ما حكم إهداء ثواب الصيام للأحياء؟
المختار للفتوى أنه يجوز للمسلم إهداء ثواب الصيام للأحياء والأموات جميعًا، وسواءٌ حصل هذا الإهداء عند أداء هذه العبادة أو بعد تمامها، مع التنويه على أن الصائم إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب عمله الصالح؛ فإن ذلك يصل إليه بإذن الله تعالى باتفاق جميع الفقهاء؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.
المحتويات
الصيام عبادة من أَجَلِّ العبادات وأعظمها ثوابًا عند الله تعالى، فقد اختصَّ الله تعالى بتقدير ثواب الصائم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي» أخرجه البخاري.
وعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» أخرجه البخاري.
أما عن إهداء ثواب هذا الصيام للأحياء، وذلك بأن يصوم الإنسان تطوعًا، ثم يهب ثواب هذا الصيام لغيره، فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فذهب الحنفية والحنابلة إلى القول بجوازه ووصول ثوابه إلى من أهديت، وسواءٌ كان صيامًا أو غيره من الأعمال الصالحة -وهذا هو المختار للفتوى، وطريقة ذلك: أن ينوي إهداء ثواب الصيام عند القيام به، وزاد الحنفية أنه يجوز أن يصوم أولًا ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 212، ط. دار الكتب العلمية): [مَن صام، أو صلَّى، أو تصدَّق، وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السُّنَّة والجماعة] اهـ.
وقال العلامة ابن نجيم الحنفي في "البحر الرائق" (3/ 63، ط. دار الكتاب الإسلامي): [من صام أو صلى أو تصدَّق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة. كذا في "البدائع"، وبهذا عُلِم أنَّه لا فرق بين أن يكون المجعول له ميتًا أو حيًّا، والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه، ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره؛ لإطلاق كلامه] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (2/ 243، ط. دار الفكر): [للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صومًا أو صدقةً أو غيرها. كذا في "الهداية"، بل في زكاة "التتارخانية" عن "المحيط": الأفضل لمن يتصدق نفلًا أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم ولا ينقص من أجره شيء اهـ، هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة] اهـ.
وقال أيضًا (2/ 595) -في إهداء ثواب الأعمال للغير تعليقًا على قول الماتن: "الأصل أنَّ كلَّ من أتى بعبادةٍ ما؛ له جعْل ثوابها لغيره وإن نواها عند الفعل لنفسه لظاهر الأدلة"-: [قوله: (بعبادةٍ ما) أي: سواء كانت صلاة أو صومًا أو صدقةً أو قراءةً أو ذكرًا أو طوافًا أو حجًّا أو عمرةً، أو غير ذلك من زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء والأولياء والصالحين، وتكفين الموتى، وجميع أنواع البر] اهـ.
وقال الإمام الحجَّاوي الحنبلي في "الإقناع" (1/ 236، ط. دار المعرفة): [وكلُّ قربةٍ فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه لمسلمٍ حيٍّ أو ميت جاز ونَفَعَه؛ لحصول الثواب له حتى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تطوعٍ، وواجب تَدْخُلُهُ النيابة: كحج ونحوه، أو لا: كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة وأضحية وأداء دَين وصوم وكذا قراءة وغيرها، واعتبر بعضهم إذا نواه حال الفعل أو قبله، ويستحب إهداء ذلك فيقول: اللهم اجعل ثواب كذا لفلان] اهـ.
وقال العلامة البُهُوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 385، ط. عالم الكتب): [(وكلُّ قربة فعلها مسلم وجعل) المسلم (ثوابها لمسلم حي أو ميت حصل) ثوابها (له، ولو جهله) أي: الثواب (الجاعل)؛ لأن الله يعلمه كالدعاء والاستغفار، وواجب تدخله النيابة وصدقة التطوع إجماعًا، وكذا العتق وحج التطوع والقراءة والصلاة والصيام. قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره للأخبار] اهـ.
وقال العلامة الرُّحَيْبَاني الحنبلي في "مطالب أولي النُّهى" (1/ 936، ط. المكتب الإسلامي): [(وكل قربة فعلها مسلم وجعل) المسلم (بالنية -فلا اعتبار باللفظ- ثوابها أو بعضه لمسلم حي أو ميت: جاز، ونفعه ذلك بحصول الثواب له، ولو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، ذكره المجد. (من): بيان لكل قربة (تطوع وواجب تدخله نيابة؛ كحج) أو صوم نذره ميت (أو لا) تدخله نيابة؛ (كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة) وعتق (وأضحية وأداء دين وصوم) غير منذور، (وكذا قراءة وغيرها)] اهـ.
بينما ذهب السادة المالكية والشافعية إلى التفرقة بين إهداء الثواب للأحياء وإهدائه للأموات، فبينما اتفقوا على أنه جائزٌ للثاني، ذهبوا إلى أنَّ إهداء ثواب الصيام للأحياء غير جائز؛ لأنه مقتصرٌ على القُرُبات التي تقبل الإنابة؛ كالصدقة والدعاء، أما ما لا يقبل الإنابة كالصوم فلا يجوز إهداء ثوابه للأحياء.
قال العلامة الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (2/ 10، ط. دار الفكر): [(و) فُضِّل (تطوُّع وليِّه) أو قريبه مثلًا، يعني ولي الميت (عنه) أي عن الميت، وكذا عن الحي (بغيره) أي بغير الحجِّ (كصدقة ودعاء) وهدي وعتق؛ لأنَّها تقبل النيابة، ولوصولها للميت بلا خلاف، فالمراد بالغير: غير مخصوص وهو ما يقبل النيابة كما ذكر، لا كصوم وصلاة، ويكره تطوُّعُه عنه بالحجِّ كما يأتي، وأمَّا بالقرآن فأجازه بعضهم وكرهه بعضهم] اهـ.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (15/ 313، ط. دار الكتب العلمية): [أمَّا الصيام عن الحيِّ: فلا يجوز إجماعًا بأمر أو غير أمر، عن قادرٍ أو عاجزٍ؛ للظاهر من قول الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، ولأنَّ ما تمحَّض من عبادات الأبدان لا تصحُّ فيها النيابة، كالصلاة، وخالف الحج؛ لأنَّه لمَّا تعلق وجوبه بالمال لم يتمحَّض على الأبدان، فصحَّت فيه النيابة كالزكاة] اهـ.
بناءً على ما سبق: فالمختار للفتوى أنه يجوز للمسلم إهداء ثواب الصيام للأحياء والأموات جميعًا، وسواءٌ حصل هذا الإهداء عند أداء هذه العبادة أو بعد تمامها، مع التنويه على أن الصائم إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب عمله الصالح؛ فإن ذلك يصل إليه بإذن الله تعالى باتفاق جميع الفقهاء؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.
والله سبحانه وتعالى أعلم.