ما حكم صلاة التسابيح في أوقات الكراهة؟
يكره أداء صلاة التسابيح في أوقات الكراهة، ولا يجوز فعلها في هذه الأوقات، وإذا قام بها حينئذٍ فإنها تكون فاسدة؛ إذ هي نفلٌ مطلقٌ لا سبب له.
ولا مانع شرعًا على مذهب الشافعية من صلاتها في وقت الكراهة لمن كانت له وردًا وعادةً.
المحتويات
من المقرر شرعًا أن صلاة التسابيح من الصلوات المسنونة التي لها كيفية مخصوصة تغاير الصلاة المعروفة مع موافقتها لها في الحركات والسكنات والهيئات الظاهرة؛ بها يغفر الله تعالى الذنوب صغيرها وكبيرها، ويفرج الكروب، ويقضي الحاجات، وقد حثَّ الشرع الشريف على الإتيان بها ولو مرة واحدة في العمر.
والأصل في ذلك: ما أخرجه الإمام أبو داود في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: «يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّاهُ، أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أَحْبُوكَ، أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ، إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، عَشْرَ خِصَالٍ: أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ، قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا، فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ، فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً».
قال الشيخ ابن رسلان المقدسي في "شرح سنن أبي داود" (6/ 419-420، ط. دار الفلاح): [هذِه الصلاة لا تختص بوقت ولا سبب... قال الغزالي وغيره: يستحب أن لا يخلو الأسبوع عنها مرة واحدة أو الشهر مرة... فالخاسر المغبون من عرفها وعرف فضيلتها والحث عليها وعلى تكررها في الأيام وإلا ففي الأشهر وإلا ففي السنين -ولم يأت بها في أدنى أدنى أدنى مراتبها] اهـ.
قد نص جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة في رواية على أنها سُنَّة يُستحب الإتيان بها ولو مرة واحدة في العمر؛ لعِظَم ثوابها؛ كما في "حاشية ابن عابدين على الدر المختار" (2/ 27، ط. دار الفكر)، و"مواهب الجليل" للحَطَّاب المالكي (1/ 380-381، ط. دار الفكر)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني الشافعي (1/ 458، ط. دار الكتب العلمية)، و"مصابيح السُّنَّة" للبَغَوي (1/ 83، ط. دار المعرفة).
من المعلوم شرعًا أن لكلِّ صلاة وقتها؛ كالصلوات المفروضة والمسنونة، وهناك أوقات تكره فيها الصلاة، وتحديدها وضبط عددها مما اختلف فيه الفقهاء باعتبار أمرٍ في نفس الوقت، وهي خمسة أوقات -على خلافٍ بينهم وتفصيل-: ما بَعْدَ صلاة الصبح حتى تَطْلُع الشمس، وعند طُلُوعِها حتى تَتَكامل وترتفع قَدْر رُمْحٍ، وإذا استوت الشمس حتى تَزول، وبعد صلاة العصر حتى تغْرُب الشمس، وعند الغروب حتى يتكامل غروبها، وباعتبار أمرٍ في غير الوقت، وهي عشرة أوقات، وأوصلها العلامة الحصكفي إلى ثلاثة وثلاثين وقتًا. يُنظر: "الاختيار" للعلامة ابن مَوْدُود الموصلي الحنفي (1/ 40، ط. الحلبي)، "والدر المختار" للعلامة الحصفكي (ص: 55، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح الخَرَشِي على مختصر خليل" (1/ 211، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (2/ 192، ط. المكتب الإسلامي)، و"المغني" لموفق الدين ابن قُدَامة الحنبلي (2/ 80، ط. مكتبة القاهرة).
صلاة النافلة في أوقات الكراهة يكون حكمها على حالتين:
إحداهما: ما كان منها لغيرِ سببٍ، أي: تطوعًا مطلقًا؛ فقد اتفق الفقهاءُ على كراهةِ الإتيان بالنوافِل المطلقة في هذه الأوقات، بل حكى الإجماعَ على ذلك غير واحدٍ من العلماء، ومنهم الإمام النووي، حيث قال في "شرحه على صحيح مسلم" (6/ 110، ط. دار إحياء التراث العربي): [(باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها)... وأجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات] اهـ، أي: في أوقات الكراهة.
والأخرى: ما كان منها لسببٍ، أي: سبب متقدم على الصلاة، أو مقارن لها؛ كتحية مسجد، وركعتي وضوء، وصلاة استسقاء ونحوها، وقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فذهب الحنفية والمالكية إلى كراهة فعلها، كما في "بدائع الصنائع" للعلامة الكاساني (1/ 296، ط. دار الكتب العلمية)، وفي "التبصرة" للإمام اللخمي (1/ 385، ط. أوقاف قطر).
وذهب الشافعية والحنابلة إلى مشروعية فعلها بلا كراهةِ، ينظر: "الإقناع" للإمام الخطيب الشربيني الشافعي (1/ 161، ط. دار الفكر)، و"منتهى الإرادات" لتقي الدين ابن النجار الحنبلي (1/ 384-385، ط. دار النوادر).
والفرقُ بين ما له سبب مِن النوافِل وما ليس له سببٌ يظهر في أنَّ الشرع الشريف لم يخص التنفل المطلق بوضعٍ وشرعيةٍ وإنما يأتي به الانسانُ ابتداء مِن تلقاء نفسه، كما جاء في "فتح العزيز" للرافعي (3/ 109، ط. دار الفكر).
إذا تقرر ذلك فيُعلم منه الحكم في صلاةِ التسابيح في أوقات الكراهة -كما هي مسألتنا- فيُكره فعلها في أوقات الكراهة باتفاق، وإذا قام الشخص بها فإنها تكون فاسدةً، كما جاء في "فتح المعين" لزين الدين المليبارِي الشافعي (1/ 142، ط. دار الفكر، ومعه "حاشية إعانة الطالبين")، واستثنى الشافعية من ذلك حالة أن يتخذها الشخصُ وِردًا وعادة، كما يفيده ظاهر عبارة الإمام النووي في "المجموع" (4/ 170، ط. دار الفكر).
بناءً على ذلك: فإنه يكره أداء صلاة التسابيح في أوقات الكراهة، ولا يجوز فعلها في هذه الأوقات، وإذا قام بها حينئذٍ فإنها تكون فاسدة؛ إذ هي نفلٌ مطلقٌ لا سبب له.
والله سبحانه وتعالى أعلم.