ما أثر سماع الفحش من القول على أجر الصوم؟
ما يَعرِض للصائم من سماعِ كلامٍ فاحشٍ وألفاظٍ بذيئةٍ ليس من مفسدات الصوم عند جمهور الفقهاء، ولا تأثير له في صحةِ الصوم، وإن كان ذلك يُعرِّضه للإثم وانتقاص ثواب صومه، ويُخشى عليه من ضياع الأجر؛ إذ اجتناب ذلك كله من مقتضيات المحافظة على العبادة وكمالها.
المحتويات
الصوم إمساك مخصوص عن شَهْوَتَيِ الفَمِ والفَرْجِ، أو ما يقوم مقامهما، في جميع أجزاء النهار، بنيَّةٍ قبل الفجر أو معه إن أمكن، فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد، كما في "الذخيرة" للإمام القَرَافِي المالكي (2/ 485، ط. دار الغرب الإسلامي).
للصيام آدابٌ يجب على الصائم أن يتحلى بها، منها: أن يجتنب الفُحشَ في القول والفعل، وأن يحفظ بصره عن النظر للمحرمات، وأذنه عن الاستماع إليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ» أخرجهما الإمام البخاري في "صحيحه".
فهذه الأخلاق وإن كان من الواجب على المسلم أن يتحلَّى بها في كلِّ وقت؛ إلا أنها في الصيام آكد من غيره.
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (4/ 24، ط. مكتبة الرشد): [قال الداودي: تخصيصه في هذا الحديث ألا يرفث ولا يجهل -وذلك لا يحل في غير الصيام- وإنما هو تأكيدٌ لحرمة الصوم عن الرفث والجهل... فينبغي للصائم أن يُعَظِّمَ من شهر رمضان ما عظَّم الله ورسوله، ويعرف ما لزمه من حرمة الصيام] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (6/ 356، ط. دار الفكر): [(وقول) المصنف ينبغي للصائم أن ينزِّه صومه عن الغيبة والشتم، معناه: يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره للحديث، وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضًا ويؤمر به في كل حال، والتنزه التباعد] اهـ.
الفُحش هو التحدث بما هو مستقبحٌ وفيه بذاءةٌ بألفاظٍ ظاهرةٍ معروفةٍ يستخدمها أهلُ الفساد؛ كما عبَّر بذلك الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/ 122، ط. دار المعرفة) حيث قال في تعريف الفُحش: [فأما حده وحقيقته: فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عباراتٌ صريحةٌ فاحشةٌ يستعملونها فيه، وَأَهْلُ الصَّلَاحِ يَتَحَاشَوْنَ عَنْهَا، بل يكنون عنها ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقربها ويتعلق بها] اهـ.
فيجب على المسلم أن يكون حسن الخُلُق، طيب اللسان في كل وقتٍ وحال؛ فعن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» أخرجه التِّرْمِذِيِّ في "سننه". وفي الحديث عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ» أخرجه مسلم في "صحيحه"، وعنها أيضًا رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْ كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ رَجُلًا يَمْشِي فِي النَّاسِ؛ لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْنِي فَحَّاشًا» رواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق".
وعن مسروق أنه قال: كنا جلوسًا مع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يحدثنا إذ قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وإنه كان يقول: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا» رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" واللفظ للبخاري.
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (15/ 78، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه الحث على حسن الخلق وبيان فضيلة صاحبه وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه، قال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق: بذل المعروف، وكف الأذى، وطلاقة الوجه] اهـ.
أمَّا الاستماع للبذيء من القول، فذلك مما حذرت منه الشريعة، حيث أمرت بمجانبة أهل الفسق واللوم، والإعراض عما يصدر من حديثهم وعدم التلبس بفعلهم؛ وذلك لعدم اعتيادِ أخلاقهم وفحش قولهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الْفُرْقَانِ: 72].
قال الإمام الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" (23/ 261، ط. دار إحياء التراث العربي): [إنه سبحانه وتعالى مدحهم بأنهم يعرضون عن هذا اللغو، والإعراض عنه: هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه، وعلى هذا الوجه قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾] اهـ.
وغنيٌ عن البيان أن المسلم يكون مرتكبًا لمعصيةٍ إذا تكلم بفُحشٍ، كغيبةٍ وما في معناها، ويتأكد ذلك في حقه إذا كان صائمًا، إلا أن صومه يقع صحيحًا ولا يُطالب بالقضاء، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك مع الإثم، وخشية التعرض لضياع الأجر.
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (4/ 24): [واتفق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطره السب والشتم والغيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزه صيامه عن اللفظ القبيح، وقال الأوزاعي: إنه يفطر بالسب والغيبة، واحتج بما رُوي أن الغيبة تفطر الصائم، قال ابن القصار: معناه أنه يصير في معنى المفطر في سقوط الأجر، لا أنه يفطر في الحقيقة] اهـ.
ووقوع الصوم صحيحًا مع فعلِ منهيٍ عنه كالغيبة وما في معناها من المشاتمة والفُحش، لا يمنع من وقوعِ صاحبها في المعصية الموجبة للإثم -كما بينَّا سابقًا- وكذلك نقصان الثواب أو ضياعه.
قال العلامة الدمياطي الشافعي في "إعانة الطالبين" (2/ 282، دار الفكر): [إذا لم يكف لسانه عن ذلك -بأن اغتاب مثلًا- حصل الإثم المرتب على الغيبة في نفسها للوعيد الشديد عليها، وحصل بمخالفته أمر الندب بتنزيه الصوم عن ذلك إحباطَ ثوابِ الصومِ زيادةً على ذلك الإثم] اهـ.
وقال الشيخ زَرُّوق المالكي في "شرحه على متن الرسالة" (1/ 465، ط. دار الكتب العلمية) في بيان ما يترتب على الغِيبة أثناء الصيام: [قال علماؤنا: تَذهَب بثواب صيامه، لا أنها تُفسده في الحُكم بحيث يَلزمه، فإنَّ ذلك ليس بمقصودٍ بإجماع السَّلَف رضي الله عنهم] اهـ.
ويجري السماع من الصائم للفحش وبذيء الكلام وقبيح الألفاظ، مجرى فعل اللسان في تجنب الفحش ووجوب هجره، فالسماع إحدى الأدوات الباعثة على إظهار المسموع، فإذا كان المسموع منكرًا لفُحشِه فالباعث على سماعه منكرًا أيضًا.
قال الإمام الماوردي في "أدب الدنيا والدين" (ص: 284، ط. دار مكتبة الحياة): [كانوا إذا ذكروا الفروج كَنّوا عنها، وكما أنه يصون لسانه عن ذلك فهكذا يصون عنه سمعه، فلا يسمع خناءً ولا يصغي إلى فحش، فإن سماع الفحش داعٍ إلى إظهاره وذريعة إلى إنكاره، وإذا وجد عن الفحش معرضًا كف قائله، وكان إعراضه أحد النكيرين، كما أن سماعه أحد الباعثين] اهـ.
فيجب على الصائم أن يكف سمعه عن التلبس بما هو محرمٌ شرعًا، حتى إن بعض الفقهاء قد رغب للصائم الكف عن التمتع بالشهوة المباحة، كالتلذذ بالسمع والنظر والشم.
قال العلامة العدوي في "حاشيته على كفاية الطالب الرباني" (1/ 458، ط. دار الفكر): [(قوله: قيل ينبغي... إلخ) الأولى أن يقول: قيل ينبغي بمعنى يستحب، وقيل بمعنى يجب ولا معارضة بين القولين، فيحمل من قال بالوجوب على الكف عن المحرم، ومن قال بالندب على الكف عن غير المحرم كالإكثار من الكلام المباح، (قوله: من عطف العام على الخاص) الأولى أن يقول من عطف الكل على الجزء (قوله: السمع... إلخ) أراد بالسمع الأذن، وبالبصر العين؛ لأنهما اللذان من الجوارح] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح المنهج" (2/ 329، ط. دار الفكر، ومعه حاشية الجمل): [(و) ترك (شهوة) لا تبطل الصوم كشم الرياحين والنظر إليها لما فيها من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم] اهـ.
قال العلامة الجمل في "الحاشية" مُعلِّقًا على قوله: (وشهوة): [أي: من المسموعات وَالْمُبْصَرَات والمشمومات والملابس؛ إذ ذاك سر الصوم ومقصوده الأعظم لتنكسر نفسه عن الهوى، وَيَقْوَى عَلَى التَّقَوِّي بكف جوارحه عن تعاطي ما يشتهيه] اهـ.
فإذا كان الكف عن الشهوة المباحة من مسموعٍ ومشمومٍ ومُبْصَرٍ هو من سنن الصوم ومرغباته رغم أنه مباح؛ فمن باب أولى وجوب الكف عما هو منهي عنه منهما.
بناء على ذلك: فإن ما يَعرِض للصائم من سماعِ كلامٍ فاحشٍ وألفاظٍ بذيئةٍ ليس من مفسدات الصوم عند جمهور الفقهاء، ولا تأثير له في صحةِ الصوم، وإن كان ذلك يُعرِّضه للإثم وانتقاص ثواب صومه، ويُخشى عليه من ضياع الأجر؛ إذ اجتناب ذلك كله من مقتضيات المحافظة على العبادة وكمالها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.