ما ضابط الحاجة الأصلية في الزكاة؟ وهل تتسع مشمولاته لأدوات الكسب؟
ضابط الحاجة الأصلية والتي تحول دون وجوب الزكاة عند الفقهاء هو ما لا يكون في وسع صاحب المال أن يوقفه للتجارة والنماء مُحافِظًا على أصله، فيدخل في مشمولات ذلك: النفقة -ومنها حاجة مَن تجب نفقته عليه شرعًا، كزوجته وأولاده-، والسكنى، والثياب بالمعروف، وكذا آلات الحِرَف والصناعة وأدوات الكسب، ونفقة عمَّاله مما لا يستغني عن خدمتهم، وما أبيح لكمال الانتفاع، كالتحلي بالذهب والتداوي بالحرير، واستعمال العطور، ونحو ذلك، وكتب العلم لأهلها، وألَّا يكون المالك مدينًا بما يستغرق المال المدَّخر أو ينقصه عن نصاب الزكاة.
المحتويات
الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي الركن التَّعبدي المالي الذي يهدفُ إلى سدِّ حاجة المحتاجين، وتحقيق معنى التعاون الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، والزكاة إنما تكون فيما فَضَلَ عن حاجة الإنسان ومَن يعوله؛ لقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: 219]، أي: ما يفضل عن أهلك؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وهو مرويٌّ أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وعكرمة، ومحمد بن كعب، وقتادة، والقاسم، وسالم، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس. أخرجه ابن أبي حاتم الرازي في "التفسير".
وعن حكيم ابن حزام رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» متفقٌ عليه.
قال العلامة شرف الدين الطيبي في "فتوح الغيب" (3/ 360، ط. جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم): [«عَنْ ظَهْرِ غِنًى» أي: ما كان عفوًا قد فَضَلَ عن غِنَى، وقيل: أراد ما فَضَلَ عن العيال، والظَّهْر: قد يراد في مثله هذا إشباعًا للكلام وتمكينًا، كأن صدقته مسندة إلى ظهرٍ قويٍّ من المال] اهـ.
وقال الإمام ابن الملقن في "التوضيح" (10/ 319، ط. دار النوادر): [معناه: أنَّ صاحبها يبقى بعدها مستغنيًا بما بقي معه لمصالحه] اهـ.
فـ"شرط المتصدق أن لا يكون محتاجًا لنفسه أو لمن تلزمه نفقته"؛ كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 295، ط. دار المعرفة)؛ على أنَّ المقصود من مشروعيَّة الزكاة هو إخراج أموال الأغنياء على وجهٍ لا يصيرون به فقراء، وإنَّما يعطوا من فَضْلِ أموالهم؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 360): [الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء] اهـ.
وحاجات الإنسان المتعلقة بالمال تتفاوت بين ما هو ضروري يلحق الإنسان بفواته ضررٌ كبيرٌ، وهو ما عبَّر عنه فقهاء الحنفية بـ"الحاجة الأصلية"، وبين ما هو حاجي لا يلحق الإنسان بفواتها كبيرُ ضررٍ، ولكنه "مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب"؛ كما قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 21، ط. دار ابن عفان)، وبين ما هو تحسيني لا يترتب عليه ضرر.
وقد نصَّ فقهاء الحنفية على أنَّ المال المشغول باستحقاق الصرف إلى حاجةٍ أصلية هو بالنسبة إلى نصاب الزكاة كالمعدوم، فلا زكاة فيه؛ إذْ لا يَصْدُق عليه أنه فضلٌ وزيادةٌ؛ لتعلقه بالحاجة الأصلية.
قال العلامةُ الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 11، ط. دار الكتب العلمية) في شروط مال الزكاة: [ومنها: كون المال فاضلًا عن الحاجة الأصلية؛ لأن به يتحقق الغنى ومعنى النعمة وهو التنعم، وبه يحصل الأداء عن طيب النفس إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيًّا عنه، ولا يكون نعمة؛ إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن، فكان شكره شكر نعمة البدن، ولا يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم"] اهـ.
ويمكن استخلاص ضابط الحاجة الأصلية أو الضرورية من كلام الفقهاء، والتي تحول دون وجوب الزكاة، من خلال الآتي:
أولًا: ما يحتاج إليها الإنسان لدفع الهلاك عن نفسه أو أهله، حقيقةً، كالنفقة، والثياب، والطعام، ودور السكنى، وما يمكن أن يستعمله في أمور حياته ومعاشه، لا من أجل التجارة فيه ونمائه، وذلك على ما ضبط به فقهاء الحنفية والمالكية المالَ المُعدَّ للحاجة الأصلية بكونه غير مُعدٍّ للنماء أو التجارة، مع إمساك أصل هذا المال بنيةِ صَرْفه إلى حاجته؛ لأنَّ ذلك دليلٌ على الحاجة له، أمَّا الإعداد للتجارة والنماء فهو دليلٌ على الفَضْلِ)، أو ما يدفع عن نفسه أو أهله الهلاك تقديرًا، كسداد الديون، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، أو ما يُلحق به ككتب العلم لأهلها، ونحو ذلك.
قال العلامةُ الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 11): [حقيقة الحاجة أمرٌ باطن لا يوقف عليه، فلا يعرف الفضل عن الحاجة، فيقام دليل الفضل عن الحاجة مقامه، وهو الإعداد للإسامة والتجارة، وهذا قول عامة العلماء] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "البناية" (3/ 303، ط. دار الكتب العلمية): [الحاجة الأصلية: ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا أو تقديرًا، كالنفقة والثياب التي يحتاج إليها لدفع الحر والبرد، وكذا إطعام أهله، وما يتجمل به من الأواني إذا لم تكن من الذهب والفضة، وكذا الجواهر واللؤلؤ والياقوت والبلخش والزمرد ونحوها إذا لم تكن للتجارة، وكذا لو اشترى فلوسًا للنفقة] اهـ.
ونقل العلَّامة ابن عابدين في "رد المحتار" (2/ 262، ط. دار الفكر) تفسير العلَّامة ابنُ مَلَك الكرماني الحنفي للحاجةَ الأصلية بأنها: [ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا، كالنفقة، ودور السكنى، وآلات الحرب، والثياب المحتاج إليها لدفع الحر أو البرد، أو تقديرًا كالدين، فإن المديون محتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب دفعًا عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وكتب العلم لأهلها؛ فإن الجهل عندهم كالهلاك] اهـ.
وقال أيضًا (2/ 262): [فإذا كان معه دراهم أمسكها بنية صرفها إلى حاجته الأصلية لا تجب الزكاة فيها إذا حال الحول وهي عنده] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/ 40-41، ط. دار الغرب الإسلامي) في شروط الزكاة: [التمكن من التنمية، ويدل على اعتباره إسقاط الزكاة عن العقار والمقتناة، فلو أنَّ الغِنى كافٍ لوجبت فيهما، ولما لم تجب دلَّ على شرطية التمكن من النماء، إما بنفس المالك أو بوكيله] اهـ.
وقال العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على كنز الراغبين" (3/ 196، ط. دار الكتب العلمية) في مشمولات الحاجة: [(ومن حاجته) أي كفايته لعمره الغالب أو بقيته ولا يعتبر عمر ممونه، ولو كان عنده كفاية ذلك وعليه ديون لم يعط حتى يصرفه فيها... وكذا آلة المحترف، وكتب العالم المحتاج إليها] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "الكافي" (3/ 375، ط. المكتب الإسلامي): [ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية، وكذلك نفقة زوجته لأنها تجب لحاجته فأشبهت نفقة نفسه، وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته] اهـ.
ثانيًا: ما يحتاج إليه الإنسان من أجل التوسعة على نفسه ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى المشقة؛ إذ الزكاة -كما ذكرنا- إنما قصد بها إعانة الفقير دون أن يكون في ذلك تضييقٌ أو إضرارٌ بالغني.
قال العلامة ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/ 155، ط. دار الفكر): [المقصود من شرعية الزكاة مع المقصود الأصلي من الابتلاء مواساة الفقراء على وجهٍ لا يصير هو فقيرًا بأن يعطي من فَضْلِ ماله قليلًا من كثير] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 67، ط. مكتبة القاهرة): [يحقق هذا أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء، وشكرًا لنعمة الغنى... وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة غيره] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (31/ 225، ط. مجمع الملك فهد): [وكلُّ ما جُوِّز للحاجة لا للضرورة كتحلي النساء بالذهب والحرير والتداوي بالذهب والحرير فإنما أبيح لكمال الانتفاع؛ لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها؛ وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع؛ فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عَوَزٌ يدعوها إلى كمالها؛ فهذه هي الحاجة في مثل هذا] اهـ.
ثالثًا: ما يحتاج إليه الإنسان من الأمور التكميلية أو التحسينية في الظاهر، لكنها مما يتوقف عليها أمرٌ ضروري، يتضرر الإنسان بفواته، فهي في حقِّه أمرٌ ضروريٌّ، ولذلك نصَّ العلماء على أنه لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان والزمرد وسائر النحاس والزجاج، وكذلك المسك والعنبر، وإن حسنت صنعها وكثرت قيمتها.
قال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (5/ 489-490، ط. المنيرية): [لا زكاة فيما سوى الذهب والفضة من الجواهر؛ كالياقوت والفيروزج واللؤلؤ والمرجان والزمرد والزبرجد والحديد والصفر وسائر النحاس والزجاج، وإن حسنت صنعها وكثرت قيمتها، ولا زكاة أيضًا في المسك والعنبر. قال الشافعي رضي الله عنه في "المختصر": ولا في حلية بحر. قال أصحابنا: معناه كل ما يُستخرج منه فلا زكاة فيه، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا، وبه قال جماهير العلماء من السلف وغيرهم] اهـ.
وقال العلامة الطاهر ابن عاشور في "حاشية التوضيح والتصحيح" (2/ 161، ط. مطبعة النهضة): [وقد يعرض للتحسين ما يُصَيِّره حاجيًّا، كما يَعْرِض للحاجي ما يُصَيِّره ضروريًّا لتوقف غيره عليه كَمَالَ التوقف] اهـ.
مقتضى ذلك: فإن آلات الصناع وأدوات كسبهم من الحاجات الأصلية للإنسان لكونها مما يتوقف عليه أمر رزقه ومعاشه الذي قد يهلك أو يتضرر بفواته، وعلى ذلك تواردت نصوص الفقهاء:
قال الإمام القُدُورِيُّ الحنفي [ت: 428هـ] في "شرح مختصر الكرخي" (ق: 137 ب/138أ، مخطوط مكتبة مراد الملا بتركيا رقم 895): [آلات الصناع التي يعملون بها وظروف أمتعة التجار، كبَرَانيِّ العطار التي لا تباع مع المتاع: فلا زكاةَ فيها؛ لأنها لم تُعَدَّ للتقليب والتصرف، فأما في نخَّاس الدوابِّ إذا ابتاع المقاود والجلال، فقد قال أصحابنا: إن كان يبيعها مع الدوابِّ، ففيها الزكاة؛ لأنها تُرصَدُ للنماء، وإن كان لا يبيعها وإنما يحفظ بها دوابَّه: فلا زكاة فيها كآلة الصانع] اهـ.
وقال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية" (1/ 96، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وليس في دور السكنى وثياب البدن وأثاث المنازل ودواب الركوب وعبيد الخدمة وسلاح الاستعمال زكاة)؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أيضا، وعلى هذا كتب العلم لأهلها، وآلات المحترفين] اهـ.
وقال العلامة القليوبي الشافعي في "حاشيته على كنز الراغبين" (3/ 196) في مشمولات الحاجة: [(ومن حاجته) أي: كفايته لعمره الغالب أو بقيته ولا يعتبر عمر ممونه، ولو كان عنده كفاية ذلك، وعليه ديون لم يعط حتى يصرفه فيها... وكذا آلة المحترف، وكتب العالم المحتاج إليها] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (2/ 282، ط. دار الكتب العلمية): [ولا زكاة في آلات الصناع، وأمتعة التجارة وقوارير العطار والسمان ونحوهم) كالزيات والعسال (إلا أن يريد بيعها) أي القوارير (بما فيها) فيزكي الكلَّ؛ لأنه مال تجارة] اهـ.
بناء على ذلك: فضابط الحاجة الأصلية والتي تحول دون وجوب الزكاة عند الفقهاء هو ما لا يكون في وسع صاحب المال أن يوقفه للتجارة والنماء مُحافِظًا على أصله، فيدخل في مشمولات ذلك: النفقة -ومنها حاجة مَن تجب نفقته عليه شرعًا، كزوجته وأولاده-، والسكنى، والثياب بالمعروف، وكذا آلات الحِرَف والصناعة وأدوات الكسب، ونفقة عمَّاله مما لا يستغني عن خدمتهم، وما أبيح لكمال الانتفاع، كالتحلي بالذهب والتداوي بالحرير، واستعمال العطور، ونحو ذلك، وكتب العلم لأهلها، وألَّا يكون المالك مدينًا بما يستغرق المال المدَّخر أو ينقصه عن نصاب الزكاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.