاع الشمس] اهـ.
وقال العلَّامة ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 528- 529، ط. دار الكتب العلمية): [وكل ذي عذرٍ مِن مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم] اهـ. ويأتي هنا ما ذكرناه من كون الزحام في هذا الزمن مرخِّصًا في ترك المبيت بمزدلفة.
ومن المقرر شرعًا أنَّ "المشقة تجلب التيسير"، ولَمّا كان الحج من العبادات البدنية التي تشتمل على مشقة كبيرة فقد جعل الشرع مبنى أمره على التخفيف والتيسير، وهو ما دلَّ عليه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: «اذْبَحْ وَلا حَرَجَ»، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: «ارْمِ وَلا حَرَجَ»، فما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إلا قال: «افْعَلْ وَلا حَرَجٍ» أخرجه الشيخان.
فإن كان الازدحام الذي لا يتحمل عذرًا معتبرًا في ترك واجبات الحج فهو أيضًا عذرٌ معتبر يبيح الإنابة فيه، ولا يعترض على هذا بأن أعمال الحج عادةً لا تخلو من المشقة والزحام؛ فإنه يجب التفرقة بين المشقة المعتادة والزحام المحتمل من ناحية والمشقة الشديدة والزحام غير المعتاد الذي قد يترتب عليه مشقةٌ لا تحتملُ أو ضررٌ أو هلاكٌ من ناحية أخرى، فالأول لا يبيح الإنابة بخلاف الثاني.
قال العلَّامة الشرواني في حاشيته على "تحفة المحتاج" (4/ 135، ط. المكتبة التجارية ومعه "حاشية الشرواني، والعبادي"): [قال "سم" -أي: ابن قاسم العبادي-: سئلت عن مريضٍ يمكنه ركوب دابةٍ إلى المرمى والرمي عليها أو أن يحمله أحد ويرمي بنفسه أو يستنيب، والذي يظهر أنَّ عليه الرمي بنفسه وتمتنع عليه الاستنابة إن لم تلحقه بذلك مشقة لا تحتمل عادة ولاق به حمل الآدمي بحيث لا يخل بحشمته، وظاهر كلامهم أنَّه لا يلزم حضور المستنيب الرمي مطلقًا] اهـ.
بناءً عليه، وفي واقعة السؤال: فإن الازدحام الذي لا يحتمل عادة ويرتب مشقة خارجة عن المعتاد يعد عذرًا مرخصًا للإنابة في الرمي ولا يلزم المنيب دم على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.