ما حكم إفطار المسافر ببلد زوجته؟ فهناك رجلٌ مقيمٌ للعملِ في موضعٍ يَبعُد عن البلد الذي تسكن فيه زوجتُه مسافةً تُقصر في مثلها الصلاة، فسافر في مأموريَّة عملٍ خلال شهر رمضان، سَنَحَت له فيها فرصةٌ فمرَّ على زوجته، ومكث عندها يومين لَم يَنْوِ فيهما الإقامة، واستمر فيهما على فِطره آخِذًا برخصة السفر، ثمَّ أكمل سَفَرَه، ويسأل: ما حكم ما فعله مِن التَّرخُّصِ بالفِطرِ في هذين اليومين؟
انقطاع الترخُّص برُخَص السفر والعملِ بأحكامه حال مرور المكلَّف بِبَلْدَةٍ له فيها زوجةٌ أثناء السفر مِن غير أن ينوي الإقامة فيها -محلُّ خلاف بين الفقهاء، ما بين القولِ بانقطاع السفر وما يترتب على ذلك مِن انقطاع رُخَصِهِ وأحكامه، وهو مذهب الجمهور مِن الحنفية والمالكية، والشافعية في قولٍ، والحنابلة، وبين القولِ بعدم انقطاعه وما يترتب على ذلك مِن جواز الترخُّص برُخَصِهِ، وهو الأظهر عند الشافعية، والأخذُ بانقطاع السفر في هذه الحالة وما يترتب عليه مِن انقطاع رُخَصِهِ وأحكامه هو الأَوْلَى؛ خروجًا مِن الخلاف، فإن كان المكلَّف قد صَدَر منه الفعلُ فترخَّص برُخَص السفر فإن فِعله حينئذٍ محمولٌ على الصحة مِن غير إثمٍ عليه في ذلك ولا حرجٍ.
المحتويات
مِن المقرَّر شرعًا أن مَن بلغ سَفَرُه مسافةً تُقصَر فيها الصلاة، فإنَّ له أن يَتَرَخَّص بِرُخَصِ السَّفر ويَعمَل فيه بأحكامِه، مِن نحو قصر الصلاة، والفطر في رمضان، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101]، وللفقهاء في تقدير مسافة قصر الصلاة تفصيلٌ، والمفتى به أنَّها لا تَقِلُّ عن مرحلتَيْن، وتُقَدَّران بنحو ثلاثةٍ وثمانين كيلومترًا ونصف الكيلومتر.
ومِن المقرر كذلك أنَّ "كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ، وَلَا عَكْسَ"، كما قال علاء الدين المَرْدَاوِي في "الإنصاف" (2/ 333، ط. دار إحياء التراث العربي)، وذلك بإجماع الفقهاء، كما في "مراتب الإجماع" للإمام ابن حزم (ص: 40، ط. دار الكتب العلمية)، و"الإقناع في مسائل الإجماع" للإمام ابن القَطَّان (1/ 229، ط. الفاروق الحديثة).
قد اختلف الفقهاء في حكم ترخُّص المسافر برُخَص السَّفر وعمله بأحكامه -من قصر الصلاة، والفطر في رمضان، وغير ذلك- حال مروره بِبَلْدةٍ له فيها زوجةٌ مِن غير أن ينوي الإقامة -كما هي مسألتنا، وعلى تفصيلٍ بينهم في حَدِّ هذه المدة-.
فذهب فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية في قولٍ، والحنابلة إلى أنه يقطع السَّفرَ والتَّرخص، ويكون مقيمًا بحيث تنطبق عليه أحكام المقيم بمجرد وصوله إلى بلد زوجته وإن لم يَنْوِ الإقامة -على تفصيلٍ بينهم في المدة التي يصير بها المسافرُ مقيمًا-، فحينئذٍ لا يَقصُر الصلاة، ولا يُفطر في رمضان، حُكمُه فِي ذلك حُكمُ المقيم، كما في "بدائع الصنائع" للإمام علاء الدين الكاساني الحنفي (1/ 104، ط. دار الكتب العلمية)، و"التاج والإكليل" للإمام أبي عبد الله المَوَّاق المالكي (2/ 147، ط. دار الفكر)، و"روضة الطالبين" للإمام النووي الشافعي (1/ 383، ط. المكتب الإسلامي)، و"المبدع في شرح المقنع" للإمام برهان الدين ابن مُفْلِح الحنبلي (2/ 123، ط. دار الكتب العلمية).
بينما ذهب الشافعية في الأظهر إلى أن مرورَ المسافر بِبَلَدِ زوجته لا يترتب عليه قَطْعُ سفره ما دام لَم يَنْوِ الإقامةَ عندها أربعة أيام فأكثرَ، وله أن يستمر في التَّرَخُّصِ بِرُخَصِ السفر، والتي منها: الفطر في رمضان.
قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 216، ط. دار المعرفة) في مَعرِضِ ذِكر قصر المسافر للصلاة مع مرورِه في سفره على مواضع له تعلُّقٌ بها كزوجةٍ أو غير ذلك: [له أن يَقصُر ما لَم يُجمِعِ المُقامَ في شيءٍ منها أربعًا، وكذلك إن كان له بشيءٍ منها ذو قرابةٍ، أو أصهار، أو زوجةٌ، ولَم يَنْوِ المُقامَ في شيءٍ مِن هذه أربعًا، قَصَرَ إن شاء، فقد قَصَرَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه عام الفتح، وفي حَجَّتِهِ، وفي حَجَّةِ أبي بكر رضي الله عنه، ولعددٍ منهم بمكة دارٌ أو أكثر، وقرابات، منهم: أبو بكر رضي الله عنه له بمكة دارٌ وقرابةٌ، وعمر رضي الله عنه له بمكة دُورٌ كثيرة، وعثمان رضي الله عنه له بمكة دارٌ وقرابةٌ، فلَم أَعْلَم منهم أحدًا أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإتمام ولا أَتَمَّ ولا أَتَمُّوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قُدُومهم مكةَ، بل حُفِظَ عمَّن حُفِظَ عنه منهم القَصرُ بها] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (1/ 383، ط. المكتب الإسلامي): [ولو حصل في طريقهِ في قريةٍ أو بلدةٍ له بها أهلٌ وعشيرةٌ، فهل ينتهي سفره بدخولها؟ قولان: أظهرهما: لا] اهـ.
وقد نصَّ الفقهاء والأصوليون على أنَّ المكلَّف له أن يقلد مَن أجاز مِن المجتهدين، وتقرر ذلك عندهم في القاعدة الفقهية: "مَن ابْتُلِيَ بشيءٍ مِن المختَلَف فيه فلْيُقَلِّد مَن أجاز"، كما في "الفصول في الأصول" للإمام أبي بكرٍ الجَصَّاص (4/ 284، ط. أوقاف الكويت)، و"شرح تنقيح الفصول" للإمام شهاب الدين القَرَافِي (ص: 432-433، ط. الطباعة الفنية المتحدة)، و"حاشية العلامة الشَّرْوَانِي على تحفة المحتاج" (1/ 119، ط. المكتبة التجارية).
كما نصُّوا على أنَّ أفعال العوام بعد صدورها منهم محمولةٌ على ما صحَّ مِن مذاهب المُجتهدين ممن يقول بالحِلِّ أو بالصِّحَّة، فإن مراد الشرع الشريف تصحيح أفعال المكلَّفين وعباداتهم مهما أمكن ذلك، فإذا صدر مِن العامِّي فعلٌ مُعيَّنٌ كَفَاهُ في الحكم بصِحَّته أن يوافِقَ أحد آراء المذاهب وأقوال المُجتهدين، وهو الذي جرت عليه الفتوى.
قال العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي -مفتي الديار المصرية الأسبق- في "الفتاوى" (1/ 225، ط. دار وهبة): [متى وافَقَ عَمَلُ العامِّيِّ مذهبًا مِن مذاهب المجتهدين ممن يقول بالحِلِّ أو بالطهارة كفاهُ ذلك، ولا إثم عليه اتفاقًا] اهـ.
بناءً على ذلك: فإن انقطاع الترخُّص برُخَص السفر والعملِ بأحكامه حال مرور المكلَّف بِبَلْدَةٍ له فيها زوجةٌ أثناء السفر مِن غير أن ينوي الإقامة فيها -محلُّ خلاف بين الفقهاء، ما بين القولِ بانقطاع السفر وما يترتب على ذلك مِن انقطاع رُخَصِهِ وأحكامه، وهو مذهب الجمهور مِن الحنفية والمالكية، والشافعية في قولٍ، والحنابلة، وبين القولِ بعدم انقطاعه وما يترتب على ذلك مِن جواز الترخُّص برُخَصِهِ، وهو الأظهر عند الشافعية، والأخذُ بانقطاع السفر في هذه الحالة وما يترتب عليه مِن انقطاع رُخَصِهِ وأحكامه هو الأَوْلَى؛ خروجًا مِن الخلاف، فإن كان المكلَّف قد صَدَر منه الفعلُ فترخَّص برُخَص السفر فإن فِعله حينئذٍ محمولٌ على الصحة مِن غير إثمٍ عليه في ذلك ولا حرجٍ.
وفي واقعة السؤال: ما فَعَلَه الرجل المذكور مِن الترخُّص بالفطر في رمضان في هذين اليومين اللذَين مَرَّ فيهما على زوجته ببلدةٍ غير التي يقيم فيها للعمل، وذلك أثناء سفره في مأمورية عمل -صحيحٌ شرعًا؛ تقليدًا لمَن أجازه مِن الفقهاء، ولا إثم عليه في ذلك ولا حرجٍ، لكن إذا تكرَّر مثلُ ذلك فالأَوْلَى له حينئذٍ أنْ يصومَ في رمضان ويُتِمَّ الصلاة ويَفعلَ ما يَفعلُ المقيمُ؛ خروجًا مِن خلاف مَن قال به مِن الفقهاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.