ما حكم وضع مريض القلب حبة تحت اللسان في نهار رمضان لعلاج الذبحة الصدرية؟ فأنا أعاني من ذبحة صدرية وأحيانًا -حالَ الصيام- تأتيني النوبةُ، فأحتاج إلى وضع حبة دواء تحت اللسان من أجل عودة الأمور إلى طبيعتها؛ فهل يفسد ذلك الصوم؟
تناول المريض الصائم للأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان أثناء النهار غير مفسد للصوم ما لم يدخل شيءٌ من الدواء إلى حلقه قبل ذوبانه وامتصاصه، على أن يحترز أن تسبق منه بعينها إلى حلقه، وأن يلفظ ما قد يتبقى من فتات القرص -إن وُجِدَ- بعد ذلك إلى الخارج ولا يبتلعه.
المحتويات
أمراض الذبحة الصدرية عبارة عن: آلام حادة في القفص الصدري، تحدث عندما لا تحصل عضلة القلب (Myocardium) على كمية كافية من الدم الغني بالأكسجين، وذلك بسبب مشكلة في الشريان التاجيِّ (Coronary Artery)، ويتم علاجها بتناول الأدوية الموسعة للشرايين والأوردة خاصة الأقراص الدوائية التي توضع تحت اللسان وتُمتَص عن طريق الأوردة الدموية والمسام من اللسان إلى القلب مباشرة؛ لزيادة كمية الدم المزودة لعضلة القلب.
يُنظر: تقرير "التوعية الصحية بأمراض القلب"، منشور عبر الموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية (WHO) بتاريخ 17 مايو 2017م، و"أمراض القلب وشرايينه التاجية" للدكتور أيمن أبو المجد (ص 19-22، ط. دار الشروق)، و"الذبحة الصدرية والنوبات القلبية" للدكتور كريس دايفيدسون- ترجمة مارك عبود (ص 4، ط. دار المؤلف).
من المقررات الطبية أنَّ عددًا من الأدوية التي تُعطى عن الفم أو الطريق الشدقي (Buccal Route) تسري إلى الأوردة الدموية مباشرة دون اشتراط لبلعها أو دفعها بالريق للداخل عبر القناة الهضمية؛ لأن سريانها إلى الدم يكون عن طريق الامتصاص (Absorption) عبر ما يُعرف بـ"تحت اللسان" وهي طية أو غدة تقع على الخط الناصف تصل بين السطح السُّفْلي للسان وأرضية الفم، كما تقع على كلِّ جانب من لجيم اللسان حُلَيمة صغيرة تقع على أعلاها فتحة قناة الغدة تحت الفك السفلي، ويمتد من الحُلَيمة حافة مدورة من الغشاء المخاطي الذي من خصائصه التشريحية أنه غشاء رقيق وشفاف يُرى منه الأوردة الدموية، وله خاصية شبه النفاذية التي تسمح بمرور بعض المواد.
ينظر: "التوضيح في أصول التشريح" للدكتور/ يوحنا ورتبات (ص: 498، ط. بيروت عام 1871م)، و"علم التشريح السريري (سنل)" (3/ 158-159، ط. دار القدس للعلوم).
ويظهر من ذلك أن هذه الأدوية التي توضع تحت اللسان لا تؤثِّر على صحة صوم المرضى حال تناولها أثناء النهار، ما لم يدخل شيءٌ من الدواء إلى الحلق قبل ذوبان القرص المتناول وامتصاصه، على أن يَلْفِظَ المريض ما يتبقى من فتاتٍ في فمه بعد ذلك إلى الخارج ولا يبتلعه.
وذلك لما تقرر عند جماهير الفقهاء أن للفم حكم الظاهر؛ فلا يفسد الصوم بمجرد وصول المفطر إليه دون أن يصل بعينه إلى الجوف؛ حيث قالوا بعدم فساد الصوم بإمساك شيءٍ فيه أو بتذوق الطعام أو بمضمضة، ونحو ذلك، كما أن "اللسان -كيفما تَقَلَّب- معدودٌ من داخل الفم" كما قال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (6/ 390، ط. دار الفكر).
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 93، ط. دار المعرفة): [وإذا ذاق الصائم بلسانه شيئًا، ولم يدخل حلقه: لم يفطر؛ لأنَّ الفطر بوصول شيء إلى جوفه، ولم يوجد، والفم في حكم الظاهر؛ ألَا ترى أن الصائم يتمضمض فلا يضره ذلك] اهـ.
وقال العلامة سراج الدين الغزنوي الحنفي في "الغرة المنيفة" (ص: 26، ط. مؤسسة الكتب الثقافية): [والفم له حكم الظاهر من وجهٍ وحكم الباطن من وجهٍ، بدليل أن المضمضة لا تفسد صومه، وكذا لو بلع بصاقه لا يفسد صومه أيضًا عملًا بالشبيهين] اهـ.
وقال العلَّامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 135، ط. دار الفكر): [وداخل الفم له حكم الظاهر] اهـ.
وقال الإمام الرافعي الشافعي في "الشرح الكبير" (6/ 392، ط. دار الفكر): [داخل الفم له حكم الظاهر] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (2/ 357، ط. المكتب الإسلامي): [داخل الفم والأنف إلى منتهى الغلصمة والخيشوم له حكم الظاهر من بعض الوجوه، حتى لو خرج إليه القيء وابتلع منه نخامة، أفطر، ولو أمسك فيه شيئًا لم يفطر... وله حكم الباطن من حيث إنه لو ابتلع منه الريق لا يفطر، ولا يجب غسله على الجنب] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 123، ط. مكتبة القاهرة): [الفم في حكم الظاهر لا يبطل الصوم بالواصل إليه] اهـ.
كما أنها تدخل دخولًا أوليًّا فيما قرره فقهاء الحنفية مِن عدم فساد صوم مَن ذاق شيئًا من الأدوية أو مصها ولو عامدًا؛ بجامع أن محلَّ عملِ كلٍّ الفم دون دخول شيءٍ مِن عينها في جوفه.
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 63): [مَن ذاق شيئًا من الأدوية المُرَّة يجد طعمه في حلقه، فهو قياسُ الغبار والدخان] اهـ.
وقال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 99، ط. دار الكتب العلمية): [ولو مص إهليلجة فدخل الماء حلقه، قال: لا يفسد صومه، ذكره في "الفتاوى"] اهـ.
وقال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 396، ط. دار الفكر): [(قوله: كطعم أدوية) أي لو ذاق دواء فوجد طعمه في حلقه، زيلعي وغيره. وفي "القهستاني": طعم الأدوية وريح العطر إذا وجد في حلقه: لم يفطر؛ كما في "المحيط". (قوله: ومص إهليلج) أي: بأن مضغها فدخلَ البصاق حلقه ولا يدخل من عينها في جوفه لا يفسد صومه؛ كما في "التتارخانية" وغيرها] اهـ.
والإهليلج: عِقِّيرٌ مِنَ الأَدوية طعمه مُرٌّ، وهو عبارة عن شجر ينْبت فِي الْهِنْد وكابل والصين، وثمرُهُ على هَيْئَة حب الصنوبر الْكِبَار؛ كما في "لسان العرب" (2/ 392، ط. دار صادر)، و"المعجم الوسيط" (1/ 32، ط. دار الدعوة)، وهي مما يتداوى بها كدواء مُسَهِّل -في غالب استخدامه- عن طريق مضغها في الفم ومصها لا ابتلاعها؛ كما أفاده الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 99)، والإمام ابن الجوزي في "تنوير الغبش في فضل السودان والحبش" (ص 49، ط. دار الشريف).
فإن قيل: إن فقهاء الحنفية قد قيدوا عدم فساد الصوم بمص الأدوية بـ"اليابسة" منها دون الرطبة.
قلنا: مع التسليم بكون ظاهر الرواية في المذهب على التفريق بينهما، إلا أن محققي المذهب قد نصوا على أن هذا التفريق مبناه على العادة، وأن العبرة في الفساد بتيقن الوصول سواء كان يابسًا أو رطبًا.
قال الكمال ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/ 343، ط. الحلبي): [ظاهر عبارة شمس الأئمة حيث قال: فرق في ظاهر الرواية بين الرطب واليابس، وأكثر مشايخنا على أن العبرة للوصول حتى إذا عَلِم أن اليابس وصل فسد، وإن عَلِم أن الطري لم يصل لم يفسد، إلَّا أنه ذَكَر الرطب واليابس بناء على العادة، فإنه لما بنى الفساد في الرطب على الوصول نظرًا إلى دليله عَلِم بالضرورة أنه إذا عُلم عدم الوصول لا يفسد لتحقق خلاف مقتضى الدليل ولا امتناع فيه] اهـ.
جمهور الفقهاء قد نصوا على أن ما يصل للبدن بتشرب المسام لا يفطر وإن وجد طعمه في حلقه؛ لأن الذي "وصل إليه الأثر لا العين" كما قال الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 93)، وما تفرزه المسام من الأدوية بعد امتصاصها -يصير من الريق تابعًا إليه، وقد تقرر في قواعد الفقه أن "التابع تابع"، وأنه "يُغتَفَر في الشيء ضمنًا ما لا يُغتَفَر فيه قصدًا"؛ كما قال الإمام جلال الدين السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص 117، وما بعدها، ط. دار الكتب العلمية).
قال العلامة المرغيناني في "الهداية" (1/ 120، ط. دار إحياء التراث العربي): [الداخل من المسام لا ينافي كما لو اغتسل بالماء البارد] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "منهاج الطالبين" (ص 75، ط. دار الفكر): [وشرط الواصل: كونه من منفذ مفتوح، فلا يضر وصول الدهن بتشرب المسام، ولا الاكتحال وإن وجد طعمه بحلقه] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "المنهاج القويم" (ص 246، ط. دار الكتب العلمية): ["لا يضر تشرب المسام" -بتثليث الميم- وهي ثقب البدن "بالدهن والكحل والاغتسال"، فلا يفطر بذلك وإن وصل جوفه؛ لأنه لما لم يصل من منفذ مفتوح: كان في حيز العفو، ولا كراهة في ذلك] اهـ.
ولا فرق بين مسام الجلد ومسام اللسان؛ حيث تقرر في علم التشريح أن "اللسان محاطٌ على جميع مساحتِه السائبة بغشاء مخاطي، وبناءُ الغشاء المذكور كبناء الجلد، فإنه مؤَلف من أدمة حاملة حليمات كثيرة، وبشرة تغطيها كريات سطحية. أما الأدمة فبناؤها كبناء أدمة الجلد إلَّا أنها أرقُّ وأقلُّ كثافة، وتتوزع فيها الأوعية والأعصاب التي ترسل فروعًا للحليمات." كما في "التوضيح في أصول التشريح" للدكتور/ يوحنا ورتبات (ص: 498).
فإن قيل: ما الفرق بين حبة الدواء وبين لو وضع في فمه قطعة سُكَّر أو نحوها مما يذوب؟
قلنا: الفرق بينهما ظاهر، فحبة الدواء -كما في مسألتنا- تنفذ إلى الأوردة الدموية مباشرة عند التقاء مادتها الكيميائية مع غشاء اللسان المخاطي من غير مضغٍ ولا حركة في الفم، ودون اشتراط لبلعها أو بلع الريق بعد ذوبانها -كما سبق بيانه من كلام الأطباء- بخلاف قطعة السُّكَّر ونحوها، فهي في معنى الأكل وصورته، كما أنها لا تنفذ إلى الداخل إلا عن طريق البلع إما بعينها أو بالريق المختلط بها بعد ذوبانها، ومع ذلك فإن القول بعدم فساد الصوم بتناول هذه الأقراص الدوائية يُشْترطُ فيه ألَّا يبلعها الصائم بنفسها، وأن يلفظ الفتات أو ما يتبقى منها بعد ذوبانها إلى الخارج.
وما قررناه بخصوص هذه الأقراص الدوائية -محل السؤال- هو ما قرره فقهاء الحنفية والشافعية.
قال العلامة الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (2/ 396، ط. دار الكتب العلمية) فيما يفسد الصوم وما لا يفسد: [(أو بقي بلل في فيه بعد المضمضة وابتلعه مع الريق) كطعم أدوية ومص إهليلج بخلافِ نحو سُكَّر] اهـ.
وقال العلامة ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (2/ 384، ط. دار الكتب العلمية): [وإذا مص إهليلجة يابسة، ولم يدخل عينها في جوفه لا يفسد صومه، ولو فعل هذا بالفانيد أو السكر يفسد صومه] اهـ.
وقال الإمام الرافعي الشافعي في "فتح العزيز" (6/ 392): [لو كان العلك جديدًا مفتتًا فوصل منه شيء إلى الجوف بطل صومه؛ كما لو وضع سُكَّرة في فيه وابتلع الريق بعدما ذابت فيه] اهـ.
بناءً على ذلك: فإن تناول المريض الصائم للأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان أثناء النهار غير مفسد للصوم ما لم يدخل شيءٌ من الدواء إلى حلقه قبل ذوبانه وامتصاصه، على أن يحترز أن تسبق منه بعينها إلى حلقه، وأن يلفظ ما قد يتبقى من فتات القرص -إن وُجِدَ- بعد ذلك إلى الخارج ولا يبتلعه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.